الكاتب «الثوري!!» في فصامه
مرّة أخرى، وقد حدث سابقا، في ما ندعوه ثقافتنا وأدبنا العربيين، أن يتنصّل حكم القيمة النقدي من الانتماء إلى جنسه، ويتماهى مع جنس آخر من النشاط الذهني. لكنه في المرّات السابقة لم يبلغ هذه الدرجة من انعدام المسؤولية والتنكر لأبسط الضوابط والقيم؛ إذ لم يعد الأدب عملية إبداعية تسهم في تفكيك وتحطيم البنى السائدة كخطوة للإضافة وتعزيز المُختلف، حتى أن الحداثة برمّتها قد باتت عند البعض – وقد كانوا من دعاتها المتحمسين – مجرّد تخريب وإفساد للجمال، وبات الاختزال والتكثيف والإيجاز عند البعض أيضا نوعا من الفوقية والتعالي.
لا أجد غرابة في أمر أحكام كهذه أبدا، ما دامت مرجعيّة الأحكام لدى هؤلاء قد انتقلت إلى السياسي الغاضب والموتور. وبات حكم القيمة على الإبداع يستند إلى مدى خدمة هذا الابداع لقضية غير أدبية، وليس للمسألة الأدبية بالدرجة الأولى. يذكرنا هذا بقضية «الأدب الملتزم» التي كان هؤلاء من أشدّ المنتقدين لها والساخرين منها. ويتكشف السبب الآن بأن موقفهم لم يكن من مسألة الالتزام بحدّ ذاتها، أي مسألة تقييد الإبداع، بل من مادة المُلتَزَم به، أي من تصنيفهم للقضايا على قاعدة تستحق أو لا تستحق. ومن هنا باتوا يجدون في فكرة الحداثة، على أنها تفكيك وإقصاء لليقينيات والمعتقدات، أمرا لا يتناسب مع واحديّتهم اليقينية والاعتقادية. ومثلها الإيجاز والتكثيف اللذان يربطونهما بفكرة التعالي والفوقية مُعيدين بذلك مسألة البرج العاجي والابتعاد عن قضايا الجماهير التي كانوا أيضا يأخذونها كمادة للتندّر والسخرية.
الكثير من المُفارقات تتبدى في سلوك وممارسات هأولاء، والسبب يعود إلى المساحة الكبيرة من الادعاء التي يجدون أنفسهم اليوم أمام مهمّة ردمها مع ترك الكثير من المعابر التي سيحتاجونها في طريق العودة. فالموقع الذي يجدون فيه أنفسهم اليوم يفرض عليهم الكثير من المُراجعات التي تتضمن حذفا وتدويرا وتمويها تجعل منهم مناسبين للموقع، وهذا ما لا توفره لهم مقدرتهم الذاتية كما يبدو، إذ لم يعتادوا يوما على أي شكل من المراجعة والتصويب.
أحكام «الثورة» الأدبية
وتنسحب الحديّة (الثورية!!) التي يتبناها هؤلاء الكتّاب في أحكامهم النقدية (سأسميها نقديّة من باب التجاوز) على كل النتاج الإبداعي السوري السابق على الثورة السورية (مع أنه كان لهم في حينه آراء مناقضة تماما بالكثير من هذا النتاج) وذلك استنادا إلى موقف صاحب النتاج من «ثورة» (هم). حيث راجت في السنوات الأخيرة دعوات لإعادة تقييم وتصنيف أعمال المبدعين السوريين، حتى أولئك الذين أكدوا حضورا إبداعيا لافتا على المستويين العربي والعالمي، وذلك استنادا إلى موقفهم الشخصي من «الثورة السورية» حتى ولو كان موقفا نقديا يمتلك الكثير من مبرّرات قيامه. وكأنما للأحكام النقدية مفعول رجعي بالاستناد إلى معيار لم يكن قد وجِد بعد!! وهذا المعيار المحمول على مفعوله الرجعي قد يجعل من تجارب أدبية متدنيّة المستوى أعمالا لا يُشقّ لقيمتها الإبداعية غبار لأن صاحبها وقف مع «الثورة» وجعلها أيقونة مقدّسة. من دون أن يفكروا ولو للحظة واحدة بأن هنالك ما يمكن أن يوجد من فروق، تتأسس عليها تباينات في المواقف، بين الثورة كمفهوم كرّسه تاريخ الثورات على مدى مئات السنين، وبين ما يدعوها هؤلاء ثورتهم المستمرّة والتي يريدون من الجميع تأييدها ودعمها، بدون أي مراجعة نقدية تفترض بهم الإقرار بأن ما يحدث الآن هو شيء آخر، آخر بكليّته، عن الذي بدأ.
من جهتي، لا أجد غرابة في هذا التعنّت المُفعم بالتقديس، إذ لم يعد الأمر أكثر من واجب مدرسي، الثواب والعقاب الذي يقتضيه مجرّد مجد شخصي لا يختلف، في أحيان كثيرة، عن المجد الذي كان يشعره يوما (ميكانيكي) «بوابير الكاز»، ذلك المجد الذي حققه لأنه الوحيد من ارتضى عملا ترفّع عنه الجميع. عليهم تأكيد الولاء لوهمهم الذي يعتاشون عليه، وهمهم الذي كان يوما حقيقة، وأقصد به الثورة. يذكرني الأمر هنا بفيلم «بنت الحارس» للأخوين رحباني. فحقيقة أن الثورة اختطفت ورُكِبت وانتُهكت حتى أنها باتت أثرا بعد عين، أقصد الثورة كتحقق وليس كرغبة وإمكانية، تحرم هؤلاء الواهمين من مصدر عيشهم، كما من لذّة حلمهم. انهم ما زالوا يتمرّغون في وحل استنقاعهم، ويعتصمون بضحالة أفكارهم، مقامرين بتاريخهم، أو ما بدا كذلك، ومنكرين للحقائق التي تفقأ العين.
إهدار الحقائق
أتحدث عن الكتبة الذين لا يتورعون عن تلفيق الأكاذيب وإهدار الحقائق كي يجدوا مبرّرا لوجودهم وكينونتهم، وليقدموا لمشغليهم ما يجعلهم يتريّثون في الاستغناء عنهم. هؤلاء الذين لم تعد كتابتهم تثير غير الغثيان، والذين يعيشون فصامهم وإحساسهم بالرخص والهامشيّة على أنها بطولة لا يدانيها أحد. والذين لا يتركون أثرا للمرايا حيث يقيمون. وأخص من هؤلاء من كانوا يتسيّدون أرفع المواقع الثقافية في ظل السلطة السورية ذاتها.
أتحدث عن الذين يتّهمون، لأن الاتهام من عدّة العمل، كل الكتّاب والمثقفين الذين رفضوا مغادرة سوريا بالعمالة للنظام، وهذه تهمة تعني مباشرة العداء للثورة والوقوف ضدّها. والثورة هنا، إن عنت شيئا، كما يسردها هؤلاء، فهو محاولة اسقاط النظام، التي تمارسها التنظيمات المسلحة من «داعش» إلى «الجيش السوري الحرّ»، مرورا بـ«جبهة النصرة»، و«جيش الإسلام». قلت الجيش السوري الحرّ. نعم. وهو ذلك الجيش الذي يتقدم محتميا بالطائرات والدبابات التركية يتفيأ ظلال العلم التركي في المناطق التي تتمّ عليها السيطرة.
كل من بقي في سوريا، أي في الأماكن التي يسيطر عليها النظام، هم موالون وعملاء. وعليهم أن يكونوا في مكان آخر لتنتفي عنهم تلك التهمة. وبالتأكيد ذلك المكان لن يكون (المناطق المحرّرة والخاضعة للسلطة الثورية) ذلك أن مثقفي المهجر أولئك لا تصل بهم القسوة لدرجة أن يتمنوا لغيرهم ما لا يجرؤون هم على القيام به. ويكفي مرورا سريعا على صفحات أولئك على مواقع التواصل الاجتماعي، أو المطبوعات التي أنشئت لإيجاد فرص عمل تموّه على تسوّلهم، لنكتشف كمية الوضاعة والرخص اللذين يتخبطون فيهما.
أليسَ الفصام بعينه. الفصام بأشد تجلياته وضوحا. أن يكيل المثقفون السوريون، الذين لم ينتظروا انطلاق الرصاصة الثانية في المقتلة السورية حتى كانوا خلفَ الحدود، بدعوى الخوف على سلامتهم، وعلى أمنهم، تهما تتعلق بالوطنية والانتصار للشعب وثورته؟! هؤلاء الذين ما انفكوا عن التغني بتحرير قواهم الثورية لستين بالمئة من الأراضي السورية، وبالتأكيد من ضمن هذه الستين مناطق سيطرة داعش والنصرة، بينما اعتصموا، وسيبقون إلى أمد طويل، ببلدان لجوئهم، دون أن يجرؤ أحدهم على محاولة القدوم للوقوف إلى جانب رفاقه الثوّار!!!
وهنا سينبري الكثيرون للتنصّل من تأييده لمنظمات مسلّحة، دون أن يتوانى عن الحديث بخصوص الكمون الثوري الذي يمثله المدنيون الذين ما زالوا رهائن لدى تلك التنظيمات، ويدللون على هذا بصور مُفبركة لمجموعة من الصبية الذين يحملون يافطات تتحدث عن الثورة المستمرّة. مع ادراكهم المُطلق بأن فهم كلّ التنظيمات المسلحة للثورة لا يتطابق مع فهمهم مهما أنقصنا من قيمة النسبة. وإن كان من تقاطع في المهمات فإنها تتوقف عند اسقاط النظام. ولهذا يجتهد البعض منهم لنفي أي تعارض بين ديموقراطية وعلمانية هؤلاء المثقفين وبين احتفائهم بالانتصارات التي تحققها التنظيمات المسلحة على الجيش السوري، بل ابتهاجهم بمقتل الجنود السوريين، على قاعدة أن لهم الهدف المشترك ذاته، أي اسقاط النظام، الذي لا يقبلون بديلا عنه ولو على يد الشيطان، بعيدا عن كل التبعات التي تترتب على ذلك.
والأمر السابق يتساوق تماما مع الانقلاب على المعايير الإبداعية التي أطنب هؤلاء الكتاب في امتداحهم لها، وفي التأكيد على ضرورة تكريسها، والتي تجلّت في التركيز على مدى مقدرة العمل الأدبي على تفكيك مفاصل الاستبداد والطغيان الذي تمارسه الانساق الثقافية السائدة والمهيمنة، والتي تنحت هامشا للحرية في الكتابة، كما في الانسان. إذ باتت القيمة الإبداعية وكأنما هي الكتابة التي تكرّس العبودية وتحتفي بالطغيان عبر التقديس الذي يأخذ إلى الطأطأة والإذعان. مرّة أخرى يتكشّف في خطاب هؤلاء بأن الوقوف ضد الاستبداد والطغيان لا يتّصف بالشمولية انما بالانتقائية التي تفيد الوقوف ضد طغيان واستبداد بعينهما وتأجيل الموقف من غيرهما إلى إشعار آخر، أو على الأقل إلى حين استعادة الـ (الثورة) من خاطفيها، أو البدء بتنفيذ الجزء الثاني من هذه الـ (ثورة)!!
ياسر اسكيف: السفير
إضافة تعليق جديد