ثلاث قنوات لإعادة توزيع الناتج المحلي على المدى القصير
تصحيح توزيع الحصص في الناتج المحلي الإجمالي بين الأجور والأرباح، يقف على رأس التحديات القائمة أمام الحكومة، فهو استحقاق بنيويّ لم يعد بوسع أية حكومة تجاهله، بعد التشوه الكبير الذي طال عملية توزيع هذا الناتج على حساب الأجور والأرباح، ففي عام 1994 كانت حصة الأجور والأرباح من الناتج المحلي نحو %46، و%54 هي حصة الأرباح، أما اليوم، فإن حصة الأجور والرواتب لا تتجاوز %25،4، بينما تصل حصة الأرباح إلى %74،6، فبالحسابات السورية، وليس بالمعيار العالمي، على أصحاب القرار السعي عبر السياسات الاقتصادية والقرارات إلى إعادة توزيع الناتج المحلي بما يصل إلى عدالة عام 1994 بالحد الأدنى، ولكن: ما هي الآليات والإجراءات الكفيلة بإعادة التوزيع؟!
مساران لإعادة التوزيع
تحتاج عملية تغيير النسبة بين الأجور والأرباح، إلى تغيير في البنية الاقتصادية بالكامل وهي عملية طويلة المدى، إذا تتطلب تغييرات في الأوزان الاقتصادية، أما في الأجل القصير فإجراءات واضحة لها دور بالخطوات الأولى. أموال الفساد، الضرائب والتهرب الضريبي.
وعند هذه النقطة أشار د. قيس خضر أستاذ الاقتصاد في جامعة دمشق إلى أن القضية تحتاج إلى توضيح السياسات والأدوات. في المدى القصير، ستكون السياسات المالية والنقدية محطة أساسية لإعادة التوزيع، وهذا يتجه مباشرة إلى دورة تشكل الثروة والدخول، وهي إجراءات يمكن اتخاذها بقرار، وعلى المدى الاستراتيجي ترتبط ببنية الاقتصاد السوري، معتبراً أن إعادة توزيع الناتج المحلي في حالة الاقتصاد السوري باتت ضرورة لا يكاد يختلف عليها اثنان، سواءً لجهة إعادة توزيع في قسم الإنتاج أو إعادة التوزيع «بشكل طارئ» في قسم الدخول والثروة..
ثلاث قنوات على المدى القصير
ضمن الآجال الزمنية القصيرة، أوضح د.خضر أن هناك ثلاث قنوات رئيسية للسياسات المالية تتم عبرها إعادة التوزيع:
• السياسات أو القناة الضريبية، التشوه الكبير في بنية عوائد عناصر الإنتاج، يؤكد على إعادة توزيع طارئة من الأرباح والريوع والفوائد باتجاه الأجور، ويتم تطبيق هذه السياسة من خلال مواجهة حقيقة النظام الضريبي القائم على ضعف الإرادة منذ زمن طويل، وذلك لأن صناع السياسة الضريبية اختاروا الطريق الأسهل للتحصيل الضريبي، والمتمثل بالرواتب، فأثقلوه عبئاً واقتطاعاً، ولم يكلفوا أنفسهم عناء المواجهة والبحث مع أصحاب الثروات الكبرى والدخول العالية، ولم يستطيعوا أن يحصلوا التهرب الضريبي المقدر ب 300 مليار ليرة، كما لم يكلفوا أنفسهم عمداً أو تقصيراً وضع سياسات تستطيع تحديد حجم المطارح الضريبية لهؤلاء، أو تحديد مقدار الاقتطاعات العادلة لاحقاً، كسعيهم لفرضهم على الثروات مثلاً، فمن يملك الملايين عبر امتلاكه عقارات، وسيارات، ومحلات تجارية قد لا يدفع ضريبة تعادل تلك التي يدفعها موظف سوري واحد، وهذا حال عدد من التجار في أشهر أسواق دمشق، ويدخل في هذا السياق أيضاً فرض ضرائب على الأبنية السكنية المأهولة وغير المأهولة في المناطق الفاخرة، أو على أصحاب السيارات مرتفعة السعر، فالعدالة الضريبية تقول بأنه يجب أن يزداد الاقتطاع الضريبي كلما ازدادت الثروة، وكلما زاد الدخل، وبتطبيق هذه القاعدة يمكن أن نلحظ سريعاً إمكانية تخفيف العبء الضريبي عن أصحاب الرواتب، على حساب أصحاب التجار والمستثمرين الذين حلقت ثرواتهم بشكل كبير خلال السنوات الماضية بل بقيت في منأى عن الاقتطاع الضريبي العادل...
• القناة الثانية، هي قناة الإنفاق العام، ويتم من خلالها إعادة توزيع الدخل عبر التحكم بحجم كل من بندي الإنفاق الجاري والاستثماري في الموازنات العامة، وبشكل خاص زيادة كتلة الرواتب، وتوجه الإنفاق الحكومي يزيد الدخل بشكل غير مباشر، عن طريق الخدمات المجانية الصحية التعليمية وغيرها التي تدخل ضمن الدخل الحقيقي للمواطن، على الرغم من أن الإنفاق الجاري على أهميته النسبية في الموازنة قد يدخل في ثناياه عناصر أخرى غير الأجور، والتي قد تشكل محلات هامة للهدر والفساد (تغيير الأثاث المكتبي، مصاريف السفر، الندوات والمؤتمرات غير المثمرة)..
• القناة الثالثة تتعلق بالإقراض، حيث يمكن من خلال هذه القناة التركيز على زيادة القدرة المالية لأصحاب الدخول المحدودة عن طريق زيادة التسهيلات الائتمانية، والقروض الممنوحة بشروط سهلة، ولو تم ذلك على حساب القروض الممنوحة بمبالغ هائلة لكبار التجار والصناعيين، والذين قد لا يستثمرون هذه القروض بالشكل العقلاني والأمثل لما فيه مصلحة البلاد، فإعسار أحد التجار أو الصناعيين بقصد أو بغير قصد عن تسديد التزاماته قد يكون كافياً لتمويل آلاف المقترضين الصغار من أصحاب الأجور والرواتب، ما لو تم منحهم القروض بدلاً من هذا التاجر فكثيراً ما نسمع عن قضايا عدم السداد وبما يصل إلى مليارات الليرات من أصحاب الثروات والدخول العالية ولكن قلما نسمع عن موظف لم يلتزم بسداد استحقاقاته والتزاماته.
تكلفة التردد مرتفعة
هذه الآليات والإجراءات الكفيلة في إعادة توزيع الناتج المحلي للبلاد على المدى القصير، والأزمة قد تكون فرصة لتحقيق مثل هذه التحديات، هل يمكن فعلياً تطبيق هذه الإجراءات في ظل الأوضاع الحالية؟! حيث أشار د.خضر إلى إمكانية تطبيقها، موضحاً أن الخوف من ردة فعل قطاع الأعمال سيبقي حالة سوء التوزيع في نمو مستمر ومتزايد، ولذلك فإن إجراء تطبيق حقيقي لهذه السياسات هو بمثابة تدخل جراحي لابد منه إذا ما أريد للاقتصاد السوري أن ينهض، لذلك يجب التركيز على مصطلح الإدارة بالإرادة، فإذا لم يكن صناع القرار يمتلكون الإرادة الكافية لإقرار سياسات إعادة توزيع حقيقية، فإننا لا نتوقع أي نجاح لمسيرة الإصلاح، ولاسيما أن سياسة إعادة التوزيع هذه تعتبر اجتماعية بقدر ما هي اقتصادية، وبالتالي لا يجوز التكاسل عنها، وبالتالي نحن نتوقع أن تكون الآثار السلبية لمقاومة التغيير المرافقة لتطبيق السياسات الأنفة الذكر أقل بكثير من الآثار السلبية الناجمة عن تطبيقها.
التوجه نحو الإنتاج الحقيقي
إذا كانت هذه الإجراءات على المدى القصير، فما هي السياسات التي يجب اتخاذها على المدى الاستراتيجي، وضمن الآجال الزمنية الطويلة، لإعادة توزيع الناتج المحلي، والحفاظ على توزيع متوازن، حيث أشار د. خضر إلى أن أنظار سياسة إعادة التوزيع يجب أن تتوجه نحو دورة الإنتاج الاقتصادي الحقيقي، بحيث ينصب الاهتمام على إعادة الاعتبار للقطاعين الأول والثاني زراعة- صناعة) بشكل رئيسي، ودون أن يلغى القطاع الثالث (التجارة)، ويمكن الاكتفاء بعدم إعطائه أكثر مما يستحق وبما يتلاءم مع طبيعة الاقتصاد السوري، فالاعتماد على قطاع التجارة كقاطرة للنمو قد ساهم بشكل كبير في إرساء حالة سوء التوزيع في الاقتصاد، وذلك لأنه ساعد على تمركز الثروة والأرباح بأيدي فئة قليلة من التجار، بينما كان من الممكن أن ينشر الاستثمار والاهتمام بشكل أفقي نحو آلاف وملايين السوريين في قطاعي الزراعة والصناعة ولاسيما عبر حوامل رئيسية تتمثل بالمشاريع المتوسطة والصغيرة
حسان منجه
المصدر: قاسيون
إضافة تعليق جديد