حكاية نازحة من حمص إلى دمشق: لا شيء يستحق العناء إلا ما يبقيك حيّاً
الواحدة ظهراً... الخامسة عصراً، لا يهم، في مركز الإيواء في دمشق كما في السجن، الوقت عدوٌّ لا أكثر. الفرق الوحيد أن السجين يعرف متى سيخرج.
سماء ملبدة، تنبئ بيوم ماطر أو ربما بيوم يعتصر قهراً، تماماً كما كان وجه ريم في ذلك اليوم، عندما جلست بالقرب من النافذة، تشيح بنظرها نحو السماء ربما لتخفي دموعاً.
تستجمع ريم قواها، وتأخذ نفساً عميقاً، قبل أن تعود بذاكرتها إلى نافذة منزلها في حمص، وبالتحديد إلى حيّ الورشة: كنت اعمل في مكتب محام كسكرتيرة، وأم لطفلين بعمر 5 و7 سنوات، زوجي كان موظفا في مصفاة حمص - صمت يشبه وحشة الغربة عن الوطن - تمسح ريم دمعة خانت تماسكها: «لا أريد أن أبكي»، ثم تكمل: «قُتل برصاصة قناص قبل عام أثناء عودته من عمله مع زملائه. مصابي كبير بفقده، واضطراري لمغادرة المدينة التي قضيت فيها شبابي، ولي فيها عمر من الذكريات، لكنّ اجترار المصيبة لن يغيّر من حقيقة وقوعها، لذلك أنا هنا الآن. الحيّ عمّه الخراب ولم يتبق لي أحد من أهلي الذين قضوا في قذيفة بعد وفاة زوجي بأشهر عدة ما اضطرني للخروج مع أطفالي، بالثياب التي علينا».
اضطرت ريم إلى مغادرة حمص نهائياً بعد اشتداد وتيرة المعارك فيها، وبعدما أصبح صوت الرصاص يصيبها بحالة انفعالية تفقدها القدرة على الصبر. فقدت زوجها، عملها، ثم والديها. مأساة انتهت في مدينة، لتبدأ، في مدينة غريبة عنها، حياة تصفها مجازياً بالجديدة، إلا أن ريم تدرك تماماً أن اتساخ أحلام الأطفال برائحة البارود والتعثر بألعابهم بين أكوام الدمار، جريمة لا ينصفها توصيفها باللاأخلاقية.
تسبر عينا الناظر لا إرادياً تفاصيل المكان، فتشعر وكأنك تنتهك خصوصية أولئك الأشخاص. تبتسم تلك الحزينة ابتسامة سخرية مريرة مستقرئة ذلك الإحساس بالشفقة، وتقول: «بيتي كان أجمل، لكنه تحول شأنه شأن نصف هذا الوطن إلى ركام. في الحرب، لا شيء يستحق العناء إلا ما يبقيك حيّاً فترة أطول».
تكمل ريم: «غصة هؤلاء اليتامى في حلقي تجلدني إن فكرت في الاستسلام... نعم يقيني يقول إن هناك صباحا سيأتي ونعود فيه إلى حينا».
يبدو أن ريم وولديها، كنموذج عن المقيمين في مراكز الايواء، يبحثون عن طريقة يقتلون بها الوقت قبل أن يقتلهم، فالأطفال يلتحقون صباحاً بصف الدروس التي تقدمها هيئة الإغاثة، فيما تقوم ريم بتحضير بعض الأشغال اليدوية برفقة النساء للحصول على بعض النقود لتحسين أوضاعهن. يحاول المركز تأمين كل مستلزمات النزلاء الأساسية قدر الإمكان، لكن هذا لا يعني أن هؤلاء المهجرين قسراً ينعمون بأدنى درجات الظروف الحياتية المؤاتية للإنسان.
تلتزم ريم حضور الورشات التي تقيمها بعض المنظمات والمجموعات التطوعية في المركز، ربما لتستعيد بعضاً من أملها في وجود نوع آخر للحياة بعد الكارثة، ولا نشاطات إضافية في ما تبقى من اليوم سوى الجلوس بانتظار يوم آخر.
على الرغم من انصرافهما معظم الوقت في ما يشغلهما، إلا أن الطفلين يفتقدان منزلهما، والاحساس بالاستقلالية والأمان. تستيقظ ريم مرات عدة على صوت ابنها ربيع وهو يصرخ، وأحيانا كثيرة ينادي والده. تعلّق بحسرة مريرة: «ما بعرف شو بدي أعمل... أضمه الى صدري ليعود الى نومه».
«مذ أتينا هنا قبل أشهر وإحساسي بالخوف عليهما يشغلني حتى في نومي»، تضيف ريم بشيء يشي بكارثة نفسية حقيقية. «لاحظت هنا أن معظم الأطفال باتوا يميلون إلى اختيار ألعاب قاسية، يضربون بعضهم ويصرخون في وجوه بعضهم منتحلين أدوار مجموعات تلاحق بعضها. هذا أمر لم يعتد عليه ولدايّ وأعتقد أن لما نعيشه تأثيرا على ذلك.»
الأطفال هم الطرف الأضعف في الصراعات، خاصة التي تستنفر الشارع بأحداث الشغب، لأنها تفرز أبشع ما في داخل الأفراد، ليقع الأطفال فريسة الفوضى والاضطراب الاجتماعي والنفسي، وهذا ما حصل مع ابْنَيْ ريم: ربيع ورهف. يستفزان ضعف أمهما كلما سألاها: هل سنبقى هنا طويلا؟ متى سنعود إلى بيتنا؟ إنه سؤال أصعب من أن تحتمل ريم التفكير فيه، ابنة الثلاثين عاماً، الأرملة، الوحيدة، تعجز عن تصديق أن الوطن الذي تحمل هويته، ضاق بها وبطفليها ولم يعد يتسع إلا لشواهد قبور أحبائها، لذا ستبقى تحلم وتنتظر، كما يفعل الآلاف والملايين من السوريين بالعودة يوماً إلى منازلهم.
سناء علي
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد