زكريا تامر: ولولت لأنه لم يمت قبل ثلاثين عاماً
يهرع الناس إلى تلك الأرض الشاسعة الجرداء القريبة من المدينة, بعضهم يرغب في شراء ما يحتاج إليه بأسعار رخيصة, وبعضهم الآخر يرغب في بيع ما لديه من سلع, فيعرضها آملاً أن تحظى بالرواج :
تعرض إمرأة واجمة الوجه طفلاً في الثالثة من عمره للبيع مدعيةً أنه ابنها الوحيد الذي لن تنجب غيره, وهو مطيع مهذب نظيف, يأكل قليلاً ولا يبكي ولا يصيح, وتقول المرأة لإحدى النساء الفضوليات إن ثمنه سيكون أجر العملية التجميلية التي تحتاج إليها لإصلاح ما أفسده الدهر..
ويعرض أحد السياسيين كرسياً للبيع, ويقول عنه إنه سحري, من يقعد عليه يشعر أنه سيد الدنيا..
وتعرض إمرأة مقلاة ثقيلة للبيع, وتصفها بأنها في آن واحد تستخدم في المطابخ وفي المعارك الحربية, فقد لطمت بها رأس زوجها في لحظة غضب, وسارت في جنازته مرتدية ثوباً أحمر, وولولت لأنه لم يمت قبل ثلاثين عاماً..
ويعرض شاب كتباً للبيع قائلاً عنها إنها تمنح الأجنحة لمن لا أجنحة له, وقد اكتشف الشاب في نهاية النهار أن الناس يفضلون المشي والزحف ويبغضون الطيران..
ويعرض معلم مدرسة تلاميذه البليدين للبيع بأسعار بخسة مقسماً أن الخشب قادر على التفكير أكثر منهم..
وتعرض زوجة جنرالٍ للبيع بعض غنائم زوجها في حربه المظفرة على شعبه مشترطة أن يكون المشتري أجنبياً يدفع الثمن المطلوب بغير نقاش ومساومة..
ويعرض رسام لوحاته للبيع, فلا يبيع أي لوحة, ولكنه يتلقى عروضاً لطلاء العديد من الفيلات الحديثة البناء..
ويعرض رجل ساذج حماره الكسلان للبيع, فإذا الحمار ينجح في بيع صاحبه, ويقبض ثمنه..
وتعرض إحدى الممثلات صورها للبيع, فيقال لها بتأنيب : ما دامت صاحبة الصور متاحة للبيع والإيجار, فمن هو الأحمق الذي سيشتري صوراً من ورق مصقول لا تنطق ولا تتحرك?
ويعرض السحاب أمطاره للبيع مهدداً كل من لا يبادر إلى الشراء منه بأن يعطش وتعطش أرضه وأشجاره..
ويعرض أحد الوزراء السابقين مخطوطات مذكراته للبيع, فيتنكر التاريخ في هيئة قاطع طريق, ويسلب الوزير مذكراته, ويرميها إلى النار, ويقول للوزير بحنق وازدراء : حرية التعبير حق للجميع, ومكفولة لهم كافة ما عدا خدم القتلة والطغاة وكبار اللصوص..
وتعرض إمرأة عمرها تسعون عاماً وسادتها للبيع بحجة أنها لم تعد تحتاج إليها لأن أوجاعها الغامضة تحرمها النوم وتجعل من ليلها نهاراً..
ويطوف رجل محني الظهر في أرجاء السوق عارضاً همومه للبيع, فيضحك الناس منه قائلين له إن لديهم من الهموم ما يكفيهم ويكفي أولادهم وأحفادهم..
وتعرض بنت صغيرة قطتها للبيع, وتمدح براعتها في صيد الجرذان, فيبتسم الناس بأسف, فهم يطمحون إلى امتلاك قطط مختصة باصطياد الجرذان البشرية..
ويعرض جندي سابق مبتور الساق أوسمته للبيع, فيسارع الناس إلى التحلق حول شاب يبيع مجلات ملونة ملأى بصور نساء عاريات..
وتعرض طفلة للبيع كلّ ما لديها من دمى طامعة في أن تشتري بثمنها بيتاً وسيارة وشاهدة من مرمر لقبر أمها, فيحملق الناس إليها بإشفاق ممزوج بالسخرية ممن يجهل الأسواق وأسعارها..
ويعرض شرطي متقاعد حبل مشنقة, سبق له أن شنق عشرات القتلة, فيتنافس الناس على شرائه حالمين باستخدامه للتخلص من قاتل كان يقتل دفاعاً عن بقائه في منصبه ثم بات يقتل طلباً للتسلية..
ويعرض قاض سيارته الفخمة للبيع قائلاً عنها إنها لا تنقله من بيته إلى المحكمة بل تحاول أن تنقله من أرض الحق إلى أرض الباطل, فيسارع أنصار الباطل إلى شراء السيارة بسعر خيالي..
ويعرض رجل للبيع بيتاً جميلاً تخيله, ولا وجود له, فيعجب به أحد الشعراء, ويشتريه بنقود وهمية..
ويعرض طفل أمه وأباه العجوزين للبيع, فيبتعد الناس عنه زائغي النظرات مرددين بفزع أن نهاية الدنيا قد اقتربت لا محالة .
زكريا تامر
المصدر: الثورة
إضافة تعليق جديد