انهيار ستة محلات بسبب حريق في القنوات
لن نتحدث هذه المرة، كما المرات السابقة، عن المخالفات السكنية التي انهارت وتصدعت، وذهب ضحيتها كثير من المواطنين نتيجة لامبالاة واهمال المسؤولين والقائمين على البلديات ومجالس المدن، فهذا أمر ربما نعتقده أمراً خطأً من المواطن الذي قام ببناء منزله بأرض زراعية أو منطقة مخالفات وبسرعة كبيرة، بعلم أو دون علم رؤساء البلديات، فبهذه الحالة يمكن ان نسقط اللوم على المحافظة والمواطن على حد سواء.. فهذا أمر سلمنا به طوعاً أو كرهاً لاضير.. لكن الطامة الكبرى أن نرى حريقاً التهم بناء مؤلفاً من ثلاثة طوابق وستة محلات دون ان تحرك المحافظة ساكناً، والتحرك هنا بمعنى اعطاء اكبر قدر من الحرص والصيانة لمثل هذه الأبنية الأثرية، وأن لاتعطي هذه الأبنية القديمة اهمية خاصة وتعتبرها مسجلاً في لائحة أبنية دمشق القديمة.. نعم ربما يكون الحريق قضاء وقدراً، لكن لوكان هناك الاهتمام الكبير بمثل هذه الأبنية لما حصل هذا الحريق وقس عليه حرائق أخرى بعضها استطيع اخماده والبعض الاخر عرضة لحرائق اخرى...
ألم يحن الوقت لوضع تصور لمثل هذه الحوادث المؤسفة التي تحدث بين الفينة والاخرى نتيجة اسباب متعددة.
والظاهر لنا، من كلام المواطنين وشهود عيان، ان اغلبها بسبب تماس التيار الكهربائي، لكن هناك ـ على ذمة المواطنين وشهود العيان ـ اسباب اخرى نجهلها لايعلمها إلا الله والقائمون بالقسط.
ففي حي «القنوات» ومنذ الساعات الأخيرة من مساء يوم الاثنين 25/12/2006، ومع الأيام الباقية لسنة 2006 وكأننا مع موعد لختام هذا العام بحريق يلتهم آبدة من أوابدنا الأثرية. وفي أحد أزقتها الضيقة، والناس يتبضعون جيئة وذهاباً، ومع الاحتفال بعيد الميلاد المجيد والبرد الشديد، حدث مالايحمد عقباه، فقد التهم حريق مبنى اثرياً قديماً مؤلفاً من ثلاثة طوابق وتحته ستة محلات وقد سقطت أرضاً ترفع يدها تضرع إلى الله تعالى في هذا اليوم المبارك ان ينتقم من اولئك الذين كانوا السبب في انهيارها، وقد تصدعت الأبنية المجاورة لها نتيجة كما يدعون ماس كهربائي وهذا ماصرح به من قبل مجموعة ممن التقيناهم من القاطنين وأصحاب المحلات.
أقاويل كثيرة واتهامات حملت القسوة حيناً والعتب حيناً والرضى بقضاء الله وقدره حيناً آخر، بقدر ما عبرت عن المرارة وخيبة الأمل من الوضع المتردي السيئ لهذه الأبنية وما وصلت إليه الحال.
وللوقوف على ملابسات وأسباب الحريق توصلنا الى مكانه، وهناك وجدنا عناصر من دائرة خدمات القنوات وورشات عمل تقوم بواجبها وترحل الانقاض ومخلفات الأبنية.
- عثمان ادلبي، أحد الذين كانوا لحظة حدوث الحريق قال: حصل الحريق حوالي الساعة السابعة والنصف مساء يوم الاثنين 25/12/2006، حيث سمعنا من الزبائن الذين يرتادون هذا المكان للتبضع من الألبسة المستعملة (البالة) ان هناك حريقاً قد التهم الطابق العلوي، ويسكنه على مااظن عمال سودانيون، وماهي إلا لحظة حتى انطلق صوت صياح الساكنين، واتصلوا بالنجدة والاطفاء لاخبارهم بعد أن التهم الحريق اجزاء كثيرة من الطابق العلوي، وبنتيجة الضغط الكبير واتكاء جدران البيوت على بعضها تداعى الطابق وانهار وسقط على الطابق الثاني وبدوره على الأرضي، ماادى إلى دمار البناء كله كون المادة التي بني منها البناء كانت من اللبن والخشب، وهذا لايقاوم كثيراً وهو عرضة للنار، وبحسب ماقاله الساكنون ان سبب الحريق هو تماس كهربائي.
أما خالد عبود علي، صاحب محل مجاور للحريق، فرأى أن الحريق كان بفعل انفجار جرة غاز مملوءة أدت إلى مثل هذا الانهيار فربما يكون الماس الكهربائي سبباً ولكن السبب الرئيسي لانهياره هو انفجار الجرة واضرام النيران في الخشب والجدران، وقد شاهدت ألسنة النار قد ارتفعت الى أكثر من أربعة أمتار من بعد 100متر تقريباً، وقد هرعت الى مكان الحريق لعلي استطع مساعدة المتضررين، وبحمد الله لم يتم وقوع أي ضحية وعلى الفور جاء الاطفاء ورجال الأمن وسيارة الاسعاف.
- وفي ناحية من نواحي البناء المتهدم التقينا أحد أصحاب المحلات المستأجرة المحترقة ويدعى محيي الدين وحود، حيث قال مفنداً أسباب الحريق: السبب الرئيسي للحريق هو ماس كهربائي، حيث احترق الطابق العلوي وهوى على الأرض، وهذا ماسبب الانهيار لكامل البناء، لأنه مكون من اللبن والخشب، وهو بناء قديم يعود لأكثر من عدة قرون مضت، كما ان سوء الترميم وعدم السماح لهم بالترميم المطلوب كانا السبب الأساسي للانهيار..وقد تلفت بضاعتنا وتقدر بخمسة ملايين ليرة سورية بعضها احترق تماماً والبعض الآخر تمزق واتسخ ولم يعد صالحاً للبيع والشراء والاستعمال، وممازاد الطين بلة اننا مقبلون على العيد، فقد ضاعفنا بضاعتنا، لأن هذه الأيام موسم الأعياد وموسم البيع والشراء ولم تكتمل فرحتنا بل لحدت في قبرها وذهبت مع مهب الريح، واني احتسب أمري لله تعالى.
وهذا احسان قطاع، صاحب احد المحلات المستأجرة التي احترقت تمنى على المحافظة أن تعوض عليه نتيجة هذه الأضرار التي لحقت به من جراء هذا الحريق، وايجاد حل جذري لمشكلة هذه الأبنية القديمة، والعمل على ترميمها واصلاحها اصلاحاً جيداً والمحافظة عليها كونها ارثاً اثرياً ومعلماً من معالم المدينة القديمة، وكما أصحابه فقد رأى أن سبب الحريق هو ماس كهربائي على ماأظن.
- المهندس لامع السعيد، مهندس من دائرة خدمات القنوات قال: مشكلة البيوت القديمة انهاتعاني من قلة الترميم الصحيح لكونها مستأجرة، والمالك يمنع من الترميم، وبشكل عام هي بيوت قديمة متداعية عرضة للانهياروالحرائق في اي وقت كان،وهذه المنطقة تتعرض لانهيار بعض مبانيها القديمة بحدود 3 ـ 4 منازل سنويا ولاسيما في فصل الشتاء، بسبب الضغط الذي يتولد من جدران اللبن الرطبة والتي هي بالاساس ضعيفة بسبب سوء الترميم واتكاء البيوت على بعضها البعض، واغلب أسباب الحرائق والانهيارات يعود لماس كهربائي نتيجة عدم سلامة الاسلاك الكهربائية وقدمها واهترائها ومدّها على الجدران الرطبة وتماسها المباشر مع مياه الامطار خلال فصل الشتاء والحرارة الشديدة خلال فصل الصيف وبهذه الحالة قد نفقد الكثيرمن البيوت المسجلة اثريا كماهي الحالة في نزلة القنوات التي نحن بصدد الحديث عنها، بوضع البيوت الاثرية مثل منزل فخري البارودي المجاور لهذا الحي وغيرها فهي معرضة لنفس الحالة.فنحن لما سمعنا بهذا الحريق سارعنا، ونحن نقوم ـ كما ترى ـ بإزالة الاجزاء الخطرة حفاظا على سلامة المواطنين الذين يستخدمون الدخلات والنزلات والازقة التي تطل عليها الاجزاء الخطرة، وقمنا بارسال ورشة مكونة من 12 عاملا ومجهزة «ببوبكات» ودنبر وسيارتين لازالة وترحيل الأنقاض ولكون الحارات ضيقة ولاتستطيع اي الية الدخول اليها قمنا بالعمل اليدوي وهذا ما سبب ارباكا للعمل وخطورة على العاملين والمواطنين كما اتصلنا بطوارىء الكهرباء لقطع التيار الكهربائي عن الموقع، وبلغنا طوارىء المياه لمعالجة اي كسر في خطوط المياه اثناء عملية ازالة الاجزاء الخطرة وترحيلها.
- اما المهندسة بارعة ابووطفة مديرة دائرة خدمات القنوات فكانت اكثر جرأة في التحدث معنا خلال سؤالنا لها: كيف يتم عدم تكرار مثل هذه الحالات، فرأت انه لابد من السماح لاصحاب البيوت القديمة بترميمها بمواد حديثة اسمنتية مسلحة وليس من الخشب واللبن كون هذه المادة غير متوفرة للاستعمال حاليا ولعدم جدواها وفائدتها.وتسهيل معاملة الترميم امام اصحاب العلاقة، فأغلبها بحكم المرخصة وليست مرخصة، مرخصة للترميم وغير مرخصة لبنائها من جديد وقد يكون هذا الحريق مفتعلا من قبل اصحاب البيوت وذلك للحصول على رخصة لإعادة بنائه مرة اخرى وليس ترميمه،وبذلك يحصلون على مرادهم بهذا العمل.
- المهندس أسامة السراج رئيس دائرة الابنية الاثرية والتاريخية بدمشق خارج السور قال: منطقة القنوات سجلت أثريا بقرار وزارة الثقافة برقم 159/آ لسنة 2004، لاحقا للتسجيل الصادر برقم 145 لعام 1988، وكذلك الحال بالنسبة لمناطق الميدان وسوق ساروجة والشركسية بركن الدين.
وقد حدث الحريق على اطراف الشريحة الاثرية محاذيا لشارع خالد بن الوليد، بالنسبة لنا دائما نفترض حسن النية لاي حريق كان، فأي حريق يحصل ضمن الشريحة الاثرية لايمكن ان يكون مفتعلاً لان مالك العقار لايجني اي فائدة من ذلك ولايستطيع ان يعيد بناءه على الطراز الحديث المكون من الاسمنت المسلح، ولهذا استبعد ان يكون الحريق من فعل مالك العقار، وهذا لايمنع ايضا من ان يكون بشكل شخصي بين المالك والمستأجر لاخلائه.
والدليل انه ليس من مصلحته المجازفة بحرقه واضح في القرار رقم 826/.م.ت لعام 1996 من ضابطة بناء مدينة دمشق القديمة ونصه: «تعتمد المصورات الكادسترائية الموضوعة عام 1926 ـ 1927، الاوصاف العقارية الاولى حتى عام 1948 اساساً في تحديد وتخطيط وجائب وارتفاعات العقارات في المدينة القديمة».
ولامانع عندنا من ان يقوم المالك ببناء البيت على شكله الماضي قبل الاحتراق دون تغيير الوصف الوارد بالقرارالصادر عام 1948 وهوالوصف الذي يمكن اعادة البناء بموجبه.
اما الاجراءات المتبعة للحد من انتشار الحرائق والانهيارات في البيوت القديمة فتتمثل في تجديد البنية التحتية من صرف صحي وخطوط مياه وشبكات كهرباء ووضع شبكة فوهات اطفاء ضمن كل حي قديم لدرء خطرالحرائق وسرعة معالجتها وذلك لصعوبة دخول سيارات الاطفاء. ونحن الآن بصدد اخراج المستودعات التي تتضمن مواد خطرة قابلة للاشتعال مثل النايلون والالبسة ذات المنشأ البترولي ومستودعات بيع الغاز، لانها تساهم في تأجيج الحرائق وزيادة اشتعالها، كما ان هناك اهمالا من مالكي العقارات القديمة بعدم صيانة شبكات الكهرباء الداخلية وعدم ترميم البيوت على فترات متعددة.
- يبدو ان هذاا لحريق فتح باب الاسئلة على مصراعيه وعلى بساط محافظة دمشق بالتحديد، فالسؤال الاهم المطروح: مادامت المحافظة ـ متمثلة بلجنة المحافظة على تراث دمشق القديمة ـ مهتمة بالحفاظ على الموروث التاريخي لهذه الابنية، لماذا لم تولها الاهتمام المطلوب من العناية والصيانة والرعاية بكل مستلزماتها؟
وكيف للمحافظة ان تقوم وتسمح بايجار مثل هذه البيوت الاثرية القديمة لتجار محلات الالبسة المستعملة «البالة» مادامت انها على علم انها لاتصلح للعملية التجارية؟ وإن كان لابد من ذلك وحرصا على جيوب المواطنين ذوي الدخل المحدود الذين يرتادون مثل هذه المحلات ان تقوم بتأمين محلات خاصة مهمتها بيع الملابس المستعملة وفي مكان خاص ولكن ربما يكون هذا الامر بالتراضي والمساومة بين المحافظة ومالكي هذه المنازل.
كما انني اقف موقف المتسائل من شركة كهرباء دمشق: كيف لهاان تمد الكابلات الكهربائة بشكل عشوائي والناظر اليها كأنه ينظر الى شبكة عنكبوت او شبكة رادار معقدة التفاصيل، حتى ان عامل الكهرباء المختص لايستطيع فك طلاسم هذه الاحجية نتيجة تراكم هذه الكابلات القديمة والمهترئة التي ما فتئت ان تفتتت وتذروها الرياح بعد ان انتهى عمرها الافتراضي ومرت عليها اعوام وربما عقود طويلة لم تطلها يد الصيانة ومازالت تئن تحت وطأة الرياح والامطار شتاء والحرارة الشديدة صيفا والاستجرار غير المشروع بشرا، ألم نفكر بطريقة حضارية لمدّ هذه الكابلات بشكل مخفي للمحافظة على هذه الابنية الاثرية التي يعود عمر بنائها الى اكثر من قرنين من الزمن، ام ان هم الشركة كله منصب على دفع الفواتير وصلى الله وبارك، لابد لها من ان تجد وسيلة او طريقة تحافظ بها على رونق هذه الابنية، واني لاجزم ان هذا البناء الذي التهمه الحريق لم تطله يد الصيانة الكهربائية منذ عقود من الزمن.
أفبهذا نستطيع ان نستقطب زوارا وسياحا، ونعتبر دمشق أقدم عاصمة مأهولة بالسكان وهي من المدن القديمة التي صنفتها منظمة اليونسكو ضمن المدن التاريخية والمحافظة على التراث.
وقد علمت من احد كوادر العاملين في دائرة آثار دمشق تعليقاً على هذا الحريق ان قناة «الجزيرة» الفضائية ساقت خبرا مفاده ان منظمة اليونسكو ربما تسحب دمشق من قائمة المدن المحافظة على التراث.
وبغض النظر عن صدقية هذا الخبر او كذبه، فهذا امر لابد من معالجته سريعا، حتى لايقع الفاس بالرأس ولايستفحل امره ويختلط الحابل بالنابل، ونصبح على ما فعلنا نادمين، ونقلب كفينا على ما وصلنا إليه من تدهور حضاري طال معالم الاجداد والتراث التليد الذي بقي وسيبقى مادامت دمشق حاضرة الأمويين ورمزة عزة العرب.
موفق فوزي الجبر
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد