"العشب الأحمر" لبوريس فيان.. الخيال العلمي يحاكم السماء
في روايته "العشب الأحمر"*، يسائل الروائي الفرنسي بوريس فيان السماء، ويحاسبها، بدلاً من أن يجعلها هي من تحاسبه على أفعاله الدنيوية. ينتزع فعل الحساب من الآخرة، ويمنحه للبشري. بطل الرواية، الذي يخترع ماكينة يصعد بها كل مرة إلى السماء، ليلتقي أحدهم، يفتح معه دفتر أفعاله، ويلقي عليه الأسئلة، لكن بعد قليل، وبعد أن نصل إلى منتصف الرواية القصيرة، نكتشف أن فعل المحاسبة، يجريه البطل وولف البشري الصاعد عبر ماكينته المخترعة، لهؤلاء المنوط بهم أن يحاسبوه على أفعاله.
يخترع بطل الرواية ماكينة تمكنه من الصعود إلى السماء، هو ومساعده "سافير"، وينتظران بشغف اللحظة التي يصعد فيها "وولف" إلى السماء بمفرده، إذ إن الماكينة لا تتسع إلا لشخص واحد، يأتي الناس من كل مكان ليروا المخترع وماكينته، إلا أنهم ينشغلون عنها بأحوال المدينة، والعمدة وزوجته التي تحتكر المصالح، تنافس التجار ببيع بضاعتهم، ويهيئ لها زوجها بهيمنته السياسية كل السبل لتكتسح منافسيها، إلا أن هذا ليس موضوع الرواية، بقدر ما يعرض له كيف كانت الأحوال تجري في باريس، في زمن الأحداث، إذ كتب بوريس فيان عمله ذلك بين عامي 1948 و1949.
لم يكمل بوريس فيان المولود العام 1920 لعائلة ثرية، الأربعين من العمر، إذ رحل في سنة 1959، لكنه عاش حياة كبيرة الإنتاج الأدبي والموسيقي. كتب سبع روايات، ومجموعتين شعريتين، ومسرحية، بالإضافة إلى عزفه الموسيقي إذ أنشأ كهوف الجاز، وهي أندية ليلية تحت الأرض لعزف هذا النوع من الموسيقى. ووسط هذا الانشغال بالموسيقى والأدب وكتابة الرواية والشعر والمسرح والقصص، يتخلى عن دراسة الهندسة، وكل ما له صلة بها، ميمماً وجهة حياته تجاه الفن والموسيقى والأدب، ومن ضمن أنشطته الكثيرة التي انخرط فيها قبل وفاته الاشتراك في الإعداد الفني لأوبرا "فييستا" والاشتراك في الإعداد الفني للفيلم السينمائي، المستوحى من روايته "سأذهب للبصق على قبوركم" لاعبا أحد الأدوار فيه.
سكين
في "العشب الأحمر"، هناك مهندس، يصنع ماكينة، من معدن صلب رمادي اللون، يلمع بأضواء فضية عندما تسقط عليه أشعة الشمس، "في تلك الحالات تبدو الماكينة من بعيد كسكين يقطع السماء"، هكذا يصفها بوريس فيان، في الصفحة الثانية من الرواية. يكتب فيان رواية هو غارق في تصوراته عن الآخرة، وعن السماء، وعمن يقبع فيها مراقباً، ومنتظراً للبشر ليحاسبهم، هكذا تبدو هذه الرواية المكتوبة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية ببضعة أعوام، تحاكم كل الهواجس التي انتابت البشرية بعد حرب أفنت الملايين.. فيتصور في رحلته الأولى أن عجوزا ينتظره، جالسا يرتدي ملابس كتانية بيضاء، هي الصورة النمطية نفسها التي يتم تصويرها منذ قديم الأزل عن الإله والأولياء، وإلى جوار هذا العجوز لوحة نحاسية صغيرة كُتب عليها بحروف سوداء عبارة "الرجل الجوهرة". يظهر هنا تأثيرات رحلات أكزوبيري في "الأمير الصغير"، ورحلات دانتي في "الجحيم " و"المطهر" لاستكشاف عوالم السماء، وتلقي الحساب، هناك حوار قصير بين وولف بطل الرواية، والعجوز، يتطرق فيه الأخير إلى انشقاق وولف عن الكنيسة، وخروجه على الأعراف التقليدية، وعدم رغبته في الامتثال لأي مذهب ديني، والإنكار التام لكل مبادئ الديانة المسيحية الكاثوليكية برمتها.
ولكن وولف لا يستسلم لما يطرحه عليه العجوز من استفسارات عن ميوله الدينية، بل يرد عليها بأسئلة، ولهجة مستهزئة، ثم سرعان ما يهتم بالمناقشة، ويخوضها مع العجوز مستعيداً حياته ومراحلها، وعلاقته بوالده. وفي الرحلة الثانية لوولف بالماكينة، يلتقي بقس، يطرح عليه أسئلة مماثلة لأسئلة العجوز، وإن ركزت أكثر على معتقداته الدينية، وهو ما سيجعل صاحب الرواية، ينخرط في مناقشة أكثر حدة وسخرية من الديانة المسيحية الكاثوليكية، ومن اعتقاد الإنسان في وجود الإله بشكل عام، إذ يقول وولف على لسان بطله: وجد وولف نفسه في الممر الذي سبق له، أثناء رحلته الأولى التي قابل فيها الرجل العجوز، أن وجد أمامه رجلا تخطى سن الشباب، لكنه لم يصل بعد إلى سن الشيوخ، يرتدي لباس الكهنوت.
تبدو رسائل بوريس فيان في الحوار بين بطله، وبين القس واضحة، تتضمن أفكار جيل خرج من الحرب العالمية الثانية، فاقد الإيمان بكل شيء، بعدما شهد مذابح مروعة، وحرب بشعة التهمت الملايين في حفرتها. يهاجم فيان عبر لسان بطله طقوس التناول في المسيحية ويهاجم تحريم الأديان لغرائز الجسد. يقول للقس: أليست هذه هي الغرائز التي غرزها لنا الله في أجسادنا؟ فإذا كانت شريرة، وهي من صنع الله، إذن فهو شرير، وإذا لم يكن شريرا، فلماذا وضعها في أجسادنا؟
ويصل في جداله مع القس إلى النتيجة التي تقريباً وصل إليها جيل شهد ما شهد وخرج معظمه محطم النفس. يقول فيان على لسان وولف: سأقولها لك بشكل مباشر، أنا لا أعتقد في وجود رب يسيطر على كل شيء، أين هو المنطق في وجود الله، إذا كان الأشرار هم الذين يسيطرون على العالم؟ وأين هي قوة سيطرة الرب مع وجود كل قوى الشر تلك التي تغزو العالم؟
مغامرة بوريس فيان الأدبية في "العشب الأحمر"، لا تقتصر فقط على صعود بطله إلى السماء، وجدالاته العميقة حول الدين والحياة والآخرة، بل تمتد أيضا إلى السفر إلى قاع الأرض، حينما يصحب مساعده "سافير" إلى رحلة في عالم خيالي يسميه "الكهوف الأرضية" متناولا قصة ربما تكون خيالية، عن أن الناس في فرنسا القديمة قبل ألفي عام، كانوا يحفرون خنادق تحت الأرض ليعيشوا فيها إذا سقطت قبة السماء عليهم، في هذه الكهوف يندلع نقاش حاد بين سافير وولف، ولأول مرة يرى قارئ الرواية سافير محتداً على رئيسه، معترضا على تلقيه الانتقادات والتسفيه من أفكاره. ينتبه القارئ ربما إلى أن وولف وسافير يشكلان ثنائيا يشبه دانتي إليجيري وفيرجيليو شاعر اللاتين في الجحيم، أو ربما يشبهان أيضا نبي الله موسى والخضر.
كهوف
ينتقد فيان أبناء جلدته، البيض، الذين يتعالون على السود، ويظنون أنهم مفضلون عليهم، وأن الله ميزهم باللون الأبيض، إذ يقابل وولف وسافير راقصا إفريقيا في هذه الكهوف، يؤدي رقصات غريبة، يقول فيان: الاعتقاد السائد لدى أغلب البيض أنه يكفيهم بياض بشرتهم، حتى يكون هذا وحده السبب في إحساسهم بالتفوق على السود، المفروض أن يحدث العكس، أن يشعروا بالدونية تجاه السود، لأن اللون الأبيض للبشرة، بسبب نقص مواد التلوين في خلاياها.
قارئ الرواية سيتعرف أيضا على القصص القصيرة التي كان يكتبها فيان، إذ قدم المترجم ملحقا في الفصل الثالث عشر من الرواية، يضم 3 قصص قصيرة منفصلة عن الرواية، وحوار مع الناقد الفرنسي جيلبير ريستيرو، يتحدث فيه عن الرواية، ويحلل شخصية بوريس فيان، وظروف عصره، وهو ما يمثل إضاءة مهمة على أعمال هذا الأديب الذي يترجم للمرة الأولى إلى العربية.
*صدرت عن دار آفاق للنشر والتوزيع في القاهرة، بترجمة عادل أسعد الميري
المدن
إضافة تعليق جديد