بلجيكا: أكبر محاكمة لـ«الجهاديين» الغربيين اليوم
من يريد صناعة فيلم عن يايون بويتنك، سيكون أمام قصة استثنائية بكل المقاييس. السيناريو محاك كما يمكن لكاتب بارع أن يفعل. كوميديا سوداء مفعمة بالمفارقات والأسى المفجع، تمتدّ خيوطها في جغرافيا العالم، من سوريا إلى بروكسل ثم واشنطن.
«الجهادي» البلجيكي السابق سيكون اليوم أمام فصل جديد من حكايته المفتوحة. أنظار الإعلام المحلي والدولي ستتجه إلى مدينة أنتويرب، حيث سيكون بويتنك «الشاهد الملك» في أكبر محاكمة لـ«جهاديين» غربيين يشهدها العالم حتى الآن.
سيحاول المدعي العام إدانة 46 شخصاً، بوصفهم يشكلون ويديرون «جماعة إرهابية». هؤلاء هم أعضاء وقادة في مجموعة متطرفة تُدعى «شريعة لأجل بلجيكا». المحاكمة ستركز على أن الجماعة انضمّت إلى عمليات قتالية إلى جانب تنظيمات «إرهابية» في سوريا، كما حاولت تجنيد وتسفير «جهاديين». إثنان ممن سيحاكمون لديهما جروح بليغة. أحدهما مشلول جزئياً بعدما أصيب بشظايا في رأسه، والثاني سيضطر الأطباء إلى بتر رجله.
سيكون في القفص ثمانية متهمين، بينهم زعيم المجموعة فؤاد بلقاسم، وستكون المحاكمة غيابية لثلاثين عضواً في الجماعة ما زالوا في سوريا، تسعة منهم على الأرجح قتلوا في المعارك، لكنهم سيحاكمون لأنه لا يوجد ما يثبت موتهم.
المفارقة أن يايون (19 عاماً) سيكون متهماً ومدعياً في الوقت ذاته. فالشاب كان «جهادياً» انخرط في تنظيم إرهابي في الشمال السوري، لكنه يدّعي الآن أنه وقع ضحية جماعة «شريعة لأجل بلجيكا». يقول إنه لولاها لما كان انخرط في تلك التجربة، مضيفاً «عندما أنظر إلى الخلف الآن، أدرك أنها كانت تحضيراً نفسياً للجهاد في سوريا». هذه الشهادة ستكون «كنزاً» للادعاء كي يدين الجماعة. يايون الآن منشق عنها، وهو يسرد للمحققين كيف كان «التأهيل» فيها يشمل مشاهدة تسجيلات قطع الرؤوس.
لكن فصول حكاية هذا الشاب بدأت قبل أشهر، حينما صار اسم يايون على كل لسان. في آذار العام 2013، شاهد الملايين والده ديميتري يشهق بالبكاء على شاشات التلفزيون. قال إن يايون اتصل به لأنه يريد العودة، لكن الجماعة التي انضمّ إليها في سوريا تحتجزه وتمنعه. استقطب الأب تعاطفاً واسعاً، معلناً أنه سيتولى المهمة بنفسه. وهو يمسح دموعه، شرح أنه يتأهب للذهاب إلى «أرض الجهاد العالمي» كي يعيد ابنه.
استقطبت القصة اهتماماً عالمياً، وهرعت وسائل الإعلام الدولية إلى إجراء مقابلات مع الأب المكافح. استمر هذا الفصل من الحكاية أشهراً، والإعلام يرصده لحظة بلحظة، قبل أن تتوج المغامرة بذروة جديدة.
بعد محاولات لم تتوقف، نجح الأب في إعادة ولده في تشرين الأول الماضي، فألقت الشرطة القبض عليه مباشرة، ليتم احتجازه لكونه شارك في نشاطات «إرهابية».
في هذا الوقت، صارت محاضر التحقيق الأولى تتسرّب: حاول يايون جاهداً، كما هو متوقع، نفي التهمة، وقال لمستجوبيه إنه كان يعمل في تقديم المساعدات الإنسانية والطبية. أطلعه المحققون على شريط فيديو قدمه والده حينما كان يستغيث لنجدته. يظهر فيه الشاب مبتهجاً يلوّح بالكلاشينكوف، مع مجموعة «جهاديين» في سوريا. أنكر القصة في البداية، ثم برر بأنه حمل السلاح فقط من أجل التصوير.
برغم كل ذلك، وفق المنحى الذي ستتخذه الأحداث، لا تزال الحكاية في أوجها.
ضج العالم بقصة الصحافي الأميركي جيمس فولي، بعدما نشر تنظيم «داعش» فيديو قطع رأسه انتقاماً. وسائل الإعلام الدولية لا تزال تترقب فصول الدراما المأساوية للمصور الصحافي جون كانتلي. الرهينة البريطاني يستخدمه «داعش» للدعاية، إذ ظهر في تسجيلي فيديو ينتقد فيهما «التحالف الدولي» الذي يحارب التنظيم في العراق وسوريا.
وسط ذلك ستأخذ حكاية يايون منحى جديداً آخر. فجأة يظهر أن «الجهادي» السابق كان في قلب هذه الأحداث. قبل كل شيء لأنه كان مسجوناً مع الرهينتين خلال أسابيع. لكن ذلك جعله، لاحقاً، يلعب دوراً في العملية التي فشلت خلالها القوات الخاصة الأميركية بتحرير فولي. خلال استجوابه، أخبر يايون المحققين البلجيكيين بحيثيات معرفته بالرهائن، فحوّلت هذه المعلومات إلى واشنطن.
إثر ذلك، حضر فريق من الاستخبارات الأميركية لاستجواب يايون في بلجيكا. استخدمت المعلومات التي قدمها ضمن الأرضية التي وجهت عملية الكوماندوس، في ريف الرقة، لكنها فشلت لأن «داعش» كان نقل الرهائن إلى سجن آخر.
على خلفية ما حدث مع الرهائن، يوجه والد يايون هذه الأيام لوماً قاسياً إلى سلطات العدل والأمن البلجيكية. يقول إنهم «لم يصدقوا ابني، لو أخبروا مباشرة الاستخبارات الأميركية بما قاله، لكان جيمس فولي وجون كانتلي وصحافيون آخرون، أحراراً اليوم».
على كل حال، سيكون أمام مَن يفكر بتحويل الحكاية إلى فيلم سؤال صعب: مَن هي الشخصية الرئيسة، الأب أم الإبن؟
لم يتوقف الأب، الضابط البلجيكي السابق في قوات العمليات الخاصة، عن الظهور على شاشات التلفزيون. صار الرجل الأربعيني معروفاً في العالم، وأرسلت شبكة «سي إن إن» الأميركية فريقاً خاصاً لمقابلته وسرد قصته. كان واضحاً أن الرجل تقمّص دور البطولة، كما يلفت معلقو الإشارة إلى «العظمة» التي بات يعكسها خلال حديثه عن نفسه.
دور الأب جعل الحكاية تتفرع إلى خطوط درامية أخرى. بعد سلسلة أسفاره، ألف ديميتري كتاباً يتحدث فيه عن التجربة التي يخوضها، برغم أن فصولها لم تكتمل بعد. سمى كتابه «مقاتل في سوريا طوعاً أو إرغاماً»، ليلقى حال نشره رواجاً، خصوصاً بين نزلاء السجون.
لكن الأب يرفض أن ينتهي دوره في الحكاية عند ذلك. قبل أسبوع انتشرت قصة جديدة. كشفت وسائل الإعلام، الهولندية هذه المرة، أن ديميتري طور مغامراته إلى إقامة «بزنس» مرتبط بها. صار العسكري السابق يقدم نفسه، مع فريق سوري يعمل معه، على أنه «دليل في بلاد الجهاد». أصبح مقصداً لعائلات من نواحي أوروبا، تسرب أبناؤها أو بناتها إلى سوريا. لم يكن عمله الجديد بحاجة إلى دعاية، خصوصاً بعد شيوع قصة نجاحه في تحرير ولده. لكن المأخذ الذي احتسب عليه هو طلبه خمسة آلاف يورو (حوالي 6500 دولار)، كمبلغ مقدّم، من كل عائلة تلجأ إليه.
نشرت صحيفة «فولك» الهولندية، الواسعة الانتشار، مراسلاته مع إمرأة سألته مساعدتها في استعادة ابنتها. هذه الفتاة عمرها 18 عاماً، تسللت من دون علم أهلها وانضمت إلى صفوف أنصار «الجهاد». حينما أعلمته السيدة بأنها لا تملك المبلغ، اعتذر منها، مقترحاً أن تنظم لجمعه حفل تبرع خيرياً.
لا ينفي ديميتري جوهر ما تمّ تناقله. قال إنه يعمل بالفعل في هذا المجال، معتمداً على «ناس بسطاء» يحترمون مساعيه في سوريا وتركيا. لكنه يشدّد على أن عمله «تطوعي»، لا يتقاضى عليه أتعاباً. أما ألوف اليورو التي يطلبها فيقول إنه يستخدمها فقط لتغطية مصاريف مهماته. قال قبل أيام للتلفزيون البلجيكي الرسمي: «أنا ألعب دور الأم تريزا. عملي كله طوعي. لكن عندما أذهب يجب أن أدفع بطاقة الطيارة وتكاليف الفندق والطعام وفواتير الهاتف».
عمل ديميتري الجديد يأخذ صدى عابراً للحدود الآن. شرح أنه بعد كل مهمة يقرر عدم العودة ثانية، لكن عندما تتصل به عائلة جديدة فلا يمكنه إلا معاودة الكرة. هو الآن يتأهب للقيام بمهمة جديدة، بعدما اتصلت به عائلة بريطانية تطلب خدماته. يقول إنه يمشي أحياناً على طرف الهاوية: «مع داعش الوضع متأرجح، فهناك باب مفتوح للنقاش مع عناصر منه، لكن هناك آخرين لو يمكنهم لقطعوا رأسي».
مع ذلك، الحكاية لم تنته، خصوصاً في بعدها العالمي.
محاضر استجواب يايون، التي تسرب بعضها إلى الإعلام البلجيكي، تشكل منجماً لتقصي خلفيات ما حدث مع الرهينتين فولي وكانتلي. سرد يايون للمحققين كيف التقى الرهينتين في أحد سجون «داعش». كانا وقتها يقضيان شهرهما العاشر في الأسر، والعالم يجهل أي شيء عن مصيرهما. قضيا خمسة أشهر في أحد معتقلات «جبهة النصرة»، حيث تعرضا للتعذيب على أنواعه. اكتشف يايون أن فولي وكانتلي كانا أعلنا إسلامهما في الاحتجاز، قبل خمسة أشهر من لقائه بهما.
أخبره السجان أنهما يودّان سؤاله حول مسائل دينية لكونه مسلماً قديماً. ينبغي التذكير هنا أن يايون صار مسلماً بتأثير علاقته مع شابة من أصول مغربية، حينما كان عمره 17 عاماً. أخبر الشاب المحققين أنه تلا القرآن على مسامع فولي وكانتلي، وحكى لهما عن النبي عيسى، وأن الرهينتين أخبراه أنهما اكتشفا عبر إسلامهما أن حياتهما لم تكن جيدة في السابق. دعاهما إلى بلجيكا، قبل أن يتبادل معهما الأرقام والعناوين «كي نلتقي عندما نصير أحراراً».
وسيم إبراهيم
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد