حكاية مخطوف سوري
منذ أسبوعين تعرّض أحد أعز أصدقائي للخطف وهو في طريقه من اللاذقية إلى حلب. كان قد استقل باصاً يضم 45 راكباً، الساعة 12 ظهراً، وقد اعترض الباص جماعة مسلحة، وهم مجموعة من الشبان المسلحين سافري الوجوه، وأمروا الركاب بالنزول من الباص، وتعاملوا مع الركاب بفظاظة وتحقير، وسألوا كل راكب عن مذهبه، ثم خطفوا معظم الركاب.
صديقي مهندس مسيحي يسكن في حلب، ولم يخطر بباله أن يتعرض للاختطاف بهذه البساطة ومن قبل حفنة من الشبان المسلحين وهم بعمر أولاده، قال لي إنه قدّر أعمار الخاطفين بين 15 و20 سنة... اقتاده الخاطفون بعد أن عصبوا عينيه إلى بناء مهجور، أو بالأحرى هجره سكانه بسبب القصف العنيف على البلاد والعباد. فاحتل المسلحون البناء المهجور وسجنوا صديقي المهندس في غرفة، هي عبارة عن قبو قذر وضيق، وانهالوا عليه بالضرب والتعذيب من دون أن يخطر ببال أي منهم أن الرجل الذي يمعنون في إذلاله وضربه وأذيته هو بعمر والدهم!
حاول صديقي المختطف أن يتحدث إليهم ورجاهم أن يعيدوا له هاتفه المحمول كي يتصل بزوجته وأقاربه ويؤمن لهم المبلغ الذي يريدونه، لكنهم قالوا له إنهم لم يتخذوا قرارهم بعد، وإنهم سيستشيرون زعيمهم الذي يلقبونه شيخهم، لينتظروا ما يفتي الزعيم، هل يفتي بذبحه أم يطلب فدية؟
تركوا الرجل ثلاثة أيام في قبو قذر مظلم، يقضي حاجاته في المكان الذي ينام فيه ومن دون طعام أو شراب، وكان طوال الأيام الثلاثة الجحيمية يسمع صوت قصف متواصل من السماء والأرض... لدرجة تيقن أنه سيموت من القصف وليس من الذبح.
بعد مضي الأيام الثلاثة حضر الخاطفون الشبان وطمأنوه أن زعيمهم لم يفتِ بذبحه بل أمر بفدية مقدارها مليونا ليرة سورية، وبدأت اتصالات الخاطفين مع زوجة المخطوف ليمهلوها يومين، كي تؤمن المبلغ وتحضره إلى المنطقة المهجورة التي يختبئون فيها...
الزوجة المسكينة أم لثلاثة أطفال، رجتهم أن يرسلوا أحداً من قبلهم لاستلام الفدية، لكنهم أصروا على أن تحضر بنفسها لتسلمهم المبلغ، وتوسلت إليهم بأن الطريق خطر، والقصف متواصل على أحياء في حلب ومحيطها، فلم يرضوا وأصروا على أن تأتي إليهم...
لم يكن من السهل تأمين هذا المبلغ، فصديقي ليس ثرياً، لكن الأقارب والأصدقاء ساهموا في تأمين المبلغ، وذهبت زوجته برفقة أخيها تحت القصف إلى المكان الذي حدده الخاطفون وسلموهم المبلغ، وانتظروا الإفراج عن المخطوف.
ما هي إلا ساعات حتى فوجئ المهندس المخطوف بدخول الخاطفين المراهقين إليه وانهالوا عليه بالضرب المبرح وهم يتهمونه بالخداع والغش، وبأنهم لم يستلموا أي مبلغ، وحين رجاهم أن يصدقوا أن زوجته سلمت المبلغ كما تم الاتفاق، قالوا: إذاً تعرضنا للخداع، وجهة أخرى هي من استلمت المليوني ليرة!
وقالوا له إن أمامه حلاً وحيداً وهو أن يؤمن أيضاً مبلغ نصف مليون ليرة ليطلق سراحه. ما من شك بأنهم لم يتعرضوا للخداع وبأنهم قبضوا المليونين، لكنهم طمعوا بالمزيد، وكان لهم ما أرادوا.
صديقي الآن على قيد الحياة، عاد إلى زوجته وأولاده في حلب، وكلهم على قيد الحياة، أصحاء الجسد ومحطمي الروح، حالهم مثل حال كل السوريين، فنحن على قيد الحياة لكن حياتنا ليست حياة، لأن الزمن السوري لم يعُد يقاس بالساعة بل بعدد القتلى.
لستُ هنا بصدد التحدث عن صديقي الذي اختطف، فمثله مئات بل ألوف، وبعضهم لم يعد لأهله سالماً، ولن أتحدث عن الانفلات الأمني الفظيع الذي ترزح تحته كل المدن والبلدات السورية، بل أكــثر ما روعني واستوقفني في حديث صديقي الذي اتصـلت به مراراً بعد نجاته سليماً من الخطف والقصف (من الأرض والســماء) أنه حزين جداً على هؤلاء الشبان المراهقين الذين هم بعمر أولاده تماماً، والذين يحملون بنادق، ويعيشون في أبنية مهدمة مهجورة، وسط خطر كبير، وقد لخصوا حياتهم بعبارة (إما قاتل أو قتيل) وإن لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب.
قال لي صديقي إنهم بعد أيام من الخطف كانوا ينزلون إلى القبو، ويقدمون له بعض الطعام والشراب، وذات مرة عرضوا عليه أن يلعب معهم طاولة زهر، فسألهم بشفقة ما الذي زج بكم في فخ الإجرام؟ وكيف تـُهينون الحياة والإنسان فيكم؟
كانوا يحدقون في وجهه وينفجرون من الضحك بصفاقة، بل إن أحدهم قال له: تكلم معنا عربي، ولك شو عم تحكي أنت «كرشوني»، شو حياة؟ وشو إنسان؟
لكن صديقي الذي استطاع أن يسمو فوق الجريمة بغريزة الأب المحب، وغريزة الفهم والمعرفة، متسلحاً بالعلم والثقافة، حاول أن يفهمهم أن سلوكهم خاطئ ومجرم وأنهم سيؤذون أنفسهم كما يؤذون غيرهم.
كانوا يضحكون ويقولون: كلنا نساوي رصاصة. كانوا مؤمنين بأنهم كما يقتلون الآخر بمنتهى البساطة برصاصة، يمكن أن يُقتلوا بمنتهى البساطة برصاصة... لم يكونوا يشعرون أبداً بمعنى الحياة وقيمتها. كانوا ينظرون لأنفسهم وللحياة بمنتهى التفاهة والاحتقار. علاقاتهم بعضهم مع بعض ومع الحياة حولهم قاسية ومتصلبة. عقولهم دُمرت بإيديولوجيات هدامة زرعت فيها. ووجودهم وإحساسهم بذاتهم، اختزل بأن يحملوا سلاحاً أو يربطوا قنبلة إلى خصرهم...
شباب مراهقون هم مجرمون بالإكراه، كانوا قبل سنوات قليلة أطفالاً! ترى ما الذي عاشوه وعاينوه وتعرضوا له من ألوان القهر والتضليل والتشويه والاستغلال حتى صاروا مجرمين؟
كل مجرم كان طفلاً بريئاً قبل أن يصير مجرماً.
قال لي صديقي إن أحد الخاطفين كان يكرر كببغاء، والله الحياة لا تساوي بصلة، وبأنه لا يطمح لا أن يحب فتاة، ولا أن يتزوج، بل لا يطمح بغير بالشهادة... وأن الحياة على الأرض تافهة وحقيرة، ويجب تطهير البلاد من الأنجاس، من إخوتنا في الإنسانية الذين أجبرهم الشياطين المتخفون، وتجار السلاح والطامعون بالثروات، أن ينظروا للآخرين كأعداء يجب ذبحهم...
المراهقون المجرمون، والخاطفون والمسلحون، والذين يقتلون بدم بارد وجاهزون ليُقتلوا بدم بارد، جاهزون ليقفزوا إلى الجنة - كما قالوا لهم - عاشوا مُحقرين مُستغلين، لم يشعروا يوماً بكرامتهم الإنسانية، ولا بقدسية الحياة.
إن فلسفتهم في الحياة هي فلسفة احتقار الذات، واحتقار الآخر، واحتقار الحياة... لم يجدوا مثلاً أعلى سوى مجرمين يفتون لهم بالذبح والسرقة والقتل... ولأن عقولهم الطرية خُربت منذ الطفولة، فقد صاروا شياطين مسعورة تقتل وتذبح.
صار العنف والإجرام الدليل الوحيد على أنهم أحياء.
ألا يتفجر السؤال القاسي الوحيد في صدورنا جميعاً نحن السوريين المنكوبين، والصابرين أكثر من أيوب: ترى ما مصير آلاف الأطفال الذين شهدوا دمار بيوتهم وشهدوا ذبح آبائهم أو أفراد من أسرتهم، أو نزحوا، وعاشوا في مخيمات!
ما مصير أطفال صُمّت آذانهم من أصوات الرصاص والقنابل وراجمات الصواريخ، أطفال ترينا إياهم الفضائيات يجمعون بقايا الرصاص من حطام بيوتهم وأحلامهم، وقرب جثث آبائهم؟
هيفاء بيطار
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد