المرأة والسلطة في كتابات الطهطاوي
لقد فرض الواقع باستمرار مشاكله وقضاياه على الفكر الإسلامي الحديث والمعاصر الذي لم يكن يوماً معزولاً عن المستجدات والحوداث في العالم من حولنا فمنذ رائد التحديث والنهضة في الفكر الإسلامي الحديث رفاعة الطهطاوي الذي ناقش مبكراً قضية مهمة جداً وهي حق المرأة في الاشتغال بالسياسة العليا، أو ما يعرف برياسة الدولة، أو الملك، وتبدو لنا آراؤه في ذلك الوقت المبكر أكثر تقدمية ومرونة من معظم رجال الفكر الإسلامي المعاصرين الذين مازالوا يتعاملون مع المرأة من منطلق، رؤية تراثية تقليدية تنظر للمرأة نظرة مشوهة منقوصة ولا تثق بقدراتها، رؤية تتناقض في جوهرها مع طبيعة الإسلام كدين جاء حديثه عن الرجل والمرأة على السواء إلا في بعض الفروق الذي قصد بها ترتيب الأوضاع في المجتمع من ناحية ومن ناحية أخرى قصد بها صيانة المرأة من أن تكون عرضة للقيل والقال من ذوي النفوس الصغيرة والعقول الضعيفة.
وعلى رغم أن الطهطاوي يقرر أن هذا الحق كما قضت الشريعة المحمدية، وقوانين أغلب الأمم مقصور على الرجال من دون النساء. والنساء بطبعهن لا يتحملن أعباء الحكم لما فطرن عليه من ضعف. لكنه يناقش القضية بعقلية منفتحة ولا يحكر على الرأي الآخر الذي لا يوافق على هذا الرأي، وينسبه الى بعض السياسيين ممن يرون أن الضعف في النساء ليس مطلقاً، ولكنه أغلبي فيهم ويؤكدون على أحقية المرأة في تولي منصب الحكم ويضرب مثلاً بمجموعة من النساء أصبحن حاكمات وملكات عبر التاريخ ضربن المثل في الحزم والتدبير كأفضل الرجال «فكلهن أحرزن حسن التدبير والإدارة، وأقمن البراهين على لياقة النساء لمنصب السلطنة».
ويستطرد في سرد أخبارهن وكأنه لا يمانع في قبول حكم أمثال هؤلاء النسوة اللائي ضربن المثل في الحزم والحسم في تدبير شؤون الحكم والممالك التي تقلدوها بعزيمة لا تفتر وإرادة لا تلين فيتحدث عن بلقيس ملكة سبأ، والزباء بنت عمر ملكة اشتهرت بالقوة والحزم عند العرب قبل الإسلام، وكيلوباترا ملكة مصر، وشجرة الدر التي حكمت مصر وغيرهن من النساء عبر الأمم. ويبدو أن رفاعة الطهطاوي كانت لديه قناعة شخصية بقدرة المرأة على تولي الحكم، على رغم معارضته لذلك امتثالاً لأمر الشرع الذي نهى من ذلك كما «اقتضت الشريعة المحمدية». وهذا ما يستشف في سرده المطول لأخبارهن، بصورة تظهر إعجابه، وحرصه على معرفة الأجيال التي ستتربى على عمله هذا، خصوصاً من الفتيات اللائي يتعلمن في المدارس، باتخاذ أمثال هؤلاء النساء مثلاً وقدوة.
وإذا كانت هذه القضية الشائكة حتى وقتنا الراهن محل خلاف بين العلماء والفقهاء بين المعارضين لها لتولي منصب الرئاسة، والذين خلصوا إلى أن نهي الرسول عن ذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: «ما أفلح قوم ولوا أمرهم» (البخاري وأحمد والنسائي والترمذي بإسناد حسن) مرتبط بحدث معين وحادثة خاصة، وبالتالي لا ينسحب على جميع الحالات، ومن ثم لم يجدوا حرجاً في القول بجواز إسناد منصب الحكم للمرأة. خصوصاً في ظل تعدد السلطات وعدم تركيزها في يد شخص واحد فلم يعد الحاكم هو من يحتكر السلطة مطلقاً ولكن السلطة في الأنظمة الحديثة موزعة بين الحاكم والسلطة التنفيذية ممثلة في الحكومة والسلطة التشريعية ممثلة في البرلمان وغيرها.
ويلاحظ أنه بعد ان ينتهي من الحديث بإعجاب عن هذه النماذج من النساء اللائي تقلدن السلطة، وسلكن مسالك الشجعان، إلا انهن سيئات العواقب، وقل أن خلت إحداهن في بعض الأفعال من نقصان. فإذا كان حالهن كذلك، فكيف يجوز وراثتهن للخلافة والسلطنة، ومن تقلد منهن السلطنة وأفلح فيها فلم يكمل له الفلاح، وإذا كمل فهو من النادر الذي لا حكم له، فحديث: «لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة» صادق بالمضمون، مؤيد بالتجارب، وتولية شجرة الدر، التي لم تسبق في الإسلام سلطنة لغيرها، كانت من قبيل الضرورة التي تبيح المحظور.
لكنه بعد ذلك مباشرة يعقب بقول لأحد الحكماء من أنصار التقبيح والتحسين العقليين – وعلى ما يبدو أنه أحد اصدقائه من الأجانب، لأنه يصف الفرنسيين بأنهم من أنصار التقبيح والتحسين العقليين – ممن لا يتبعون النص الشرعي، بأن النساء من قديم الأزل في مصر رئيسات منازلهن، يسسن أمور المنزل من دون مشاركة الرجل، من تدبير شؤون البيت إلى تربية الأبناء، على رغم أن العقل والطبع لا يوافقان على ذلك لما فيها من ضعف، فيكتسب الأولاد منهن قلة الشهامة، وعدم التعود على الشجاعة. لكن العقل والطبع لا يمنعان المرأة من تولي الحكم والرئاسة، لأن ما فيهن من ضعف، هو الذي يكسبهن الرفق والرحمة والحلم وكل ما يليق برتبة الحكم والرئاسة من خصائص تقوم على الرأفة والشفقة بالرعية، وهي امور لصيقة بطبع المرأة، بعكس الرجل الذي يتصف بالشدة والعنف والجبروت وغيرها من ميزات الخلق الجافية التي هي لصيقة بالرجل، وهي صفات لا تليق بالملوك في تأليف قلوب الرعية، ومن ثم فلا موجب لحرمان النساء إذن من توليها نظام الحكم والرئاسة، خصوصاً وقد أثبت كثير منهن حكمة ونجاحاً في حكمها وتميزن بمآثر وأحسنت في حكمها.
ثم يعقب الطهطاوي على هذا الرأي بقوله قد فهمت رده، ويظل يطرح الحجة الشرعية ويثبت عكسها بحكم الواقع، فمثلاً يتحدث عن سعة أبواب الشريعة والسياسة التي تخص الملوك وكيف أنها لا تطيقها عقول النساء، لتعذر مخالطتهن بصفة مستمرة، للموظفين المتصلين بشؤون الحكم من المدنيين والعسكريين. غير أنه يؤكد مرة أخرى، على أن النساء لا يعدمن القدرة على ممارسة هذه المهام السلطانية، فإن السيدة عائشة – على سبيل المثال – استجمعت من الأمور الشرعية والسياسية كفاءة الخلافة. ويروي ما يؤكد مثل هذا الكلام عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه. وكأن الطهطاوي في صراع نفسي حول أحقية المرأة في الحكم والخلافة، فيرى أن مؤهلاتها من حيث هي إنسان لا تمنع، لكن المحاذير الشرعية تحول من دون ذلك، فيبسط وجهتي النظر بحياد وتجرد، من دون تعصب ولا تسفيه لوجهة نظر. ويبدو أنه كان يتناقش حول هذا الأمر، مع أحد من أصدقائه الغربيين، الذي لا يرى مانعاً من تقلد المرأة لهذا المنصب – رئاسة الدولة - ويستمع لوجهة نظره، ثم يقرر رأي الشرع في المنع وعلة ذلك.
وحقيقة الأمر أن موقف رجال الفكر والدعوة المعاصرين مازال متوافقاً مع رؤية الطهطاوي، من حيث منع المرأة من منصب الحكم، فسعيد رمضان البوطي يؤكد على «اننا إذا استثنينا رئاسة الدولة التي كان يعبر عنها بالخلافة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن سائر الرتب والأنشطة السياسية الأخرى، تعد في الشريعة الإسلامية، مجالات متسعة لكل من الرجل والمرأة.» ويستدل بحديث الرسول «ما أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة» على المنع وهو ما استدل به جمهور علماء الشريعة على حرمة إسناد مهام الخلافة أو رياسة الدولة إلى المرأة أياً كانت، ولا يجوز أن تعقد لها البيعة شرعاً.
والحكمة من وراء ذلك، أن قسماً كبيراً من مهام الخليفة أو من يحل محله دينية محضة، ولسيت مجرد سياسة، ومنها جمع الناس لصلاة الجمعة وخطبتها، والمرأة غير مكلفة بذلك ولا حتى بالحضور كما لا يجوز أن توكل من يقوم بذلك طبقاً للقاعدة الشرعية لا تصح الوكالة إلا عمن يستوي مع الوكيل في المطالبة بذلك الحكم وشرائط صحته وانعقاده. ومن مهام الخليفة إعلان الحرب وقيادة الجيش في القتال، والمرأة غير مكلفة بذلك إلا في حال النفير العام عند مداهمة العدو دار الإسلام، وغير ذلك من القضايا التي تقتضي عدم الزج بالمرأة في هذه المواقف المحرجة، التي لا ضرورة لها.
وبصرف النظر عن وجود وجهة نظر أخرى اكثر تقدماً من هذا الرأي - الذي يحكر على المرأة حقها في أن تكون حاكماً - لا ترى بأساً من تولي المرأة شؤون الحكم وترى في حديث الرسول أنه مرتبط بسياق خاص وظرف معين فسيظل حديث رفاعة الطهطاوي حول هذا الموضوع سابقاً عصره بمراحل وسابقاً لكثير من رجال عصرنا الذين ينظرون الى المرأة بدونية على اعتبار انها أقل من الرجل قدرة وذكاء وحسن تأتٍ للأمور، وهذا غير صحيح ولا يتفق مع الشرع الذي يؤكد على المساواة ولا الواقع الذي يؤكد عكس ذلك.
أحمد عرفات القاضي
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد