العراق: 5000 جثة للبيع والواحدة بـ 200 دولار
لم يكن فيصل زهرون يعلم يوم غادر العراق، بسبب تردي الأوضاع الأمنية، أن طريقه من عمان إلى البصرة ستكون سالكة قبل أن يفكر جاداً بزيارة قبر والدته في مقبرة الصابئة، قرب حي شعبي شيعي شمال المدينة. إلا ان زهرون الذي تبددت مخاوفه من احتمال تعرضه للمضايقة أو الملاحقة، بعد رؤيته بعض أصدقائه في البصرة ممن تركهم قبل عام، فوجئ بالقطع المتناثرة من شاهد قبر أمه، فراح يجمعها من هنا وهناك، محاولاً ترتيب أحرف اسمها المكتوب باللغة المندائية القديمة (إحدى لغات العراق القديم)، ليتأكد منه بعيداً عن أعين أصحاب المحلات الصناعية التي أقيمت عشوائياً على قبور أبناء الطائفة.
لولا حزنه لجمع الكثير من نثار شواهد قبور أهله التي تتقاذفها أقدام الداخلين والخارجين من الحي الصناعي.
وما هي إلا لحظات حتى عاودته مخاوفه. بعد رؤيته مشهد المقبرة، خيل اليه أن أحدهم سيمسك به ويدخله قبرا يقام عليه بعد يومين من دفنه دكان حداد أو ورشة لإصلاح السيارات.
استجمع شتاته ليخرج كأي متبضع يدخل المكان للمرة الأولى، وهو يسترجع الأيام الجميلة التي قضاها طفلا في محلة الصابئة في حي الجمهورية، وعلاقاته مع الأصدقاء المسلمين والمسيحيين او اولئك الساكنين في محلة العبيد من الذين شردوا من المحمرة بعد مقتل شيخها خزعل الكعبي مطلع القرن العشرين، مستعيدا الوئام كاملا ومسترجعا أيام النضال معهم ضد الحكام والانخراط في العمل السياسي. وعلى حلم غامض أسلم عينيه للنوم، تلك الليلة، في بيت صديق طفولته المسلم يوسف.
في الصباح قص عليه يوسف حكاية المقبرة كاملة: نبش بعض الملثمين قبوراً كثيرة هنا وجمعوا رفات الموتى في أكياس وباعوها الى الإيرانيين على أنها رفات جنودهم ممن قتلوا في الحرب. أوهموا الايرانيين أن هؤلاء هم أبناؤهم الذين سقطوا خلال الحرب في الشلامجة ونهر جاسم وبحيرة الأسماك (حيث سقط آلاف الإيرانيين). واضاف يوسف، معرباً عن اعتقاده بأن رفات أم زهرون قد تكون أصبحت خارج الحدود أيضاً.
وكان العديد من سكان المناطق الحدودية، من الذين أرهقهم حصار السنوات العشر، في طل الحكم السابق، امتهنوا البحث عن رفات الجنود الإيرانيين، وبيعها الى الحكومة الإيرانية مقابل 200 دولار للجثة الواحدة. وهكذا تم نبش مناطق شاسعة على الحدود بين الدولتين، وحيث اوجت الألغام بحياة عشرات الآلاف. وما زال مركز تسليم الشهداء في منطقة الزبير (30 كلم عن البصرة) يحتفظ بأكثر من 5 آلاف رفات لم يتم التعرف اليها من العراقيين والإيرانيين.
هناك أكثر من مقبرة لأكثر من طائفة ودين في البصرة، وقبل أن تصبح مقبرة الصابئة في منطقة خمسة ميل، حياً صناعياً، كانت مقبرة اليهود في البصرة القديمة (5 كلم عن مركز المدينة) تحولت هي الاخرى إلى سوق لبيع الأبقار والخيول، قبل أن تصبح حياً سكنياً، هو اليوم أحد أفضل أحياء المدينة. وقبلها تحولت مقبرة جنود الحرب العظمى (مقبرة الانكليز)، الواقعة في محلة الحكيمية، إلى مرمى للنفايات تحيط بها محلات الباعة والمساكن العشوائية بعدما كانت حديقة تغطي قبورها الزهور وتديرها وزراة الخارجية.
ياسين محمد صدقي
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد