العلاجات التجميلية: سوق بلا رقيب
الجمل– د. عمار سليمان علي: قد يبدو العنوان مبالغاً فيه بالنسبة للبعض, ولكن هذه المقالة ليست أكثر من محاولة لقرع ناقوس الخطر لكي يتنبه الناس ومن في يدهم الأمر. ففي ظل التكاثر المريع للعلاجات التجميلية بأنواعها المختلفة (الجراحة والليزر والدهونات والحقن والمستحضرات النباتية والطب البديل والميزوثيرابي وما إلى ذلك...) يبقى السؤال الملح: من الذي يراقب؟ ومن الذي يحمي الناس؟!. بكلام آخر من الذي يقونن تلك العلاجات التجميلية؟. ثم ما هو الحد الفاصل بين الطب والتجارة في تلك العلاجات؟. أسئلة قديمة جديدة, ولكنها تكتسب أهمية فائقة في عصرنا الراهن الذي تداخلت فيه التجارة بالطب بشكل لم يسبق له مثيل في تاريخ البشرية, والأدلة عديدة:
الدعاية والإعلان:
طبعاً من حيث المبدأ يحق للشركات الصيدلانية أن تروج لمنتجاتها ولأصنافها لدى الأطباء والصيادلة خصوصاً ولدى الناس عموماً, بهدف تعريفهم بتلك المنتجات وخصائصها وفوائدها واستطباباتها, ولكن دعونا نذكر هنا بعض الملاحظات من دون تعليق:
ـ تتجاوز ميزانيات الدعاية والإعلان في مختلف الشركات الصيدلانية ميزانيات البحث العلمي بأشواط واسعة. هذا في البلدان المتقدمة, أما في البلدان النامية فلا مجال للمقارنة أبداً وذلك لندرة البحث العلمي هناك.
ـ تلجأ الكثير من الشركات في كثير من الأحيان إلى وسائل دعاية وإعلان تداعب أحلام الناس وتدغدغ طموحاتهم, دون أن تستند إلى أسس علمية راسخة أو تجارب سريرية مؤكدة.
ـ تقدم الكثير من الشركات ما يشبه الرشاوى غير المباشرة للأطباء والصيادلة والموزعين بهدف الحصول على دعمهم في تسويق منتج ما (عينات مجانية, نسبة من الأرباح, هدايا متنوعة, دعوات طعام, حفلات, رحلات, رعاية نشاطات ومؤتمرات وأبحاث علمية من أهدافها الخفية أو المعلنة التسويق لمنتجات معينة....الخ).
الالتفاف على القوانين:
ليس هذا خاصاً بالبلدان النامية كما قد يخيل للبعض, بل إنه ـ فيما يخص موضوعنا ـ ربما كان أكثر انتشاراً في البلدان الغربية عموماً, وفي الولايات المتحدة الأمريكية على وجه الخصوص. فهذه الأخيرة تصدر للعالم القسم الأكبر من المنتجات الصيدلانية ـ بما فيها التجميلية ـ التي تحتاج للقوننة والتنظيم, والتي يلتف بعضها على الأنظمة والقوانين, وهو ما حدا ببعض أصحاب الضمير من الأطباء والصحفيين داخل الولايات المتحدة لرفع الصوت مؤخراً, مطالبين بأن تخضع العلاجات التجميلية بكافة أشكالها وأنواعها سواء كانت كريمات أو دهونات أو حقن موضعية أو أجهزة ليزر أو أجهزة ضوئية أو ما عدا ذلك لسلطة منظمة الغذاء والدواء الأمريكية (FDA) بشكل فعال, وليس بشكل رخو كما هو حاصل اليوم.
دور الـ (FDA):
من المعروف أن الـ (FDA) هي الهيئة المشرفة على الغذاء والدواء في الولايات المتحدة, ويمتد يأثيرها المعنوي إلى سائر دول العالم. وهي من حيث المبدأ موجودة لكي تحمي الناس وتضمن لهم أن المستحضرات الدوائية آمنة وفعالة. وفي الحقيقة فإن عملية الحصول على موافقة الـ (FDA) على تسويق أي دواء جديد هي عملية بالغة الصعوبة, تبدأ في المرحلة الأولى بالتجريب على الحيوانات مع التركيز على المعلومات التفصيلية حول علم السموم والعقاقير والحركيات الدوائية والتفاعلات مع الأدوية الأخرى, ثم يتبع هذا باختبارات بشرية واسعة تبلغ أوجها في تجارب سريرية من الطور الثالث (حسب تصنيفاتهم). يجب أن يكون الدواء الحاصل على الموافقة آمناً وفعالاً في نفس الوقت, ويجب أن تكون فوائده أكثر من مخاطره بشكل واضح. وعموماً يقدر الزمن المطلوب لتطوير دواء ما بـ 7 ـ 9 سنوات, منذ صناعته للمرة الأولى وإلى أن يصبح بالإمكان تسويقه وبيعه للناس. أما وسطي الكلفة الإجمالية لهذه العملية فيمكن أن تتجاوز 800,000,000 دولار أمريكي. تجدر الإشارة هنا إلى أن أي تعديل على أي دواء موجود في السوق وموافق عليه سابقاً يتطلب إعادة العملية برمتها وبكافة مراحلها.
يبدو أن هذه الإجراءات الصارمة في مجال الأدوية (وما زلنا نتكلم هنا عن الأدوية!) من حيث الزمن والكلفة والتعقيد كانت فعالة إلى حد بعيد, ولا يقلل من شأن فعاليتها بعض الحالات المعزولة التي حدثت مؤخراً ـ كالجدال الذي دار حول عقار Vioxx (rofecoxib) ـ وأدت أحياناً إلى اعتبار الـ (FDA) قريبة جداً من المصانع الصيدلانية!. إذ على الرغم من ذلك تظل الـ (FDA) حاجزاً صعباً في طريق المصانع التي تطمح لتسويق منتجاتها, وزيادة أرباحها. ويستطيع المرء أن يتصور أن تخطي عملية الحصول على ترخيص الـ ( FDA) يدخل في صلب اهتمامات تلك المصانع. ومن هذه النقطة بالذات تبدأ المفاجآت:
الوسائل الطبية:
تكمن المفاجأة الحقيقية في أن الترخيص للمستحضرات الموضعية والمواد المالئة التي يستخدمها أطباء الجلدية والتجميل يدخل تحت بند الوسائل الطبية, وليس الأدوية!. والوسائل الطبية هي الأجهزة والأدوات والنسج المزدرعة وما إلى ذلك المعدة خصيصاً لتشخيص أو معالجة أمراض محددة, ومن الأمثلة عليها أجهزة الليزر ونواظم الخطا القلبية. الأمر اللافت هو أن هذه الوسائل تخضع (في الولايات المتحدة) لقانون قديم يعود إلى العام 1938 بقي رغم التعديلات التي أدخلت عليه فيما بعد رخواً, وقد كان معداً على الأغلب للحد من الاحتيال الاقتصادي, وليس للحكم على الفعالية والأمان الطبيين.
وفقاً لذلك القانون ترخص الوسائل الطبية بأحد شكلين: إما بشكل موافقة نظامية قبل تسويقية تشبه إلى حد كبير ما شرحناه سابقاً بالنسبة للأدوية, وإن كانت هنا أكثر سهولة. أو بشكل ثان يسمونه (510 ك) وهو يعني أن وسيلة طبية ما يمكن أن تحصل على الموافقة لمجرد أن وسيلة مكافئة لها مادياً قد حصلت سابقاً على الموافقة, مفترضين أن لهما نفس الفعالية والأمان. وهذا الطريق بالطبع أسهل بكثير. وفي الحقيقة فإن معظم أجهزة الليزر الحديثة وأجهزة الضوء النابض المركز (IPL) تسوق كتطبيقات (510 ك). وفي معظم تلك التطبيقات لا تقدم أية معلومات سريرية لنيل الموافقة, بل إنها لا تكون مجربة إلا على عدد قليل من المرضى لا يتجاوز غالباً الـ 10. وإذا كان عادياً بالنسبة للأطباء وللناس على السواء اعتبار أجهزة الليزر وأجهزة الضوء النابض المركز وسائل طبية, فإن المفاجئ تماماً للأطباء قبل سواهم أن تصنف الكريمات المسوقة حديثاً لاستطبابات محددة مثل التهاب الجلد التأتبي أو ترميم الجروح كوسائل طبية, وليس كأدوية. وبشكل مشابه فالمالئات المعدة للحقن ـ لمعالجة التجاعيد مثلاً ـ لا تعتبر أدوية بل وسائل طبية, وهكذا فحصولها على الموافقة أسهل بكثير!.
الاستطباب غير المصنف:
لعل المفاجأة الأكبر هي ما يعرف بمصطلح "الاستطباب غير المصنف". وهو يشير إلى دواء أو وسيلة نالت الموافقة على استطباب طبي نوعي واحد, بينما الاستخدام التجميلي هو الهدف المنشود. فإذا كان المنتج حائزاً على موافقة الـ (FDA) لاستخدام نوعي واحد, يحظر على المصنعين الترويج لأي استطباب غير مصنف بأي شكل من الأشكال, ولكن يسمح للأطباء باستخدامه لأهداف واستطبابات أخرى, فهم أحرار في ذلك, وهذا أمر قانوني تماماً. ولكن ينتج عن ذلك منطقة رمادية واسعة يستغلها المصنعون عبر تقديم الرعاية لأطباء الجلدية والتجميل للقيام بإلقاء محاضرات وتقديم شروحات وبراهين عن الاستخدام غير المصنف لمنتجاتهم من المواد المالئة وغيرها من علاجات ومستحضرات التجميل. وبالرغم من أن محاضرات الأطباء تكون عادة منظمة ومضبوطة وخاضعة لمعايير مهنية وعلمية صارمة إلا أن إجاباتهم عن الأسئلة ليست كذلك, وعند هذه النقطة بالذات يكونون أحراراً في النصح بالاستخدام غير المصنف. وهكذا فالـ (FDA) لا تستطيع التدخل مع هؤلاء الأطباء ماداموا لا يروجون للمنتج بشكل مباشر ولا يعملون كوكلاء للمصانع الصيدلانية, إذ ينطبق عليهم في هذه الحالة فقط الحظر المتعلق بالاستطباب غير المصنف.
وماذا عن بلداننا؟:
إذا كان ما سبق هو الحال في الولايات المتحدة التي تصدر إلى العالم بأسره كل تلك الأمور, بسلبياتها قبل إيجابياتها, فكيف هو الحال في البلدان النامية وعلى رأسها بلداننا العربية؟!. طبعاً الوضع أسوأ بكثير, ولا سيما مع الانتشار الغزير لمراكز التجميل التي لا توجد قوانين وتشريعات تضبطها وتنظم عملها, كما يفتقر معظم المشرفين عليها والعاملين فيها إلى شهادات علمية أو طبية موثوقة, وهم يستخدمون فيها كل ما هب ودب من مستحضرات التجميل ووسائله وتجهيزاته, معتمدين بالدرجة الأولى على الدعاية والإعلان والإبهار, بحس تجاري بحت يفتقر إلى أبسط قواعد العمل الطبي الذي يهدف أولاً وأخيراً إلى الحفاظ على صحة الإنسان. فكم حري بوزارات الصحة ومختلف الهيئات الصحية أن تحاول تنظيم الأمور وقوننتها وضبطها, وكم حري بنا كأطباء أولاً وكأناس عاديين ثانياً أن نتوخى الحيطة والحذر الكاملين قبل اللجوء إلى مختلف أنواع العلاجات التجميلية المعروضة في سوق يبدو أنه بلا رقيب!.
/ طبيب, ماجستير بالأمراض الجلدية / سوريا
الجمل
إضافة تعليق جديد