العلمانية بوصفها حلاً للطائفية الجديدة
يطرح الراهن العربي، وما وصل إليه من حالة إغلاق سياسي وتدهور عام، أسئلة بنيوية تتجاوز السطح السياسي إلى الشروط المنتجة له وديناميكيتها الداخلية، وذلك بحثا عن حلول تاريخية ورؤى فكرية استراتيجية تمثل أجوبة ومقاربات جادّة في مواجهة النكوص المتتالي والبحث عن مخرج من المأزق الذي يتجذّر مع الوقت.
في هذا السياق تُمثّل «الطائفية السياسية» (بأبعادها الدينية والاجتماعية والثقافية) أُمّ الظواهر الجديدة في المشرق العربي، وإذا كان التعبير عنها جليّاً في الحالات اللبنانية والعراقية (طائفية مذهبية وعرقية) وفلسطين (بروز العشائرية والطائفية الحزبية) فإنّها أزمة كامنة في العديد من المجتمعات العربية الأخرى لا يكاد يُستثنى واحد منها.
الدلالة الأولى والأهم لبروز الطائفية السياسية، وكمُونِها، تتمثل في تهشم وهشاشة البنية المدنية في المجتمعات العربية اليوم. إذ يرى عالم الاجتماع المصري سعد الدين إبراهيم، أنّ انهيار الهياكل المدنية والسياسية سوف يدفع الأفراد إلى البنى والهياكل المتوارثة والأوّلية المتمثلة إما بالدين أو العشيرة أو الطائفة، بحثاً عن خطوط دفاع تشكل سياجاً آمناً للأفراد من الفوضى والرعب المحيط.
بروز الطائفية يعكس تراجع طموح الإصلاح وإحلال هاجس الأمن والاستقرار ليصبح له الأولوية مقابل مطلب المشاركة السياسية على المستوى الشعبي العام. فأي إصلاح سياسي نتحدث عنه والتجارب السياسية الثلاث التي حدثت فيها انتخابات ومشاركة سياسية أفضت إلى حالة من الإغلاق والقلق وانعدام الاستقرار (العراق، لبنان، فلسطين)، ما يطرح سؤالاً عاماً ونخبوياً (لدى شريحة من المثقفين العرب بخاصة الليبراليين الجدد) عن جدوى الديموقراطية ومآلاتها في الأمد القريب، وفيما إذا كانت الشعوب العربية «مؤهلة» للمشروع الديموقراطي واستحقاقاته؟! ويثير جدالاً حول الطريق إلى الديموقراطية العربية.
كما يعكس صعود الطائفية حالة الاشتباك السلبي والمدمر بين الإسلام والمصالح السياسية المتضاربة، ويؤكد على خطورة جعل الوجدان الديني للجماهير العربية أداة من أدوات الاستقطاب واللعبة السياسية، ما يضر بمضامين الدين نفسه وأهدافه ووظيفته الاجتماعية والسياسية ويجعل منه ذريعة وآلة لتسويغ قتل الناس والاعتداء عليهم والتفرقة بينهم، كما هو حاصل بوضوح اليوم بين السنة والشيعة في العراق.
ثمة علامة استفهام كبيرة، في الراهن العربي، على ما وصل إليه مشروع «الإسلام السياسي» الحركي، فالحركات المتقاتلة في العراق هي حركات «إسلامية»، إمّا سنية أو شيعية، والأحزاب المتنافسة في الكويت والبحرين - برايات طائفية- هي أحزاب إسلامية، ومشروع حزب الله (الشيعي) في لبنان يتصادم مع الجماعة الإسلامية (امتداد للإخوان المسلمين).
بل إنّ رصد مواقف جماعة الإخوان المسلمين وحدها، وتحالفاتها السياسية، يظهر أزمة توظيف الدين في لعبة المصالح السياسية. فإخوان سورية ضد النظام ومع خدّام. أمّا حماس (إخوان فلسطين) فيحتضنها النظام السوري، و»إخوان» لبنان مع تيار المستقبل وجبهة العمل الإسلامي هناك مع حزب الله، أمّا العراق فيقف الحزب الإسلامي (عموده الفقري من الإخوان) في جانب وجماعة الإخوان الأم (في العالم) في جانب آخر. وبتعميم الخلافات السابقة على باقي الأطياف الإسلامية نجد أن هنالك فجوة واسعة ومشهد متشعب ومعقّد من الاستقطاب والصراع والتضارب بين الحركات الإسلامية سواء السياسية منها (القاعدة والإخوان والمنظمات الشيعية) أو الدينية (السلفية والصوفية والأحباش وغيرها...). بمعنى: إنّ عملية نقل حالة الاستقطاب والاحتقان «الديني» إلى المجال السياسي تؤدي إلى مزيد من الإرباك والتهشيم والتضليل، فضلاً عن امتهان الوجدان الديني وتلويثه بإقحامه في الاستقطاب والتخندق السياسي ومنح المصالح السياسية أقنعة دينية ومذهبية. فللمصلحة الدينية والمدنية يجب أن يظل الوجدان الديني صمّام أمان للمجتمع، ومظلة يلجأ إليها المواطنون جميعاً، وملاذاً روحيّاً وأخلاقيّاً.
تبدو المقاربة الغربية، وبالتحديد الأوروبية، باستثناء التجربة الفرنسية، مجالاً خصباً، لنا في المشرق العربي، للتعلّم منها، بخاصة أنّ تلك الدول مرّت بتجربة الحرب الأهلية (اسبانيا) والصراعات المذهبية (هولندا).
كلمة السر، التي تشكل مفتاح الخبرة الأوروبية هي «العلمانية»، والمقصود بالعلمانية (هنا) تلك التي تستبطن القيم المدنية والديموقراطية ومفهوم المواطنة أولاً، وتقوم على ركيزة أساسية هي الفصل بين المؤسسات السياسية والمؤسسات الدينية ثانياً؛ وبأن تكون المؤسسة الدينية محترمة لها استقلالها الكامل والتام عن السلطة السياسية ثالثاً، وهذا لا ينفي حضور المؤسسة الدينية والقيم الأخلاقية في المجال الاجتماعي والسياسي العام، وفي التأثير على الوجدان الروحي وفي التربية والتعليم والمناسبات المختلفة والتأكيد على الالتزام الاجتماعي، ويمكن أن يكون لكل طائفة مؤسساتها الدينية المستقلة، مع وجود ضوابط معينة على مناهج التدريس والوعظ، بما يخدم فقط مفهوم المواطنة والعيش المشترك والسلم الأهلي والمفاهيم المدنية، كما هو الحال في هولندا، حيث يوجد لكل من البروتستانت والكاثوليك مؤسسات ثقافية ودينية واجتماعية وتعليمية، في ظل الدولة، بعيداً عن تدخل السلطة وهيمنتها وفرض أجندتها السياسية عليها، ما يوفر للناس مجالاً ومتنفساً روحياً بعيداً عن تفاصيل السياسة اليومية ومتاعبها.
نجد في التراث الإسلامي مقاربات علمانية واضحة، سعت إلى حماية الدين من السلطة السياسية، ويرى رضوان السيد، المؤرخ والمفكر اللبناني، أنّ العلماء والفقهاء المسلمين كانوا يدفعون باستمرار إلى استقلال المؤسسة الدينية وحمايتها من تغول المؤسسة السياسية. ويمكن التدليل – على سبيل المثال- بكتاب الإمام الغزالي «إحياء علوم الدين»، الذي يطالب فيه علماء وفقهاء الشريعة بوضع مسافة بينهم وبين السلطة، لحماية المعرفة الدينية، احتراماً لدورهم ومكانتهم في المجتمع.
الإسلاميون (حركات ومفكرين وعلماء) مطالبون بقراءة دقيقة ومتمعنة للمتغيرات والتطورات الأخيرة، وبإعادة النظر في «شعار الإسلام هو الحل» ومدلولاته في المجال السياسي، وبالبحث عن دور تنويري حضاري إيجابي للإسلام يتلاءم مع مقاصده، وهو بتقديري ما تقدّمه «العلمانية» بعيداً عن تلك المدلولات السلبية التي شكّلها حولها الخطاب الإسلامي لدى العقل الشعبي العربي خلال المرحلة السابقة.
وثمة فارق شاسع بين تعريف العلمانية بأنّها فصلُ الدين عن الحياة (هذا المعنى السلبي في التجربة الفرنسية والثوروية العربية) وبين أنّها استقلال المؤسسة الدينية واحترامها والسمو بها عن تفاصيل المشهد السياسي.
محمد أبو رمان
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد