العلاقة بين التكنولوجيا والمجتمع العربي

05-05-2007

العلاقة بين التكنولوجيا والمجتمع العربي

الأرجح أنه ليس أمراً مفاجئاً ان يُعطي أكثر من بلد عربي (لبنان ومصر وسورية) انطباعاً مُتشابهاً عن التناغم بين الانترنت والمحجبات. ولم تشعر الأخيرات أنهن بحاجة الى الكثير من الفتاوى في هذا الشأن، بل بادرن الى تملّك التكنولوجيا الرقمية، بما في ذلك صنع برامج الكومبيوتر، وهي أمور ظن كثيرون انها ستبقى مساحة للهيمنة الذكورية المُطلقة أو ما يُشبه ذلك.

لكن، ثمة الكثير من «الظلال على الجانب الآخر» (باقتباس من عنوان فيلم عربي رافق أجواء حرب العام 1967). إذ يصعب التغاضي عن التحدي الذي يطرحه هذا التناغم على النظرة «الحداثوية» التقليدية للمحجبات!

فتقليدياً، اعتبرت الحداثة وأنماطها التي أتت (ولا تزال) من الغرب، على درجة من التناقض مع الحجاب. وترتفع حدّة التناقض عندما يتعلق الأمر بالمرأة، إذ اعتبرت المُحجبة، في نظرة الحداثة التقليدية، أسيرة لمنظومة من الأفكار الذكورية، التي تؤبد دونية المرأة وتبعد هذه الأخيرة عن المشاركة في الشأن العام وكذلك عن التواصل مع ايقاع التطور عالمياً. وفي ذلك الوصف الحداثوي العربي التقليدي، يُشكل الاقتراب من الغرب (بما في ذلك تقنياته ومبتكراته وقيمه وأفكاره) ابتعاداً عن الحجاب ومنطقه. وبالتالي، نظر الحداثويون العرب الى المُحجبة باعتبارها «غريبة» عن الغرب وطرائقه وتكنولوجياته. لكن هذه الترسيمة التقليدية لا يبدو أنها قابلة للاستمرار.

ربما كانت أكثر انطباقاً أيام قاسم أمين، مثلاً، مما هي في زمن «مُحجبات الانترنت»، بحسب وصف مصري شائع عن حضور من يرتدين الحجاب الى نوادي الشبكة الالكترونية المنتشرة عربياً. ثمة مثال آخر، يأتي من السياسة هذه المرة، وربما يصلح لاستكمال صورة الفارق بين الصورة الحداثوية العربية التقليدية عن الحجاب والواقع المُعاش عربياً. ومثلاً، في سياق الانتخابات الكويتية الأخيرة، بثّت احدى الفضائيات العربية نقاشاً بين مقدمة برامج لبنانية ذات ميل حداثي وناشطتين سياسيتين كويتيتين.

ظهر ميل الإعلامية الى ترسيمة حداثية مألوفة: مشاركة النساء شأن حداثي مقتبس من الغرب، ومن البديهي أن تذهب أصواتهن الى ممثلي تلك الحداثة. لكن وقائع الانتخابات قالت شيئاً آخر. وجهدت الكويتيتان، وإحداهن ذات ميل اسلامي والأخرى من الاتجاه الليبرالي، في شرح أن المسألة ليست بتلك البساطة. وبيّنتا أن الاسلاميين ربما كانوا من الأكثر حماسة لتصويت المرأة وحقوقها السياسية والاجتماعية! يمكن العثور على أشياء مُشابهة أثناء تأمل الصورة الاجتماعية للاسلام السياسي راهناً. لنأخذ «حركة الاخوان المسلمين» في مصر. تضم صفوفها ملايين المحجبات الناشطات اللاتي يتقن العمل السياسي والنقابي، ويساعدهن التنظيم الاسلامي في المشاركة في الشأن العام، كما يعضدهن في أعمالهن، ويساعدهن في التمكّن من التكنولوجيا الرقمية، ويدربّهن على الكومبيوتر والانترنت وما الى ذلك. إذا أردنا أن نستطرد من تلك النقطة الى النقاش عن الحجاب، يظهر الواقع العربي- الاسلامي أكثر تعقيداً بكثير مما كانه قبل قرن، عندما كان خلع الحجاب موازياً للحداثة وللمشاركة في الشأن العام ولحصول المرأة على حقوقها. لنؤجل قليلاً الكلام عن الفقه.

ثمة حجاب في الاسلام المُعاصر شديد «التحرّر»، يمتد من الحضور الكثيف للمحجبات في العمل والتعليم والسياسة والثقافة، ولا يتوقف عند اندماج الحجاب مع الثياب الغربية ومع العلاقات المنفتحة على الجنس الآخر!

لكن الشيء الذي يدفع الى تفكير مختلف، يجيء من «الحجاب المتحرر». يُعطي ذلك مثالاً واضحاً عما هو معروف من تعقيد العلاقة بين الأفكار، بما في ذلك الدين، وبين أحوال المجتمع؛ بحيث تتضمن تلك العلاقة الكثير من التناقضات الحادة أيضاً.

وفي المقابل، هل يكفي القول، في تفكير حداثي تقليدي، ان انتشار الحجاب جزء من أسلمة الحياة اليومية، من دون التمعن في التفاصيل الاجتماعية التي تصنع صورة مختلفة عنه؟ إلا يفرض ذلك أيضاً ضرورة أن يُجدّد التفكير الحداثوي نفسه عربياً بحيث ينسج خطاباً أكثر انسجاماً مع الوقائع الاجتماعية العربية، التي تراكمت على مدار قرابة قرن من «التفاعل» (جُلّه عقيم) بين العرب والحداثة؟

في الغرب، غيّر الخطاب المابعد حداثوي، الذي انطلق بقوة خصوصاً منذ ستينات القرن العشرين، كثيراً في الخطاب التقليدي للحداثة، إضافة الى استفادته من تجارب «الحداثة المتوحشة» مثل النازية والفاشية. والارجح أن الحداثة العربية بحاجة الى تغيير مماثل، ينقلها الى قلب «ما بعد الحداثة». ولعل علاقة المُحجبات مع الانترنت، بما تقدمه من مثال على التفاعل بين العلم والتكنولوجيا والمجتمع، تصلح نموذجاً لمثل ذلك التغيير.

أحمد مغربي

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...