حلب.. أوَّلُ رواية... آخرُ حريق
أكانَ يعني ما يقولهُ ذلك الدرويش الذي كان يقصد مقهى القصر أواخرَ الثمانينيات ظهيرة كلِّ خميس فيخطب خطبته المعتادة واقفاً وينهيها دائماً على أسماعنا بقوله: «حلب نهايتها غريق أو حريق»؟!
أم أن ما قاله الأعمى لصديقه الأعمى ـ الذي كان يعلِّمه استعمال الجوّال باللمس على رصيف جامع زكريا المزدحم ـ بعد سماعه الهتافات المنطلقة من أول تظاهرة هناك: «هبّت رياح الفتنة.. الله يستر من العواقب الوخيمة»، كان إيذاناً بالزلزال المدمّر الذي حدس به قبل وقوعه، وقبل تناسل مئات الجماعات المسلّحة والمحللين الاستراتيجيين وشهود العيان؟
لا يا حلب، ما كان لسيف الدّولة قتالَ الرّوم، وما كان للمتنبي أن يصبح الدهرُ منشداً لقصائده في بني حمدان، ولا كان للسّهروردي القتيل أن يغمس ريشته بدمه ويكتبَ وَجْدهُ بكِ وذوبانَهُ فيك وفرارَه منك إليكِ، ولا كان للنّسيمي أن يصفع قاتليه بالحقِّ، وما كان لفرنسيس المرّاش أن يبدأ عصرَ الرواية العربية بـ «غابة الحق» غيرةً عليكِ، ولا لخير الدين الأسدي أن يكتب «أغاني القبّة» ولهاً بكِ، و «الموسوعة المقارنة» وفاءً لكِ، ولا لأورخان ميسَّر وعلي الناصر أن يجترحا بواكير قصيدة النثر استجابةً لتمرُّدِكِ وعنادك، وما كان لهم الذي كان لو أن روحك لم تحلّ فيهم، ولو أن أبوابك السبعة لم تُفتح لهم، ولو أن قلعتك لم تنحنِ لهاماتهم وتُؤتمن على أسرارهم.
ما كان لهم يا حلب، يا محفلَ الأديان والإثنيات والمذاهب والطُّرق إلى الله، يا سجّادة السماء، ومعجزة الأرض، وموسيقا الحجر، وأنوثة الغواية، وتكايا التوبة، ورنين أجراس الآحاد، وعبق أذان الفجر الرخيم بصوتيّ صبري مدلل، وحسن الحفار، ما كان لهؤلاء الذين عرفوا ما فعله الغزاة بك من سلب وقتل وحرق على مدى عصور طويلة أن يتخيلوا لحظة واحدة حدوث ما يحدث الآن!
نزلاء فندق بارون
ليس لي يا حلب أن أصدق صمت أغاثا كريستي وجمال عبد الناصر ويوسف الخال وميخائيل نعيمة وأم كلثوم وعبد الوهاب وهم يسمعون أصوات القذائف التي تمطر أسرّتهم ومقاعدهم في فندق (بارون) وحديقة الشهبندر، هناك حيث أقام كلٌّ منهم، ولقي من حُبِّ أهل حلب وحفاوتهم ما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت!
كيف لي أن أصدّق أن القلوبَ قست، والضمائرَ ماتت، والمشاعرَ صدئت، والمصالحَ والأحقادَ عربدت إلى الحدِّ الذي بات فيه العالم يرى دوحةَ الجمال، وأرشيف حضارات العالم، وموئلَ عشاق الفكر والتصوّف والطرب، وملاذ الفقراء والهاربين من المجازر والمجاعات والأوبئة، تُدمَّر وتُحرَق على أيدي الغزاة الجدد وبعض أبنائها، تُدمَّر بعمرانها وأهلها وروحها وماضيها وحاضرها وليس هناك من أصحاب القرار الدولي من يوقف المحرقة!
كيف لي أن أصدِّق أن الإعلام يتعيَّش على أعراس الموت في حلب، وأن المصالح الدولية شريكةٌ في قتلها، وأن لا أحد يبالي بنشيج الأمهات وهنَّ يلملمن أشلاء أطفالهنَّ أمام فرن الميدان، ولا جفنَ يرفُّ في الأمم المتحدة لأطباء اغتيلوا في عياداتهم أمام المرضى، وأئمة جوامع أعدموا على منابرهم في خطب الجمعة، ومدرّسين اختطفوا وذُبحوا، وعمال كهرباء قُنصوا فوق الأعمدة وهم يحاولون إعادة النّور في حلكة الظلام، ونساء اغتصبن وبعن في سوق النخاسة!
أجل لا أحدَ يهتم، حتى من باب رفع العتب كما يقول الحلبيون، لا أحدَ يا محمود درويش، يا من صدحت ساخراً ذات مساء في حلب: «ندعو لأندلسٍ إن حُوصِرتْ حلبُ»! لا أحد يا لؤي كيالي سيحمي لوحاتكَ من الحريق، ولا أحد يا سعد يكن سينقذ مرسمكَ من همجيتهم، لا أحد يا ضيفة خاتون يستجيب اليوم لوقف الموت في حَلبِكِ، ولا أحدَ يمدُّها بالماء والغذاء ويحرِّرُها من الخوف والعوز كما فعلتِ أنتِ.
لم تعد تجدي النداءاتُ، ولا الَّلومُ، ولا الانتظارُ، ولا تعليقُ الآمال، إننا مسؤولون جميعاً هنا في سوريا وفي كل مدن العالم، رجالاً ونساءً وكتّابا ومثقفين وسياسيين ومدنيين عزّلاً وعسكريين عن هذا الحريق الأخير، وآن أن نرفع الصوت ونصرخ أو ننزل الميدان، فحلب الصامدة حتى اليوم بما تبقى منها ولها لن تسامحنا.
نذير جعفر: السفير
إضافة تعليق جديد