الكتابة على إيقاع الموت: الفصل الثالث عشر من رواية "نقطة اللاعودة" لآندريه فيلتشيك

23-05-2014

الكتابة على إيقاع الموت: الفصل الثالث عشر من رواية "نقطة اللاعودة" لآندريه فيلتشيك

الجمل- ترجمة: د. مالك سلمان:
 كانت الكتابة شيئاً إلزامياً. لم تكن متعة قط. منذ أن كنت في سن السادسة عشرة شعرتُ أنها الشيء الذي يجب أن أفعله ولم أشك مرة واحدة بصواب قراري هذا.
   لم يكن الأمر سهلاً. فلكي أكملَ رواية كان عليَ أن أكتبَ مسودتين بخط اليد، وأعيد طباعة الكتاب على آلة كاتبة يدوية وأدخلَ أخيراً المسودة النهائية على الكمبيوتر. كنت أغش أحياناً، ولكن ليس كثيراً وكان كل كتاب يأخذ مني سنتين على الأقل.
   منحتني الصحافة والسفر قصصاً جيدة، كما سهلا عليَ الالتقاء بالناس من كافة أرجاء العالم، وأمنا لي الحوار. كان الاستماع إلى الموسيقاً يساعدني أحياناً في بناء الرواية. وفي أحيان أخرى لم تكن هناك بُنية، حيث كانت القصة تجد شكلها بنفسها. حاولتُ يائساً أن أتجنبَ فظاظة المفاهيم الواضحة. كنت أكره "الخواتمَ العظيمة" التي تمنح القارئ شعوراً بالقوة، والنهايات الميلودرامية السعيدة. كما كنت أكره مغازلة الموت – في الحياة الواقعية وفي كتبي، لكنني لم أستطع تجنُبَ الكتابة عنه.
   لم أكن قد رأيتُ أيَ كياسة في الموت. ففي كل الحالات التي شهدت فيها الموت كان دوماً عنيفاً، وغيرَ متوقع ووحشياً. لم يكن أيٌ من أولئك الذين يموتون يعرف ماذا سيأتي بعد ذلك. بغض النظر عما كان يقوله الرهبان، أو المشايخ، أو الحكماء الهندوس، لم تكن لديهم أية فكرة أيضاً. لا، كان لهؤلاء المنافقين الذين يخيفون قطعانَهم حتى الموت أفواه مليئة بالحب. كانوا يعرفون بالضبط كيف يقبضون ثمن الخوف من المجهول، ويبنون القصور، والمعابدَ، والمساجد، والكاتدرائيات على الرعب من الموت. كان الرجال والنساء الذين يعيشون حياة رتيبة وبائسة على هذا الكوكب يتمسكون بكلمات هؤلاء المنافقين خوفاً مما يمكن أن يأتي بعد ذلك. كانت الأديان تتعلق بحقن المخدر من الزعماء أكثرَ مما تتعلق بأفيون الجماهير. كافة الأديان بلا استثناء حاولت قمعَ الخوف الطبيعي من الموت، حيث قدمت استمرارية مضيئة بعد ذلك، استمرارية تعمل على تبرير الوجود البائس للرجال والنساء الذين يعيشون حياتهم الفارغة والرتيبة على هذا الكوكب. بينما وَسمَ الشيوعيون الأديان بأنها "أفيون الجماهير" – وربما كانوا على حق – فإن الكثير من الناس الخائفين كانوا يتوقون إلى مخدر، الأمل في وجود شيء أفضل بانتظارهم في مكان آخر. جميع الأديان تقريباً، في كلامها عن الحب، مبنية على الخوف.
  
   كان الموت قفزة هائلة في المجهول، مترافقة بالألم ورغبة في البقاء لفترة أطول. على الأقل هذا ما شهدتُه، حيث كنت أعمل مع الموت بشكل شهري. أحياناً لم يكن هناك مكان لمثل هذه الأفكار – لاشيء سوى الألم المريع والذعر. أصبحتُ أنا والموت متآلفين جيداً في سيريلانكا، وكامبوديا، وشرق تيمور، والبوسنة، وإندونيسيا، وتركيا – في أي مكان كنت أغطي فيه الرغبة البشرية في القتل، والتدمير، والسلب. صرتُ معتاداً على رؤيته لكنني حاولتث ألا أكتبَ عنه كثيراً في كتبي. في بعض الأحيان لم تكن هناك طريقة لتجنُبه.
   شهدتُ حادثة الموت الأولى في سنة 1991 في ليما، في كوريوس، حيث قامت منظمة "الدرب المضيء" بتفجير شاحنة عسكرية. وصلت إلى المكان بعد الثالثة صباحاً، بناء على معلومات من زملاء لي في الصحيفة اليومية "لا ريبَبليكا". كان المشهد وحشياً صرفاً، عشرة جنود محروقين ومشوهين داخل الشاحنة. كان أحدهم بلا وجه، ولا يزال حياً. كان رجلٌ آخر يحتضر، ولم يبق منه شيء من الركبة حتى الأسفل. وصلنا جميعاً إلى هناك قبل سيارات الإسعاف والشرطة. بدأ مراسلو "لا ريبَبليكا" عملهم مباشرة – حيث التقطوا الصور للمشهد كله، والفلاشات القوية مركبة على كاميراتهم، بالإضافة إلى إجراء مقابلات مع القادرين على الكلام منهم.
   لم أتلقَ أي تدريب طبي ولم أستطع فعل شيء لمساعدة الرجال المصابين لكنني شعرت بذنب فظيع وبأنني في المكان غير المناسب. كنت أعرف أنهم لا يدفعون لي لكي أشعر بالذنب ولذلك رفعت الكاميرا إلى وجهي، وركزتُ على الجندي الذي فقدَ وجهه، على بعد مترين، حيث رأيتُ عبر العدسة اللحمَ المتدلي، والأعصاب، والدم، وما بقي من وجهه الذي يتحرك يمنة ويسرة على طرف الطريق بلا أي صوت. شعرت بالغثيان، ثم لم أشعر بشيء، وبعد ذلك بالدفء، ومن ثم بالإقياء يتدفق من فمي والدموع التي تترافق عادة مع الإقياء. كانت تجربتي الأولى. سوف أرى أشياءَ أفظعَ فيما بعد، ولكن كانت هذه تجربتي الأولى مع الموت. لم أتقيأ بعد ذلك أبداً مع أنني كنت أحس بنفس الشعور – الذنب واليأس. وفي أعماقي – الخوف من المجهول.
   عندما كنت طفلاً كنت أخاف من الظلمة ولم أكن أستطيع النوم بلا ضوء في غرفة النوم. عندما كنت طفلاً كنت أخاف من كل شيء، وكان خيالي نشطاً إلى حد الألم.
   كنت لا أزال خائفاً في سن السادسة عشرة وقد سئمت من نفسي عندها، حيث قررتُ أن عليَ أن أصبح رجلاً حقيقياً وكانت الطريقة هي الانغماس في أسوأ كوابيسي. قرأتُ كتبَ آندريه مالرو وهمنغواي وأردتُ أن أصبح مثلهما، أن أتمكنَ من النضال من أجل حرية الهند الصينية، أن أمارس الجنس مع ثلاث فتيات صينيات في ليلة واحدة، أن أتمكن من وصف المجازر مثل مجزرة سميرنا بموضوعية أنيقة وتعاطف رجولي، أن أقبلَ الموت بصفته حالة الأشياء، أن أحدثَ النساء عن ذلك كله دون الشعور بأي خوف، مع اختقار أي شعور بالخطر. كان مالرو وهمنغواي رجلين حقيقيين وكنت معجباً بهما، متجاهلاً بشكل تام حقيقة أن الأول قد صار في النهاية وزيراً للثقافة في حكومة ديغول وأن الثاني قد فجرَ دماغه في لجة اليأس المطلق، وهو سكران ووحيد. كانا يمثلان كل شيء أفتقد إليه وأطمح إليه. لم يكن همنغواي بحاجة إلى البحث عن النساء – كانت النساء موجودات دائماً، بغض النظر عن سنه أو حجم كرشه. كانت النساء منجذبات إلى هالته الذكورية، إلى معرفته بالعالم، إلى العرق المتشكل على قميص الخاكي الذي يلبسه.
   تلاشت هذه الموضة في أواسط الثمانينيات ثم بدأت تعود بعد عقد من الزمن، لكنني لم أهتمَ قط بموضة المراسل الحربي والكاتب. كان ذلك عملي وحاولتُ أن أقومَ به لأفضل طريقة ممكنة ومباشرة بعد أن بدأت العمل نسيت أوثاني القديمة وأصبحتُ مهووساً بالدروب والبلدات الضائعة في الغابات، حيث كنت أعاني من الإنهاك الجسدي بعد العمل في المناطق الاستوائية، بالإضافة إلى المناطق والقصص الجديدة. لم يكن هناك مجال للتراجع ولم تكن لدي أي رغبة في التراجع. كانت النساء موجودات هناك دائماً، الكثير منهن، ولكن ليس النساء اللواتي كنت معجباً بهن في الصباح ولم يكن من الضروري أن يُعجَبنَ بي.
   تخلصت من مخاوفي القديمة كلها بعد أن رأيتُ ما كنا أخاف تخيُله في طفولتي. أدركت أن ليس هناك وحوش تعيش في الخزانات، لكنني رأيت رجالاً ونساءً تفجرت أحشاؤهم، وضحايا مشوهين، احترق البعض منهم بشكل كامل. لكنني لم أعد أنظر إليهم بصفتهم كوابيس. كانوا كائنات بشرية تعاني من الألم. اختفى الخوف ولم يتبقَ سوى الشفقة، الرغبة في سرد القصة والبحث عن الجذور التي أدت إلى معاناتهم.
   ظهر خوف جديد يتمثل في عدم المعرفة، في عدم القدرة على الفهم.
   أثناء سفري سرعان ماواجهني اكتشاف أن كل مكان تقريباً، كل بلد مختلف عن النمط الذي خلقه الإعلام الغربي.
   بينما أصبحت الكتابة شيئاً إلزامياً، صرتُ مهووساً بالبحث عن طرق مختلفة وغير نمطية لوصف العالم. وبعد ذلك جاء القرار الطبيعي بالتخلي عن جذوري، والافتراق عن الأمان المريح والمكبل النابع من التمتع بخلفية ثقافية قوية، عن الانتماء إلى مكان وبلد وثقافة أو مجموعة من الناس تتمتع بفلسفة مشتركة وطريقة في الحياة.
   ولدَ هذا القرار حرية هائلة بالإضافة إلى مسؤولية مقلقة. كان عليَ أن أبنيَ عالمي الخاص من الصفر، أن أركبَه من عدة قطع تنتمي إلى ثقافات متنوعة وفلسفات مختلفة أو لا تنتمي إلى أي شيء على الإطلاق – تنتمي لي أنا فقط.
   جاءت كتبي نتيجة لأسلوب حياتي. كانت الهدفَ والتبرير. لن يكون للحياة معنى بدون الكتابة ولم يكن بمقدوري الكتابة دون أن أعيش هذا النوع من الحياة.


- أندريه فلتشيك، "نقطة اللاعودة" (مينستي بريس: 2005؛ 2013)

الجمل

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...