خليل حاوي... شاعر الرؤيا
ما أن يُذكر اسم خليل حاوي (1919 ـــ 1982) حتى تقتحم لغته الصارمة والمتوترة ذاكرتنا، وتتعالى نبرته القيامية والسوداوية في وصف الواقع. هو أحد رواد الحداثة الكبار، لكن شعره ظل ابن الحقبة التي أُنجز فيها. هناك اتفاق على فرادة تجربته في مقابل غياب هذا الاتفاق على أهمية شعره الذي تجاوز متطلبات الكتابة الشعرية إلى البحث الفكري عن خلاص الأمة. انتماؤه إلى «الحزب السوري القومي الاجتماعي» ظل حاضراً في خلفية هذا الشعر، بل إنه استخدم الرموز السورية القديمة بإيعازٍ من أنطون سعادة مؤسس الحزب، وكتابه الشهير «الصراع الفكري في الأدب السوري». كتب حاوي القصيدة ــ الرؤيا، وكان الأكثر جدارة بتسمية «الشعراء التموزيين» التي أطلقها جبرا ابراهيم جبرا في مقالة نشرتها مجلة «شعر» سنة 1961. تميّزت قصيدته بمعجم حدسي وتراجيدي تغلب عليه الصنعة وإعادة النظر والابتعاد عن ركاكة الكلام اليومي.
لعل هذا يبرّر قلة نتاجه (ونوعيته أيضاً). أصدر حاوي خمسة دواوين صغيرة فقط. التنقيح والحذف كانا ممارسةً لصيقة بالكتابة. أراد الشاعر أن يكون «الصانع الأمهر» تيمناً بإزرا باوند الذي تلقّى هذا اللقب من ت. س. إليوت. اليوت نفسه كان حاضراً بمناخات «الأرض اليباب» في قصائد الشاعر اللبناني الذي امتلك حساً نقدياً مرموقاً إلى جانب الكتابة، وهو ما تجلّى في دراساته ومحاضراته التي حررتها الناقدة ريتا عوض، وأصدرتها بعد رحيله في كتاب «خليل حاوي: فلسفة الشعر والحضارة».
انشغل صاحب «نهر الرماد» بفكرة الوجود والانبعاث الحضاري. اشتغل على «الرمز كأساس للبناء الشعري»، حيث استخدام الرمز يجنّب الشعر «آفة التقرير والسرد»، بحسب رأي حاوي في إحدى مقابلاته. الرمز استدعى الأسطورة، لكن حاوي حصر شعره في الأساطير المحلية، بينما انفتح شعراء آخرون كالسياب وأدونيس وجبرا على أساطير العالم. التضاد بين الرماد والنهر في باكورة حاوي اختزل رؤيته إلى انحطاط شعبه، ودعوته إلى النهوض والخلاص، وهو ما ظهر بوضوح في قصيدة «الجسر» التي استثمر فيها الأسطورة التموزية كتعويذة شعرية لانبعاث الأمة من عقمها: «يعبرون الجسر في الصبح خفافاً/ أضلعي امتدت لهم جسراً وطيد/ من كهوف الشرق/ من مستنقع الشرق/ إلى شرقٍ جديد». حلم الشاعر بولادة ثانية، ولكنه عاد ليفقد حلمه في قصيدة «الكهف»: «هذي العقارب لا تدور/ رباه كيف تمطّ أرجلها الدقائق/ كيف تجمَدُ/ تستحيلُ إلى عصور». التضاد اللغوي والوجودي استمر في عناوين دواوينه التالية أيضاً: «بيادر الجوع»، «الناي والريح»، «الرعد الجريح»، «من جحيم الكوميديا». المفردات المتوترة والعنيفة في العناوين، تسربت إلى القصائد أيضاً. في قصيدة «السندباد في رحلته الثامنة»، تتوالى كلماتٌ مثل: «دم، سموم، حشرجة، هول، لعنة، حمّى ...»، بينما استحضر الشاعر في قصائد أخرى رموزاً كارثية وإعجازية كما هي الحال في «سدوم» و«لعازر» و«الخضر». ولعل انتحاره احتجاجاً على الاجتياح الإسرائيلي للبنان، كان الاستعارة الكبرى التي أغلقت دائرة حياته وشعره معاً. كأن نهايته كانت ترجمةً مباشرة للرموز الانبعاثية التي لطالما استخدمها في قصائده. خذلته رموزه مثلما خذلته أمته. حتى قيامة «لعازر» من الموت في قصيدته المعروفة، كانت قيامة مشوهة لم يستطع فيها أن يقدم إلا وجهاً وقلباً ميتين. كأن الشاعر قلّد الدور المطلوب من رموزه. عندما لم تستجب رموزه لدعواته، اضطر هو أن يصبح رمزاً، و«يموت عن نفسه وعن الجميع»، بتعبير الناقد السوري محمد جمال باروت.
غرقت قصائد حاوي في كوابيس الواقع، بحيث بات نهوضها هي صعباً، وليس نهوض الأمة وحدها. ملاحظة كهذه تفتح الباب لمساءلة معجمه الحدسي والميتافيزيقي، وشعريته المنحوتة بالصور والمجازات، وقيمة هذا الشعر وإمكانية عبوره للأزمنة، وعلاقة الشعر بالأسطورة والأفكار الكبرى. تساؤلاتٌ وموضوعات يُفترض أن تكون حاضرة اليوم في احتفالية «دار الندوة» في الذكرى الثلاثين لغيابه. كتب حاوي قصيدة ذات وحدة عضوية، وتجنّب الاستطراد والسرد. أغلب قصائده مضغوطة على عوالمها التي تضغط بدورها على القارئ، وتُرغمه على الخروج بانطباعٍ مماثل لرؤيا الشاعر. أراد حاوي أن تحلق قصيدته بجناحي الشعر والفكر معاً، لكن إثقال القصيدة بحمولاتٍ عقائدية وأسطورية رفع منسوب التنظير والأفكار في تجربته. كأن الشاعر الذي سعى إلى إحياء الأمة بشعره، قصّر في توفير حياة متواصلة لهذا الشعر. الواقع أن التقصير لا يخصّ تجربة حاوي وحدها. لقد انحسرت قصيدة التفعيلة برحيل معظم كبارها، وندرة المقبلين الجدد على كتابتها. بهذا المعنى، قد يكون شعر حاوي دفع ضريبة انحسار التفعيلة، وضريبة تفعيلته النخبوية التي لا يمكنها مجاراة التفعيلة المرنة لدى شعراء آخرين ما زالت قصائدهم حيّة ومقروءة حتى اليوم. لعل هذه الخصوصية النابذة هي التي جعلت محمود درويش يضع اسم حاوي بين الأسماء التي لا يعود إلى قراءتها. لا ننسى هنا أن «قصيدة النثر» ضيّقت المساحات أمام شعراء التفعيلة، وحوّلت أغلب تجاربهم إلى نوع من «التراث الحديث». معظم الشعراء الشبان ينظرون إلى حاوي (وإلى مجايليه أيضاً) كنوع من الماضي، فيما هم يقبلون بشراهة على كتابة النثر. ربما يقرأ بعضهم قصائد الشاعر التموزي، ولكن هذه القراءة لا تتسرب إلى نصوصهم التي تضيق ذرعاً باللغة الحدسية والموضوعات الكلية، وتحتفي بالتفاصيل المهمشة ونثريات السيرة الشخصية للشاعر ـــ المواطن لا الشاعر ـــ النبي.
ندوة خليل حاوي: 6:30 مساء اليوم ـــ «دار الندوة» (الحمرا) بيروت لبنان ــ للاستعلام: 03/734208
حسين بن حمزة
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد