حكايات القاهرة: ثورة «المجتمع» على «الجماعة»
1 ثورة «المجتمع» على «الجماعة»
عبرت آن باترسون شارع ريحان (وسط القاهرة)، وسارت على قدميها الى مبنى وزارة الداخلية.
كانت الساعة الواحدة بعد منتصف الليل. ولم يعلن شيء عن زيارتها، كأنها في جولة تفقدية، او عادية، او تعيد سيرة المندوب السامي وجولاته.
باترسون لا تسير بحريتها فقط، لكنها تستعرض قوتها. تسير وسط نطاق من اسوار حجرية تحيط بها وزارة الداخلية نفسها. استعراض لايبدو سياسياً فقط لكنه دفاع وجودي عن تركيبة/شركة للحكم تستنسخ ديكتاتورية محلية برعاية اميركية.
وكان طبيعياً ان تحرق صورة باترسون في بروفة «30 يونيو»، باعتبارها احد اعمدة شركة الحكم التي يدير مرسي الدولة من خلالها.
البروفة/والثورة او موجتها الثانية في اساسها ضد شركة الحكم، او بمعنى آخر «سلطة العصابة المحلية» المدعومة بالراعي الذي يمتلك «كهنوت الديموقراطية».
وكما ان مرسي والجماعة ترى الخير في الإذعان لها، فإن هذا ما تلتقي عنده مع اميركا، وباترسون راعية اللقاء والاتفاق، في إيمان عميق يرى ان قتل الملايين وقهرهم لا يعني شيئاً ما دامت الصناديق ستعمل وتنتج تلك الديموقراطية «تحت السيطرة».
المجتمع يثور اذاً على «فيتيش الصناديق» التي يختصر فيها الديموقراطية، باعتبار انه يمكن السيطرة على المتنافسين وأدواتهم في المال والنفوذ والسلاح.
الفيتيش يعني ديموقراطية مجرمة.
والتعبير استعيره من كتاب استمتع بقراءته للفيلسوف الفرنسي جاك رانسيير، التقطه المترجم الذكي احمد حسان بوعي وحساسية سياسية وثقافية، وصدر في القاهرة (عن دار التنوير) تحت عنوان: «كراهية الديموقراطية».
الديموقراطية المجرمة هي المفروضة بقوة السلاح، وهذا هو ما يسر بالنسبة إلى ضراوة الديموقراطية التي تحكمنا بها شركة الحكم بين الإخوان والجيش برعاية اميركية.
انها تلك الديموقراطية التي يتصورها الراعي الاميركي منحاً تسقط من اعلى، على القدر الذي نستحقه كمتسولي «حريات» او «شعوب بدائية» ترضى بما يلقيه الاميركي الطيب ومن يدخلهم في مداراته الى هذا الشعب.
إنها الافكار الميتة التي تفرض بقوة السلاح عنصرية «امبراطورية» التي ترى ان هذه هي الديموقراطية التي نستحق، وتفرض انظمة استبداد ووصاية لا تعرف من الديموقراطية سوى صناديق الاقتراع، بل انها تتعامل بما يمس هوس الصندوق لتستبدل به ديموقراطية حقيقية تعني اول ما تعني تحرير المجال العام او كما قال رانسيير في كتابه «كراهية الديموقراطية»: «ليست الديموقراطية شكلا للحكم، ولا شكلا للمجتمع، وتتطلب ممارستها ان تتبلور، خلال الصراع من اجل تحرير المجال العام، مؤسسات مستقلة، وقوانين تنظم عملها، وثقافة يتصرف وفقها الافراد، ولا يمكن في غياب كل هذا تلخيصها في صندوق الاقتراع».
هنا لا بد من كشف ان تلخيص الديموقراطية في الصندوق هو مجرد ايمان زائف بالديموقراطية التي لا تهتم بمن يحكم، بل بمدى اتساع المجال الذي تتحرك فيه مؤسسات المجتمع وتتحقق فيه الحريات.
بمعنى آخر، الديموقراطية ليست شكلاً للحكم، لكنها الأسس التي توضع لكي تفقد الدولة سيطرتها على المجال العام، اي انها شكل من اشكال العقد الاجتماعي، او قانون العلاقة بين الدولة والمجتمع، لا تتيح للدولة ابتلاع المجتمع ولا الاستحواذ عليه.
وهنا يمكن مثلا ان تأتي الصناديق برئيس مجنون مثل بوش الصغير او بساحر الأقليات اوباما. الرئيس هنا لا يستطيع تغيير علاقة الدولة بالمجتمع، ولا اللعب لتضييق المجال العام الذي تنمو فيه مؤسسات المجتمع.
المشكلة اذاً مع مرسي وشركة الحكم انها تعيد انتاج الاستبداد بالصناديق، بعدما فقد موجات الاستبداد العسكري شرعيات ثورات التحرر او الانتصارات العسكرية.
اميركا تصوّر ان «الديموقراطية» هي ضمن حزمة المعونة العسكرية والمالية لأنظمة تضمن دورانها في فلك الرعاية، وتتصور هنا ان هذا ما نستحقه من ديموقرطية، وهذه نظرة متعالية، لا ترى ما احدثته الثورة من تغيير، ومن صعود قوة المجتمع لتوسع مساحتها ضد منطق شركة الحكم التي ترعاها اميركا.
نظرة اميركا ميتة مثل شركة الحكم كلها.
والمجتمع يثور على جماعة أعادت إنتاج الديكتاتورية بملامح دينية (إنتاج فرعون اسلامي).
والثورة لا تعني فقط فشل خطة خيرت الشاطر في «التمكين» او «الأخونة» او «فتح مصر» او ترهل التنظيم الذي عاش تحت الارض تحت وهم انهم «الطليعة المؤمنة»، كما انها ليست مجرد تخبط سياسات ادت الى شعور عام بالسخط والغضب واليأس.
الخلل في المشروع نفسه... مشروع تدمير الدولة الحديثة اواستعادة الخلافة او الاستاذية كما اسماها حسن البنا او اختيار لحظة بعينها من تاريخ المسلمين واعتبارها الاسلام.
تصلح احلام الحنين الى لحظة في التاريخ اساساً لتكوين تنظيم فاشي (كما حدث في ايطاليا بعد الحرب العالمية الاولى)، لكنّ الاخوان وكل خوارجهم من تنظيمات تلعب على نفس الفكرة. يريدون «فاشية» يسمونها «سماحة» وعبر الديموقراطية اي وسيلة مهما افرغوها من مضمونها او سياق افكارها لا يمكنها ان تلغي اعتمادها على التساوي بين البشر.
هناك تصور خادع بأنه يمكن لمشروع يقوم على تدمير الدولة الحديثة ان يبني اعمدته على أطلالها.
ومنذ الاعلان عن «30 يونيو»، ومرسي يبحث عن معلم يدربه على قانون الطفو، ذلك القانون الذي عاش به مبارك سنواته الثلاثين. لكن كيف سيطفو الايديولوجي/ صاحب المشروع/مندوب الجماعة المؤمنة/ رأس حربة الحكم الاسلامي؟
مبارك كان خفيفاً. اختار موقع الموظف، بأدراجه وملفاته وتراثه الطويل ليدخل به قصر تركه السادات وعبد الناصر ساحة حروب في الداخل/والخارج، وأصبحت طبيعة الموظف (عند مبارك) بطولة وحدة عند قطاع من طبقات وشرائح ارهقتها حروب الرئيس/ بطل الثورة والحرب والسلام وتريد العيش في امان يعد به الموظف بتبريد كل شيء ووضعه في الدرج.
القانون هنا يعتمد على « تبريد» موقع مصر الجغرافي/ السياسي/الثقافي، وثقلها «الساخن» كمحرّك يعبر بالمنطقة اقاليم (بين الحداثة والتخلف/ بين الاستبداد والديموقراطية/ بين القرن الخامس والقرن الحادي والعشرين/ بين المقدس والفوضوي/ بين الاستقرار والثورة/ بين النفط والفايسبوك).
الطفو عند مبارك كان اختياراً يناسب طبيعته، والطريقة التي استلم بها الحكم بعد ذروة درامية (قتل الحاكم في قلب استعراض جيشه)، ولم يكن هناك حل الا السيطرة على الاحداث بدفعها الى «ثلاجة» الحكمة وأدراج الموظف الخالدة، وضع مصر كرأسمال سياسي ورمزي رهن التفاوض لا التفاعل.
بهذه المعادلة توقف نمو مشروع «دولة» محمد علي عند حدود البيروقراطية، وانتقلت المؤسسة العسكرية (النواة الصلبة) في مرحلة ما بعد ثورة العسكر (١٩٥٢) من وضع القتال الى تمتين بيروقراطيتها مقابل تبريد حسها القتالي وفعاليتها كأكبر جيش في المنطقة واتساع ذراعها المسيطر على حركة الاقتصاد والمهيمن من بعيد على تركيبة السلطة.
مرسي (او جماعته) عقد شراكته مع المؤسسة، بعد فترة صعبة خاضت فيها للمرة الأولى حروباً داخلية ضد مواطنين، بهدف تغيير التوازن الذي اختل بعد لثورة، حيث فقدت النواة الصلبة موقعها، وبدا ان تركيبة «الدولة» كلها دولة كهنة يعرفون المصالح العليا من غرفهم السرية، وشعب او قطيع هائم في الساحات من اجل إدارة الماكينة الكبيرة.
الحس القتالي للمؤسسة (البيروقرطية لإدارة الجيش) ضد مواطنين مصريين، دفعت ثمنه بقبول شراكة مع الاخوان في الحكم (برعاية اميركية) في شركة ما زالت مرتبكة في عملية الطفو مع الرئيس الثقيل بأفكاره على انه «امير مؤمنين» وليس رئيساً.
مرسي في بدايته تصور انه قادر على ان يكون «الوحش السني» الذي يعيد امجاد الناصرية من دون عبد الناصر، وبتغيير رايته الأيدولوجية من القومية الى الاسلام، وأغوته نجاحات غزة في التوافق بين حماس واسرائيل، لكنه عاد سريعاً من الغواية تحت إلحاح متطلبات «مباركية» من دون مبارك.
كيف يدير «امير المؤمنين» دولة على خطى الموظف؟
سؤال كانت إجابته الوحيدة في «تمكين» الجماعة من مؤسسات غرقوا فيها، وانكشفت الكفاءات المتواضعة عن كوارث تراكمت عندها ما يلخصه الشعب في: «البلد بتغرق».
وبالرغم من ان غالبية المصريين لا تريد حرباً مع اسرائيل، الا ان الشعور بالخطر دفع قطاعات مثلا للمطالبة بالحرب (ضد الارهاب في سيناء وضد اثيوبيا في ازمة مياه النيل)... وكما يحدث في لحظات الغرق يصرخ البعض مستدعياً بطولات رؤساء ما قبل مبارك، ويسخر البعض، مقارناً بين ما يفعله مندوبهم في القصر الرئاسي وبين عنتريات الإخوان قبل الوصول للحكم.
يغرق «امير المومنين» في اول فرصة، بعدما تصادم مع مجتمع ثقافته تقوم على اعادة تشكيل المشاريع الكبرى في خطوط متوازية، فيضع الفرعونية بجوار المسيحية والاسلام، والحداثة بجوار التخلف، والفوضى بجوار النظام والسماحة بجوار العنف والتقوى بجوار «الفرفشة».
ترتيب يسمح للمجتمع بهذا التجاور المميز، تقاطع مع الجماعة بكل ما تملكه من نرجسية وقلة كفاءة، لتحاول تغيير حياته اليومية، وتمارس عليه سلطة من حاكم أقل ذكاء وقوة.
الثورة او موجتها الثانية تتجاوز السياسة، وواجهتها ليست سياسية تسعى لتغيير عقلاني، لكنه المجتمع كله بكل تفاصيله (سماحته وعدوانيته، برجوازيته وبلطجيته... الخ) في مواجهة جماعة فشلت في الطفو وغرقت في طريقها لتوسيع اوهامها، وأرادت تحويل المجتمع الى مزرعة كبيرة لتربية السمع والطاعة.
2 خريف المخلص القادم من الأرياف
«موبايلات بأه..»
لافتة مرفوعة بالقرب من قصر الاتحادية. كتبها مصري ابن نكتة إلى جوار صورة محمد مرسي. رسالة بالخفة المواجهة لتراث ثقيل من كآبة تتسرب منذ لحظة ظهور حسن البنا في العام 1927.
رسالة وداع لنموذج الداعية القادم من الأرياف، يستهدف بث مشاعر العار في المدينة. محارب أو مخلص قادم ليخلص المدينة من آثامها وشرورها بالدخول في الحداثة، أو الخروج عن الموديل الافتراضي الذي تخيله الشيخ حسن للحياة في القرن الخامس الميلادي.
الموديل وشيخه يواجهان الحرب الكبرى، ثورة الخفة في مواجهة الثقل التاريخي الذي أسس له حسن البنا المولود في قرية مثالها الأعلى (المحمودية ـ بحيرة) هو الإمام محمد عبده. شيخ الأزهر المتمرد على موديلاته القديمة. والثائر الذي لا يفصل بين الاستقلال عن الاستعمار وإصلاح الدين.
لكن البنا لا يصبح محمد عبده. ولا هتلر أو موسوليني كما قالوا عليه في عز نجوميته. لكنه خليط من الإمام المجدد، والزعيم النازي الذي يسيطر بالتنويم المغناطيسي على جماهير عمياء مكسورة الجناح. تشعر بضعفها وترى تحققها في الذوبان تحت جناح الزعيم المهيمن.
حسن البنا ابن ثقافة ريفية، عاش صدمة الحياة في الإسماعيلية مدينة إفرنجية، على أرض مصرية. هناك كانت البيئة المناسبة لولادة تنظيم يبحث عن سند من 1400 سنة ليواجه الغرب المنتصر والمسيطر.
كان تنظيم البحث عن مجد قديم. زعيمه تربى في مجال يمنح الواعظ الديني رتبة اجتماعية، وأبوه كان مأذوناً وساعاتياً وخطيب مسجد القرية. والبداية، كما هي عادة التنظيمات الفاشية، من خلال إعادة تربية الإنسان ليبدو دخوله إلى التنظيم ولادة جديدة.
حسن البنا، الشيخ الذي يرتدي بدلة مصنوعة بقماش مصري وطربوش، أنشأ جمعية أسماها «منع المحرمات». اسم لا ينقصه الإغراء لجذب مراهقين يبحثون عن دور يشعرون به في المجتمع. أعضاء الجمعية كانوا يرسلون خطابات تهديد لمن يرتكب منكراً.
التقى هذا مع الحس السياسي الساخن في تظاهرات ثورة العام 1919، التي اشترك فيها البنا وعمره لا يتجاوز 13 عاماً.
نما عند البنا على ما يبدو، حس المطاردة الأخلاقية والثورة السياسية في إطار أوسع، وهو البكاء على سقوط الخلافة الإسلامية في تركيا.
ليس غريباً هنا أن يظهر تنظيم «الإخوان المسلمين» من بيت البنا في الإسماعيلية، في نفس التوقيت الذي كان فيه الملك فؤاد يبحث عن طريقة يحقق فيها حلمه ليكون خليفة للمسلمين.
كان البنا كاريزما دينية مؤثرة، جمهوره من عمال المعسكرات في منطقة القنال، وهؤلاء هم نواة أول تنظيم سياسي في مصر يدعو للعودة إلى الإسلام.
لم يحلم بمنصب خليفة المسلمين، لكنه منح القوة لفكرة البحث عن خليفة مصري. البنا محترف في فكرة تنظيمات التربية الرشيدة. وهو هنا يشبه كل التنظيمات الفاشية التي تقوم على فكرة الولاء، والسمع والطاعة.
أفكارها كلها عن الخير المطلق والشر المطلق. تقسم العالم إلى فريقين: مؤمنين وكفار.
تنظيمات لا تعترف بالحرية الشخصية ولا بثقافة أن الفرد هو صانع التاريخ. وهو موديل من التنظيمات عرفه العالم كله في لحظة من لحظات تطوره.
كان الجنرال يخطب في شعبه من الشرفات، ينظر إليه من أعلى، بينما كان الشيخ بجوارهم في الجامع لحظة الصلاة والمساواة بين الجميع.
هزيمة الجنرال انتصار للشيخ. وهما متشابهان في طلب السمع والطاعة. الجنرال يطلبها في الشارع والشيخ في المسجد، والهزيمة أخرجت الشيخ ليكون امتداداً للجامع. استمرار حسن البنا هو ابن هزيمة الدولة الحديثة التي نافق فيها كل جنرالات الحس الديني للشعب.
يقولون إن شعب مصر متدين، وكأنه الوحيد بين شعوب الأرض، أو كأن ذلك يعني معاملة خاصة تختلط فيها محبة الله ببناء الدولة. وساعتها، سيظهر شعار مثل «الإسلام هو الحل»، وهو شعار يشبه الدعايات التلفزيونية السخيفة التي تلغي كل مميزات المنافس، بل تلغي المنافسة من أساسها.
لعب البنا السياسة بمنطق تحريك السلطة بالريموت كنترول، الانقلاب من أسفل. نجحت إلى حد ما مع الملك فاروق، الذي ورث عن أبيه الغرام بمنصب الخليفة.
أهدافه كلها تحريك رأس السلطة لتنفيذ تعليمات التنظيم وتصوراته عن الحياة في مصر المحروسة، من دون أن يشعر، وعلى أنها تعليمات الله.
هم وكلاء الله، يتصورون أن العداء مع الانكليز ليس صراعاً بين مصالح وحرباً بين قوتين، بل هي محاولة لهدم عقيدة الإسلام، ورغبة من الكفار بإبعاد المسلمين عن دينهم.
كان حسن البنا مسنوداً من طلائع برجوازية ريفية (شرائح نالت بعض التعليم أعلى من المتوسط وتوقفت)، تبحث عن دور وتريد الذوبان في الجماعة.
هؤلاء يشبهون أتباع هتلر، الذين كانت مشاعرهم تهتاج لحظة خطابه، تبكي النساء في البيوت، ويشعر الرجل أنه توحد مع الزعيم الملهم الذي وجه اللعنات إلى عدو اختاره بعناية، ويبحث عن طريقة لتفريغ اللعنات.
السحر هنا لفكرة أنهم «صحابة العصر الحديث»، أو «الطليعة المؤمنة»، وتتم تربيتهم في حضانات يشربون فيها أنهم «كريمة الكريمة» في البلد، وأنهم خلاصة المؤمنين.
ومثل كل تنظيم يبنى على فكرة الطليعة، لا مانع من قتل أو قهر ملايين لتسيطر تلك الطليعة المؤمنة (وهنا تلتقي طليعة هذا التنظيم الإسلامي مع أعتى أحزاب الشيوعية، كلهم يقتلون من أجل أن تحكم الطليعة).
خرجت الطليعة من الحضانات، لتواجه خريفها الذي لن يمر خفيفاً مثل رسالة الوداع لمحمد مرسي.
3 دعاء الضباع
الضباع تبكي أحياناً.
رأيناهم على الشاشات في ميدان رابعة العدوية، يبكون خلف دعاء شيخ. لحظة استضعاف، استعطاف، وخطابات مظلومية تبنى للمرة الأولى دفاعاً عن مقرات السلطة.
الضبع يتجول ليلاً بحثاً عن الطعام. في الليل حيث يجد الجيف وبقايا فريسة تركتها الوحوش الكبيرة. وهذا ما يفعله تيار الكراهية باسم الدين.
تيار يبكي سلطته التي يراها تضيع، تتبخر، تذهب إلى خريفها المتأخر.
قبل فقدان موقع الرئاسة، انسحب تأثير كاريزما الشيخ، والإرهابي. كلاهما لعب على هيستيريا الذنوب، ونشروا الكآبة العمومية عقاباً على الحياة.
الشيخ والإرهابي الآن يضيع منهما سحر الخرافة، تطير من الشيخ سطوة الخلطة (الفتوى، الديماغوجيا، والرقابة على الحياة الشخصية). والإرهابي يفقد سلطة (الفروسية القادمة من الماضي، قوة السلاح، وجبروت فرض النمط المتخيل من حياة البداوة).
يعيشون كالضباع. أقاموا في قاعات مغلقة استعراضات الدم، بدءاً بمرسي مهللاً وسط أهله وعشيرته في الصالة المغطاة، يحرض على حرب مذهبية في سوريا، والجوقة من خلفه مشايخ فقدوا جاذبيتهم وجمهورهم، ولم يعد لديهم غير بضاعة الكراهية.
مرسي وجوقة المحرضين كانوا في حفل «رقص على الجثث» مبكر، تصوروا أن إعلان الحرب على الشيعة سينقذ حكم «الإخوان» ويرمم جسم تيار يقوده إرهابيون معتزلون.
الشيعة؟
هل سيحبّكم الله أكثر إذا قتلتم؟
خيّل لمرسي وجوقته أنهم سيستعيدون بالشحن المذهبي جمهورهم الذي أفلت منهم، من سحرهم الضائع، وقدرتهم على تغطية شهوتهم للسلطة بالدين.
مرسي تربى على أن الفعل يتوقف عند الحنجرة، والدعوة إلى الجهاد تتبخر بعد ذهاب الميكروفون، وتخيل أن هذا سيتكرر بعد استعراض الدم في الصالة المغطاة وما تلاها في جمعة رابعة الأولى. لم يدرك أن هناك من سينفذ، ويقتل ويرتكب جريمة بشعة متصوراً أنه اختصر الطريق إلى الجنة.
مرسي كباعة تذاكر الجنة، لم يكن هدفه إلا الربح السريع، لم يرسل مجاهدين إلى سوريا، والحنجرة كانت آخر مكان تذكر عنده مأساة الشعب السوري.
نسي مرسي وجوقته أنهم في غياهب السياسة، ومثل الضباع ربوا في مساجدهم جمهوراً يشعر أن الله لن يرضى عنه إلا إذا ارتكب جرائم متوحشة. في هذه التربية كلما كنت متوحشاً أكثر، كلما تقربت من الله، وكلما ازدادت جرائمك بربرية، كان هذا دليلاً على إيمانك.
والمؤمن بمثل هذه الأنواع من البشر لا يفكر طبعاً في التناقض بين هذه البربرية والكلام عن التسامح، والعقيدة السمحة، و«لكم دينكم ولي ديني». الضباع يربون جمهوراً متوحشاً باسم الدين.
جمهور يرضع كراهية، وتنتقل عداوته ورغبته في إلغاء الآخرين من المؤمنين بديانات أخرى، إلى المختلفين في المذهب، وهذا الجمهور يمكن استخدامه ضد المختلفين في السياسة.
أعلن مرسي وجوقته الحرب، ليس على المسيحيين فقط (طالبوهم بالابتعاد عن «30 يونيو» وكأنها معركة بين مسلمين)، ولكن على الشيعة (يعيشون في مصر منذ سنوات طويلة، بل إن مصر كانت شيعية المذهب حتى صلاح الدين). كل هذا مقدمة أو إثارة للجمهور المتوحش ليأكل المعارضين، بحسب هذا الخيال المريض، باعتبارهم كفاراً خارجين عن الملة.
يرتكب تيار الكراهية المدعوم من قصر الرئاسة والغارق في أموال تسعى إلى رضى الله، فيستخدمها القتلة في بناء جبروتهم.
تيار الكراهية لم يبدأ مذابحه أو محارقه في «زاوية أبو مسلم». بدأها منذ اللحظة الأولى لوجوده، حيث أراد احتكار الإسلام، واعتبر أن مصر عاشت جاهلية معاصرة.
هذه الخرافات هي أول خيط المذبحة، وأعمدة تأسيس حكم الإرهاب، دولة الوصاية والتسلط، أو سلطة الفقهاء.
لا وجود لهذه التيارات إن اختفت الفكرة الأولى (الإسلام في خطر)، والجهاد (فريضة غائبة). هذه القراءة للإسلام حاولت منذ حسن البنا ومن زايد عليه أو من اعتدل عنه، أن تضع فقه الدم، باعتباره هو «الإسلام»، وهو ليس سوى تعبيد لطريق هذا التيار بالوصول إلى مقاعد السلطة.
هم دمويون، تسقط كل يوم قشرتهم المزيفة، يحرضون على الجرائم بانحطاط مذهل مصبوغ بالدفاع عن الله والدين. هم ضباع يتجمعون في طرف المدينة ليس أكثر.
وائل عبد الفتاح
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد