المحبَّة
تُعتبَر المحبة حجر الزاوية في المجتمع الإنساني وفي النطاق الروحي والكوني. وتتجلَّى حقيقة هذه المقولة في المبدأ الأخلاقي والوجداني والروحي الذي يوجِّه الإنسان إلى محبة الله أولًا ومحبة الآخَر ثانيًا. والحق أن المحبَّتين محبة واحدة من حيث الجوهر، لأنه يستحيل أن يحب الإنسان الله إن كان يكره أخاه الإنسان، كما يستحيل أن يحب الإنسان إن كان لا يحب الله الذي هو الكل في الكل أو الحضور الكلِّي الشامل.
يجدر بنا، قبل أن نتعمَّق في فهم موضوعنا هذا، أن نقيم علاقة:
- بين المحبة والمعرفة
- بين المعرفة والفضيلة التي هي محبة المعرفة
- بين المعرفة والحرية
- بين المحبة والحب
أولًا: المحبة والمعرفة والفضيلة والحرية
لمـَّا كانت المحبة طاقة كامنة في الإنسان، فإنها السبيل الوحيد إلى المعرفة. لذا، كانت المعرفة حصيلة محبة: محبة الإنسان للفهم والإدراك، ومحبته لسبر أغوار كيانه. وبقدر ما يحب الإنسان الموضوع يبدع فيه، أي يعرفه؛ وبقدر ما يحب الإنسان الخير يعرفه ويحققه؛ وبقدر ما يحب الانسجام الجميل يبدعه؛ وبقدر ما يحب الصدق يطبِّقه؛ وبقدر ما يحب الله ينجذب إليه بإيمان قوي. لقد أحب الله العالم فأبدعه على نحوٍ هو أفضل العوالم الممكنة. وأحب الله الإنسان فأبدعه بأفضل تكوين، ودوَّن شريعته في كيانه. لذا، كان الله محبة، لأنه خير كامل، وجمال كامل، وحق كامل، ومعرفة كاملة، ونور كامل. وهكذا، تقودنا المحبة إلى المعرفة لتكون السبيل الذي يؤدي بأنفسنا إلى معرفة حقيقتها.
هكذا، تكون المعرفة وليدة محبة تحرِّر الإنسان من عبودية الجهل ليحيا في نطاق الفضيلة. ولا يمكن أن تتحقق الفضيلة دون معرفة. وهكذا، ينتهي الإنسان العتيق، إنسان الجهل، ويحيا الإنسان الجديد، إنسان المعرفة والخير. وهكذا، نعرف الحق لنتحرر. ألم يقل المسيح: "تعرفون الحق والحق يحرركم"؟
عندما أتأمل الحكمة السرمدية الماثلة في هذه العبارة، أعلم أن المعرفة تؤدي بنا إلى الحرية؛ هذا، لأن الحرية تعني انطلاق الإنسان في نطاق معرفة الحقيقة، حقيقة الله. إذ كلَّما عرف الإنسان أصبح حرًّا. فهي، إذن، سعي الإنسان إلى فهم نفسه ووجوده المادي والروحي. ونستطيع أن نتمثل الحرية بصفاتها الأدبية التالية:
هي الخلاص من الجهل والانعتاق من إشراطات قيوده.
أنا عبد إن كنت أجهل، وحر إن كنت أعرف.
تحرِّرنا المعرفة من الخوف، ومن المجهول، ومن الوهم. فالإنسان يخاف الموت لأنه يجهل ما يقع وراءه، فيعتبره مصيبة؛ ويخاف الغد الذي لا يزال زمانًا مجهولاً؛ ويخاف الله لأنه يجهله ويجهل محبته، فلا يسعى إلى معرفة حقيقة سرِّه؛ ويخاف المرض لأنه يجهل حقيقة الصحة؛ ويخاف الحياة لأنه يجهل سرَّها، فلا يسعى إلى تحقيق الطمأنينة النفسية والعقلية. أما الإنسان الذي يعرف أن الموت مجرَّد تحوُّل وانتقال فيتحرر من جهله هذا ولا يخاف. والإنسان الذي يعرف أن الغد، وإن كان زمانًا لم يحدث بعد في أرض الواقع، قائم فينا ومستمرٌّ في حال غيابنا عنه أو في حال موتنا الظاهري يتحرَّر من جهله وخوفه. والإنسان الذي يتحرَّر من أنواع الخوف كلِّها يعرف أنه كان جاهلاً بالحقيقة. وعندئذٍ، يحب الحياة والموت.
تتأكد العلاقة الوطيدة بين المعرفة والفضيلة والمحبة؛ هذا، لأن الإنسان لا يسعى إلى المعرفة إن لم يكن يحب أن يعرف. ففي أعماقه محبة الكون، محبة الله، محبة الإنسان، محبة نفسه، محبة للحيوان والجماد. وتتجلَّى هذه المحبة في دافع قوي نحو المعرفة: معرفة الكون، معرفة الله، معرفة نفسه، معرفة وجوده، معرفة الحياة المركزة في الحيوان والجماد والنبات. وتتجلَّى هذه المحبة أيضًا في انجذاب قوي إلى المعرفة. إنه يحب أن يعرف، ويريد أن يعرف.
ثانيًا: المحبة والحب
تختلف ماهية المحبة عن الحب. فالحب بعض من المحبة لأنه يجسِّد جانبها السلبي أو المادي. ولكلِّ ظاهرة محبة جانبها المادي أو السلبي. لذا، يُعَدُّ الحب تعاطفًا أو تجاذبًا ماديًّا يخلو من الوعي والفضيلة.
تنشأ أهواء الإنسان وانفعالاته من الحب؛ لذا، تكون لاواعية من حيث إنها تخلو من الغاية والحكمة. فالحب العضوي انفعال جسدي يصدر عن الأنا المتملِّكة. وهو نزوة طارئة، وانقياد أعمى لانفعالٍ مجرَّدٍ من عقلانية واعية وسامية؛ ينقضي ويترك خلفه الألم السلبي الناتج عن لذة عابرة. فحب المال انفعال ينتج عن تعاطف الإنسان مع مركزية الأنا، ومع شهوة القوة المعبَّر عنها بالعنف، ومع القدرة المادية المعبَّر عنها بالتسلُّط، وحب الانتقام والكراهية، وانجذاب الإنسان إلى تلقائية الإنسان الأناني وانفعالها المجرد من الحقيقة والفضيلة والخير؛ وحبُّ التكبُّر والغطرسة دافع منحرف إلى رغبة وشهوة، وانجذاب إلى عظمة فارغة تنشأ من نقص في البنية العقلية والنفسية والأخلاقية؛ وحب الجسد انفعال مادي مجرَّد من قوى الفعل والحكمة. هكذا، يكون الحب، في حدِّه الأدنى، الجانب المادي والسلبي لماهية المحبة. وكلُّ عملية حب لا تؤدي إلى محبة، ما لم ترافقها عملية معرفة ووعي. وباقتران الحب والمحبة تتحول الطاقة الجسدية إلى طاقة روحية تُكسِبُ الحب الجسدي صفته الكونية (الروحية). هكذا، تفعل المحبة في الإنسان لإشعال قوة الحياة الروحية فيه.
المحبة تعي، أما الحب فإنه لا يعي. والمحبة ثابتة ودائمة، أما الحب فإنه آنيٌّ ومؤقت. المحبة تدوم ولا تتحول إلى كره لأنها تعبير عن قوة الروح وعمقها، وعن ثبات الإنسان في إنسانية. هي ثبات الإنسان في نفسه وفي الآخر، وثباته في الله.
رأينا كيف تقف المحبة في مقابل الحب، وكيف تقف المعرفة أو محبة المعرفة في مقابل الجهل، وكيف تقف الحرية في مقابل العبودية، وكيف تقف الإرادة الواعية في مقابل التلقائية والانفعال. هكذا، تنتهي مركزية الأنا في المحبة.
هكذا، يؤدي بنا بحث المحبة إلى تأمل معالمها التطبيقية:
أولًا: المحبة تعني التضحية
ما هي التضحية؟ كيف أضحِّي من أجل سعادة غيري وخيره؟ وكيف أجعل من نفسي وسيلة وغاية لتحقيق المبدأ الأساسي للمحبة المطبَّقة في التضحية؟
إن أول حقل تتحقق فيه المحبة كتضحية هو أن أقدِّم مواهبي وملكاتي وقدراتي لبني الإنسان، لإسعادهم وتقديرهم واحترامهم؛ هذا، لأن مواهبي قد وُجِدَت لخدمة الآخرين. لذا، لا يعني وجودي شيئًا في هذا العالم إن لم أكن أحقق الغاية منه. ولما كان وجودي يعني تآلفي مع الآخرين والاتحاد معهم بالمحبة في جوهر واحد، فإن الغاية من وجودي معهم تتمثَّل في خدمتهم، وتكريمهم، والسعي إلى تحقيق مواهبهم، ورفع مستواهم الخلقي والمادي والروحي. لذا، كانت التضحية هي المحبة التي تبلغ درجة أعلى في سلَّم صعودها.
تتقدم الإنسانية وتتطور من خلال مَن يضحون من أجلها ولأجلها. فلو لم يوجد العلماء الذين ضحوا بأوقاتهم في سبيل المعرفة لما تقدمت الحياة في حقل تطورها، ولما توصلنا إلى معرفة أي معلومة عن أسرار الكون. ولو لم يوجد الحكماء، والمفكرون، والمشرِّعون الصالحون، والأنقياء والأخلاقيون الكبار والمثاليون، لما تعلَّم الإنسان شيئًا عن الناموس الأزلي المدوَّن في كيانه. والحق أن هؤلاء جميعهم ضحوا بحياتهم في سبيل الإنسانية. فهم لم يكتنزوا المال، ولم يتهافتوا على السلطة الظاهرية، ولم يسعوا وراء العظمة الفارغة، ولم يُستعبَدوا لرغباتهم وشهواتهم وأنانياتهم، بل هدفوا إلى خدمة الإنسانية. إنهم ضحوا. وكانت تضحيتهم عظيمة لأنها أنبل ما يستطيع الإنسان أن يعطي.
تبلغ هذه التضحية ذروتها عندما تدرك الإنسانية درسًا عظيمًا من تقديم المسيح ذاته تضحية للإنسانية. وإذا ما سألنا: ماذا تعني هذه التضحية؟ أجبنا: إنها تعني أن الإنسان الذي يرى نفسه في الآخرين يتحد معهم، ويكون واحدًا معهم، إذ يشعر بأنه يحمل أخطاءهم وصعوبات حياتهم وآلامها كلها. وإذ يضحي، فإنه يضحي من أجل الجميع وباسم الجميع. إنه يضحي باسم الإنسانية جمعاء لكي يتم الخلاص لها، من خلال الإنسان الواحد المضحي الذي يجمع البشرية كلَّها في كيانه ويمثِّلها خير تمثيل. تلك هي التضحية الحقيقية.
هكذا، تكون المحبة سرًّا. وسرُّها هذا هو أنها مبدأ يتعالى على كل مبدأ آخر. ولما كان الله هو المحبة، كانت المحبة أنبل ما في الكون. فالله-المحبة يجمع الكون كلَّه في كيانه دون تنافر أو انقسام أو تجزئة. لذا، تحب الأشياء والألوان بعضها بعضًا في الكيان الإلهي الذي هو المحبة.
المحبة هي الجاذبية في لغة العلم. هي جاذبية الخلية للخلية، والذرة للذرة، والجوهر للجوهر، والنوع للنوع، والإنسان للإنسان، والكواكب والنجوم بعضها لبعض؛ هي، إذن، تماسك الوجود، بعضه مع بعض، في كلٍّ متحد. ولولا هذا الملاط، ملاط المحبة-الجاذبية، لتنافرت العناصر، وانفرط عقد الوجود. لهذا السبب، تنجذب موضوعات الوجود إلى بعضها في الألوهية-المحبة-الجاذبية-الكل في الكل.
المحبة هي الانسجام الديناميكي للقوى المتقابلة والمتكاملة؛ هذا، لأن الكون انسجام حي للقوى المتعارضة. ومن خلال مبدأ الانسجام-المحبة تتوافق الأجزاء، وينضم بعضها إلى بعض لتتَّحد في الكل.
المحبة هي القانون الكوني للوحدة في الكثرة؛ المحبة هي مبدأ التوافق الذي يسند كلَّ شيء؛ هي الاتكال المتبادل بين جميع الأجزاء، والاتصال الضمني لكلِّ الظاهرات، والتفاعل الكلِّي الذي يسري في التنوعات.
تعلِّمنا المحبة أن الإنسانية جامعة شاملة، وكذلك الإنسان؛ إنها تمتد على الكون المادي والروحي معًا، فتتجاوز مملكة المادة وتتسامى عليها، بل ترفعها وتُرَوْحِنُها. وشمول المحبة يجعل من البشرية جمعاء أسرة كبرى تنعم بالسلام في كنف الله، الحقيقة السامية والشاملة؛ فإذا الناس جميعًا أخوة لأنهم يجتمعون في الحقيقة الواحدة التي هي الله. وكل إنسان وجميع الناس إنسان واحد وصور كونية متعددة من الناحية الشكلية فقط.
يقوم مبدأ المحبة على أن شمولها العالمي والإنساني الجامع إنما يرتكز على أن جوهرها يعني أن جميع الناس، على اختلاف أعراقهم، وأنواعهم، وألوانهم، وأممهم، يؤلِّفون جسدًا واحدًا، مادة واحدة، وروحًا واحدة، في صورية مادية واحدة لا تتناقض في ذاتها.
إذ أتأمل عمق المحبة، أتساءل: كيف تكون المحبة وسيلة لتحقيق إنسان مثالي وروحي في جوهره وكيانه وغاية بذاتها؟
المحبة توجِّه الفرد إلى رؤية نفسه في غيره، إلى معرفة نفسه في الآخر، إلى نفاذ فرديته في غيره وانصهاره فيه، وإلى الشعور بوجود الأفراد في جامعة تسمى "الإنسان" – صورة الله الجامعة.
المحبة سبيل يسهِّل الانتقال من الفردية إلى الشخصية، من الأنانية إلى الأنانة، أي إلى معرفة الإنسان لنفسه، ومن المادة إلى الروح.
المحبة هي الشعور بالكثرة في الوحدة، بالأفراد في الإنسان، وبالأجزاء في الكل.
المحبة هي وجود شامل ترى فيه الأنا ذاتها في الكل-الواحد.
المحبة هي لقاء الإنسان مع الإنسان في نطاق الحياة الروحية.
المحبة هي نور الإنسان وسلَّمه الـمُعَدُّ لارتقاء الوحدانية الكونية، وتحقيق الإنسانية الشاملة في الحقيقة الإلهية السامية والكلِّية.
ثانيًا: المحبة تعني المسؤولية
من هو المسؤول في المجتمع؟ ومن يتحمل أكبر قدر من المسؤولية؟
هو الإنسان المسؤول الذي يتحمَّل ويضحي لسبب هو أن محبته عميقة في صدره. إنه مسؤول عن الآخرين، وذلك لأنه يحبُّهم وفق ناموس المحبة. إنه مسؤول عن أفعاله تجاه الآخرين. لذا، يجعل هذا الإنسان من الحق طريقًا له ليكون مثالًا حيًّا لغيره. إنه مسؤول عن كل تصرف أو سلوك يصدر عنه لأنه يؤذي الآخرين إن كان سلوكه لا يليق بمسؤوليته ولا يتوافق معها.
فالمحب وفق مبدأ المحبة مسؤول لأنه لا يقيم فرقًا بينه وبين الآخرين، ولا يرضى لذاته ما لا يرضاه للآخرين، ولا يتعاظم على الآخرين ولا يتكبر عليهم؛ وهو لا يرغب في السيطرة على الآخرين، وذلك لأنه يتساوى معهم في الجوهر الإنساني؛ وإن هو تقدَّم عليهم فلكي يخدمهم. ألم يقل المسيح: "من أراد أن يكون فيكم رئيسًا فليكن خادمًا"؟ هكذا، يبذل الإنسان ذاته حتى درجة التضحية لأنه يحب محبة فائقة.
ثالثًا: المحبة تعني القيام بالواجب
لا يؤدي واجبه إلَّا مَن يشعر بالمسؤولية، وأعني المحب المسؤول. فالمتكبر، والحاقد، والمنفعل، والمهمل، والمستغل، واللَّامبالي، والأناني إنسان يهمل واجبه لاعتقاده أن من واجب غيره أن يخدمه، أو أن يحبَّه وفق مفهوم الحب، أو يبجِّله بما يتناسب مع غطرسته. أما المتواضع المحب، الذي يتجاوز أنانيته بفعل المحبة، ويسمو على ذاته، فإنه يقدِّم نفسه للآخرين ويؤدي واجبه نحوهم. وهكذا، يتمثل واجب الإنسان في خدمة الآخرين لأنه يحبهم. والمحب، كما يعلِّمنا المسيح، يَخدم ولا يُخدم. المحب يقوم بواجبه دون أن يطالب بحق.
رابعًا: المحبة تعني العطاء
مَن لا يضحي لا يعطي. والعظيم هو مَن يعطي. أما الناجح فهو مَن يأخذ. العظيم بنفسه، والمتأمل في أعماقه، يبذل ويعطي، وذلك لأن النعمة أو الموهبة التي منحها الله للإنسان تُمنَح وتُعطى دون مقابل. ولا يكون العطاء بالمال وحده، وذلك لأنه أدنى درجة عطاء. لقد أعطى الحكماء الكثير، مع أنهم لم يوزعوا أموالًا أو غنائم، لسبب أصيل هو أنهم لم يأخذوا مالًا من أحد؛ وأعطى العلماء، والحكماء، والمصلحون، والأخلاقيون الكثير، مع أنهم لم يوزعوا الأموال. هكذا، نعلم أن العطاء ينبع من القلب والعقل معًا؛ وتبعا لذلك، لا يعطي إلَّا القلب الممتلئ بالمحبة والعقل الممتلئ بالحكمة. وهكذا، قال المسيح: "مغبوط هو العطاء أكثر من الأخذ."
خامسًا: المحبة تعني اللَّاعنف
اللَّاعنف يعني التسامح، والتحمل، والشعور الكامل مع الغير؛ ولا يطبِّق اللَّاعنف إلا مَن يحب. أما الذي يكيد لغيره، ويحاول القضاء عليه، أو يعمل على وضع حدٍّ لإنسانيته، أو يحاول الانتصار عليه بأي وسيلة كانت، فهو إنسان عنيف وظالم، مهما كان يدعي بأنه يطبق مبدأ المحبة. فاللَّاعنف هو العطف، والاحتمال، والشعور العميق بوجود الآخرين، ومساعدتهم في أعمالهم، وتوجيههم وإرشادهم بأسلوب عادل ورقيق. ويتمثل اللَّاعنف بالسعي إلى معرفة الحقيقة، وفي هذا المجال، قال بولس الرسول: "إن كنت أتكلَّم بلغة الملائكة وليس لي محبة، فلست شيئًا."
سادسًا: المحبة تعني احترام الشخصية الإنسانية
لما كان الإنسان هو المثال المعبِّر عن الإنسانية بكاملها، فإن احترامه واجب كوني. ولا غرو أن احترام شخصية الإنسان يعني تقدير الإنسان، وتقدير الحضور الإلهي في كيانه. لذا، يستمد مبدأ احترام الإنسان وجوده من الوجود الإنساني ذاته، بغضِّ النظر عن نوع العمل، أو المركز الاجتماعي أو الفئوي. ولو أن الإنسان سعى إلى احترام الشخصية الإنسانية، بكل أشكالها وتنوُّع مجتمعاتها، لتجنَّب المشكلات والصعوبات التي اعترضته، ومازالت تعترضه، وأدَّت إلى القلاقل والاضطرابات التي عمَّت البشرية، ولكانت هذه البشرية تنعم بالرفاه والسعادة على كل المستويات.
عندما يبلغ الإنسان نقطة أوميغا في المحبة، وأعني ذروة المحبة، حيث يُستقطَب الكل، يتعاطف مع الوجود تعاطفًا كليًّا. وعندئذٍ، يشاهَد فيه كلُّ خير، وكلُّ صلاح، وكلُّ عظمة، وكلُّ تسامٍ وتعالٍ. ويجد في كلِّ كائن حي، حيوانًا كان أم نباتًا أم طيرًا، وفي كلِّ ظاهرة مادية صدًى لنفسه أو صورة منعكسة لها. وإذ يبلغ هذا المستوى، يدرك أنه يحب الحيوان والنبات والمادة، ويشعر بانسجام وتآلف سرَّاني معها. وعندئذٍ، يعود إلى طبيعته المادية والروحية التي تحتِّم عليه محبة كل شيء في الحياة والانجذاب إلى العالم الأعلى والأسمى. إنه يعود إلى الفردوس الذي فقده.
لقد أحب الله العالم، فأبدعه بكماله وتمامه. وفي هذه المحبة يحقق الإنسان الفردوس، ويحيا في سكينة الحياة الروحية.
سابعا: المحبة تعني نهاية الشر
تتحقق المحبة على صعيدين: أولهما هو الصعيد الإنساني، وثانيهما هو الصعيد الإنساني-الإلهي.
على الصعيد الإنساني، ينجذب الإنسان إلى الإنسان ويحبه. وبفعل هذه المحبة، تنتهي الشرور الاجتماعية، كالكبرياء، وحب الذات، والأنانية، والاستغلال، والبغض، والاستعباد، والتمييز العرقي والطبقي والجنسي. وعلى الصعيد الإنساني-الإلهي، ينجذب الإنسان إلى الله والوعي الكوني، بكامل عقله وقلبه. وفي هذا الانجذاب، يتحقق الوجدان والإيمان الناتجين عن المعرفة والفضيلة والمحبة.
هكذا، نرى أن المحبة هي حكمة الكون المادي والروحي ومثاله. وبتحقيقها، يحيا الإنسان في عالم الحقيقة والخير، وفي عالم الإيجاب، ويضمحل الشر، أي السلب، ويحيا الإنسان في الفردوس الكائن في كيانه، ويعود إلى عليائه، إلى نقائه وطهره، إلى النعمة والمجد، ويحيا الإنسان في كنف المحبة محققًا إرادة الله على الأرض، لتتحقق مشيئته "كما في السماء كذلك على الأرض".
ندرة اليازجي - معابر
إضافة تعليق جديد