حول فيلم «آخر ملوك اسكتلندا» لكافين ماكدونالد
لا تترك السينما الاميركية خيمة فوق رأس أحد. حاجتها المتواصلة الى موضوعات جديدة تجعلها تتدخل في شؤون الشعوب كيفما يحلو لها، ولا بأس اذا فضحت الكوارث الجماعية التي ساهمت احياناً في صناعتها. بات مؤكداً في الزمن الراهن ان مَن يملك الصورة يملك مفتاح السلطة، في الأقلّ سلطة أن يعلو صوته فوق صوت الجميع. ولا تستغربوا اذا شاهدتم فيلماً أميركياً، من انتاج "فوكس" و"القناة الرابعة" البريطانية، يملك القدرة على الاقناع بأن مأساة بلد افريقي صنيعة الافريقيين أنفسهم، كأن لا شأن للغرب في كل ما حصل. الانكى انهم ينجحون في إقناعك، وأنت مرتاح الضمير والبال، لأنهم يملكون الصنعة، وهي اساس كل عمل متماسك. في ظل توافر مكوّنات الحرفة، لم يعد التدقيق في التفاصيل، شأناً مهماً، لا سيما ان المتلقي العادي يتأثر بسهولة بالمعطيات التي تغوي بصيرته، وهو كائن يسهل في ظروف معينة التحكم به. الواقعية، التي هي أكبر حيلة (اكذوبة) في التاريخ الفتي لهذا الفن، لها أيضاً يد في إمرار ما لا يجوز إمراره في ظروف كثيرة. هناك من يملك موهبة تصوير الحوادث على نسق "كما لو كان (كنّا) في ساحة الحوادث"، وهذا ما تبرع فيه الافلام ذات الموازنات الكبيرة، ليصبح الخطاب شأناً ثانوياً. فما بالك اذا جاء مخرج شاطر اسمه كافين ماكدونالد، يعرف مهنته جيداً وله تجربتان ناجحتان في ربط حقائق تاريخية بالمتخيّل السينمائي ("ملامسة الفراغ" و"يوم في ايلول") ليجعل من الديكتاتور الأوغندي الاسبق عيدي أمين دادا (فوريست وايتكر)، شخصية من شخصيات أفلام الحركة أو "الثريللر"؟
يعود الشريط الى مطلع السبعينات من القرن الفائت، تحديداً 1971، ابّان الصعود الشيطاني لملاكم سابق يدعى عيدي أمين دادا، وتحوّله من "مخلّص" كان الناس في انتظاره الى "آكل لحوم بشر"، أو "جزار أفريقيا" كما سمّاه الاوروبيون في ما بعد. نوع من كاليغولا مودرن. رقيق حيناً ومسخ حيناً آخر. كان مسؤولاً عن ابادة نحو 300 ألف من الأوغنديين، وصنّفه التاريخ خلفاً لهتلر. يقترب ماكدونالد من هذه الشخصية الهائلة عبر طبيب اسكتلندي مبتدىء (جيمس ماكافوي) ينحدر من عائلة ميسورة ويقرر ذات يوم ان يمنح حياته قيمة، فيذهب الى أوغندا ويتعرف هناك في ظروف غريبة الى هذا الديكتاتور الذي سيأخذه تحت جناحه. لكن هذه الرعاية تتحول الى لعبة خطيرة يجهل الطبيب الاخرق عواقبها. أخرق وربما أكثر، لأنه يتعاطى مع "صديقه" بلا خوف أو مساءلة، رغم انه كان واضحاً ان النظام الحاكم لا يبعث على الطمأنينة. فكرة الطبيب المرتاح الى وضعه، يستفيد منها الفيلم، ليفاقم لاحقاً من حدة اكتشافه أنه في ورطة حقيقية. ثمة أشياء تستحق التوضيح: ما سرّ هذه الحماسة الاستثنائية يبديها رئيس أوغندي الى شخص اسكتلندي؟! ذلك لأن الحجج التي يأتينا بها الفيلم لتبرير هذه الحماسة غير كافية اطلاقاً. ثم لماذا لا يستطيع عيدي أمين ان يكون عطوفاً الا مع هذا الطبيب، علماً انه يعرف، بحسب رأي هذا الأخير، التاريخ الذي سيموت فيه؟
في غضون ذلك، يتعاطى المخرج مع ما يصوّره باعتباره مادة "مسروقة"، وكأن ثمة كاميرامان يقف هنا خلف باب مشقوق، يسترق النظر (مدير التصوير هو انطوني دود مانتل الذي اضاء أفلام مبتكرَي الدوغما لارس فون ترير وتوماس فينتربرغ). هكذا يتكرس همّ الواقعية الذي يرافق الكثير من السينمائيين منذ فجر السينما، ليتجلى في اعلى مستوياته في الجزء الاول من الفيلم. لكن مع دخول عامل التشويق والتوتر العالي الى الجزء الثاني، يصبح التعاطي مع الحوادث باعتبارها ريبورتاجاً حياً، مسألة معقدة. لذا، بعد نحو ساعة من البداية، لا يبقى للواقعية مكان وسط اهتمامات اخرى، كالسباق مع الزمن لترحيل الطبيب على متن طائرة مخطوفة. مسائل أخرى يسكت عنها ماكدونالد، كمسؤولية الانكليز في الاتيان بأمين، مكتفياً بالغمز حيال هذه النقطة، عبر السلوك الصبياني للطبيب ازاء المغريات. تصوير صداقة بين ديكتاتور وطبيب اسكتلندي، باعتبارها تعاوناً (أو اكثر: عمالة) فهذا جيّد، لكنه غير كافٍ لإيصال الرسالة الى الجمهور الغربي. الى ذلك، ثمة المعضلة بين الواجب المهني والاخلاق، التي تُحشَر طيّ مغامرات الطبيب الغبية والمتكررة (لا سيّما مع زوجة أمين) التي تأخذ الحصة الكبرى من اهتمام ماكدونالد، رغبة منه في أن يتماهى المتلقي مع هذا الطبيب. لكني أكرر أن قلة ذكائه تورطه في الآتي: يتخلى عنه الاذكياء من المشاهدين!
يتأخر الفيلم في اختيار مسلك سينمائي معيّن، ليس لأنه يفلت من قبضة التصنيفات، انما لأنه يمضي وقتاً قبل أن يقرر التخلي عن "مغامرات اسكتلندي في أوغندا" لحساب "مغامرات اسكتلندي مع ديكتاتور أوغندي". الانتقال من هذا الى ذاك ملفّق ولا يصدَّق بسهولة، اذ انه يرمي جانباً شخصيات في منتصف الطريق (جيليان اندرسون، مثلاً). ولا شك ان فكرة المساكنة بين شؤون الطبيب الشخصية والمشهد الأوغندي العام ليست بارعة بدورها. كذلك لا يفلح الفيلم الا متأخراً في التعبير عن حال الادارة الأوغندية، والافصاح عما يُحاك خلف الجدران، وهي الاجواء التي كانت سائدة وقتذاك. أما البعد السياسي فيجيء مسطحاً كما لو كانت الحوادث تجري في سويسرا. لم يرد كاتب السيناريو (المقتبس من رواية لجيل فودين، 1998) أن يتأرجح نصه كما جرت العادة بين حقيقة أوغندا التاريخية وقصة رجل يصل الى سدة الحكم. لكنه يعمل على اعطاء الخلفية التاريخية أهمية طفيفة واستبدالها ببضعة مَشاهد تكاد تكون سياحية، ملتقطة من سيارة، وتضاف اليها لاحقاً لقطات تُري الفرح الشعبي عقب سقوط ميلتون أوبوت، على طريقة "مات الملك عاش الملك". لا يهتم ماكدونالد بالشقّ الاجتماعي للرواية التي يأتينا بها، ولا يُرينا الا شذرات من حياة الأوغنديين، وهي تكفي لتكون موحية ومعبّرة عن الجوّ العام السائد في ذلك الحين. لا يستلهم من كل هذا التراث الانغلوسكسوني الطويل في تصوير السيَر شيئاً يستحق أن نذكره، علماً انه يظل شديد الكلاسيكية في التعاطي الفني مع موضوعه. وقد نأخذ عليه أنه تبنّى وجهة نظر طبيب غربي لا يعرف الكثير مما يحصل في أوغندا، وهذه حيلة سيناريستية اخرى لتبرير عدم الغوص في حقائق هي أفظع من إمكان تناولها في فيلم من "الستاندار" الهوليوودي.
بيد اننا نكتشف شيئاً فشيئاً ان ما يهمّ المخرج هو السلطة، وتحديداً السلطة المطلقة. لذا، يُجري علينا اختباراً ذكياً: يقدّم الينا عيدي أمين، في الجزء الاول من الفيلم، باعتباره رجلاً طيباً وطريفاً ومحباً للحياة والناس وقريباً من القلب، وذلك من خلال قهقهاته اللامتناهية، وهو الشيء الذي عُرف به بحسب الشهادات. لكننا سرعان ما نقع في شباك هذا الديكتاتور عبر لعبة أغراء شديدة الخطورة بين أطراف ثلاثة: أمين، الطبيب والمُشاهد. ويصل بنا الانجذاب حدّ أننا نتعاطف معه عندما يُنصَب له فخّ لمحاولة اغتياله. العبرة واضحة: حتى بعد أن نكون قد تداركنا الهوية الفعلية للشخصيات، فإن للسينما قدرة على تقديمها كما لو اننا لم نعرفها من قبل، ولم نسمع عنها شيئاً؛ وكما لو ان كل شيء قابل للتغيير؛ وكما لو ان كل حقيقة تقابلها حقيقة أخرى. أضيف: كما لو أن ثمة اشياء نعلم بوجودها لكن ننتظر كي تأتينا الصورة ـــ الاثبات كي نصدّقها. طبعاً، هذا سلاح فتاك يختبر ماكدونالد مفعوله في المشاهد، لا سيما حين يجعل المعطيات تنقلب رأساً على عقب، ويكشف النقاب فجأة عن حقيقة أمين... حقيقة لم نكن نجهلها قبل دخولنا الصالة، لكن كانت الكاريزما الخاصة بوايتكر تمنعنا من ان نحافظ على صفاء التفكير. وايتكر هذا، الذي يحمل الفيلم على كتفيه، ولن نقول المزيد في ادائه سوى انه يعتمد كثيراً على الاستعراض، ولا ضوابط عنده في التعبير الجسماني والوجهي. مدهش فعلاً في كيفية اخراج احساس القلق والتشويق من عينيه، وفي كيفية انتقاله من الرقة الى الغضب الشديد بطريقة ملتبسة وغامضة. تكمن سلطته التمثيلية في اضفاء البراءة على عيدي أمين وفي حملنا على التصديق بأن قيم الانسانية ليست بعيدة منه. هذا ممثل لم يعد له شيء ليثبته منذ "طير" لكلينت ايستوود و"غوست دوغ" لجيم جارموش. لكن ما يميّز دوره هنا انه يتآمر مع المخرج كي يجعلنا نقع مرة أخرى تحت تأثير طاغية (الاشكالية التي وقع فيها "سقوط" لأوليفر هيرشبيغل)، لكن الهدف نبيل هذه المرة، وفحواه التأكيد ان السقوط في مصيدة هؤلاء، يا للاسف، سهل للغاية.
هوفيك حبشيان
المصدر: النهار
إضافة تعليق جديد