العبقري المريض انتونان آرتو يكشف أسراره
يمكن الاكتفاء بزيارة واحدة لتقويم معرض أنتونان أرتو (1896-1948) القائم راهناً في المكتبة الوطنية (باريس). فضخامته وطريقة تنظيمه التي تقوم على مقاربة كل جوانب إبداع هذا العملاق ومختلف مراحل حياته، تحولان دون خروج الزائر بأكثر من انطباعٍ عام، عند الزيارة الأولى، وتتطلبان بالتالي منه زيارات أخرى للإحاطة بمضمون هذا المعرض الشامل.
وبالفعل، يتوق القائمون عليه إلى إظهار أرتو الرسام والشاعر والكاتب والمنظّر المسرحي والسوريالي المنشق والممثل السينمائي والمريض... ولهذه الغاية، تم جمع باقة واسعة من أعماله كرسام ودفاتره ومراسلاته وكتبه والمجلات التي شارك في تأسيسها أو في تحريرها، ولقطات من المسرحيات التي أخرجها ومقتطفات من الأفلام التي أدّى فيها أدواراً ثانوية مهمة... باختصار، كمٌ هائلٌ من الوثائق والصور يمنحنا فرصة فريدة لتأمّل أرتو في كل أبعاده وعبقريته.
ملاحظتان لا بد من تسجيلهما على طريقة تنظيم المعرض قبل التطرّق إلى مضمونه: تراكم كبير في بعض الصالات يؤدي أحياناً إلى طمر أرتو تحت كتلة ضخمة من الوثائق يصعب التمييز داخلها بين المهم والأقل أهمية، وتقسيم المعرض في شكلٍ تتوزع فيه الصالات المخصصة لكل من السينما والمسرح والرسم من جهتي رواقٍ مخصصٍ لمرض أرتو ومراحل معالجته في المصحات العقلية، ما يجعل من «جنونه» المحور الموجّه لمسار المعرض! ومع ذلك، لا يسعنا سوى الانحناء أمام الجهد الشمولي المبذول، للمرة الأولى، نظراً إلى صعوبة الإحاطة باهتمامات أرتو الواسعة وانجازاته الكثيرة في ميادين أدبية وفنية مختلفة.
على مستوى فن الرسم، يوفر المعرض مقابلة مثيرة بين الزائر والفنان بواسطة أهم البورتريهات الذاتية التي حققها أرتو في بداية مساره وخلال السنوات الأخيرة من حياته، ومن خلال بورتريهات خصّ بها الآخرين، أصدقاء وغرباء. وتسحرنا هذه الرسوم التي تبدو بتصدعاتها والتواءات خطوطها كتعويذات تعزيم ألم أرتو النفسي وهواجسه. ونشاهد فيها وجوهاً مشوّهة، تائهة بفعل ألمٍ أقوى من الألم البشري، ومختصرة بحدة نظراتها القاسية والمفجعة، وجوهاً تعكس قذارة الدنيا واشمئزازها من ذاتها.
والمثير في هذه البورتريهات الذاتية أيضاً طاقتها على تمثيل ما لا وجود له، ما لا قدرة له على الوجود، وعلى استحضار ذلك الذي لم يتمكن من أن يكون في هذا العالم أو حتى من تصديق وجوده فيه، الأمر الذي يحوّلها أيضاً شهاداتٍ حية ومؤثّرة في إحساس أرتو بالتواري وبتواري صورته بالذات التي تظهر باستمرار مفرّغة من محتواها ومن كثافتها.
وإضافة الى هذه البورتريهات، نشاهد في المعرض عدداً كبيراً من الرسوم الغريبة التي نفّذها أرتو بقلم الرصاص ومزج بعض خطوطها وأشكالها بألوانٍ مختلفة. وفي معرض وصفها، كتب الفنان عام 1946: «هذه الرسوم ليست رسوماً بل وثائق يجب تأمّلها وفهم ما في داخلها»، الأمر الذي يُبدد سوء الفهم إزاءها ويبيّن عدم انتمائها الى الفن بالمعنى الأكاديمي للكلمة الذي حاربه أرتو منذ بداية مساره. فضرورة تفسيرها تحوّلها بالتالي ركائز لفكره ولرؤيته الى العالم. وتتميز هذه الأعمال برعونة مقصودة في الرسم وبعنفٍ في التنفيذ يعكسان معاناته طوال حياته من العزلة الجبرية في المصحات العقلية، وبحركة تمرّد واستهزاء موجّهة ضد القيم الشائعة للفكر والفن.
في ميدان المسرح حيث سجّل أرتو أهم انجازاته، يتوقف المعرض عند بداياته كممثّل وناقد مسرحي ولكن بخاصة عند «مسرح ألفرد جاري» الذي أسسه عام 1926 مع روجيه فيتراك وروبير أرون وسمح له بالتعبير عن أفكاره الثورية في مجال الإخراج التي استوحاها من التظاهرات الدادائية والسوريالية التي كانت في أوجها آنذاك.
ويتوقف المعرض أيضاً عند كتاباته النظرية خلال فترة الثلاثينات التي جمعها في كتابه الشهير «المسرح وقرينه» (1938)، وهي قلبت مفهوم المسرح وتقنياته رأساً على عقب وأسست مسرحاً جديداً من أبرز مزاياه: مركزية الموضوع العنيف، مشاركة المشاهِد والممثّل في طقس مشهدي يسد الفراغ أو النقص الكامن في الحياة نفسها، تحديد لغة مسرحية خاصة ترتكز على الجسد والحركة أكثر من ارتكازها على النص والسيكولوجية، دمج كل هذه العناصر ضمن ميتافيزيقيا خاصة.
واعتبر أرتو المسرح كأكثر شكلٍ فني واعد لأنه «الإبداع في طور حصوله»، يتقابل فيه جسد الممثّل بجسد المشاهد فتنفتح أمامهما هوة من الإمكانات. وهدَفَ مسرح أرتو في شكلٍ متواصل إلى تغيير ما هو مُعطى بواسطة الجسد أو بواسطة الأشكال الفنية المعتمدة.
ويسمح هذا النشاط الخاص بإدراك حالة الأجساد نفسها وباكتشاف ما لم يكتمل فيها بعد، ما لم يجد شكلاً له بعد، وبالتالي بإبراز ذلك النقص الذي يبقى، من غير هذه الشروط، خفياً يستحيل إدراكه. باختصار، يلقي مسرح أرتو الضوء بفظاظة على واقع الأجساد، أو بالأحرى على عدم واقعيتها وغيابها المحتّم، ولهذا سُمّي «مسرح القسوة».
على الصعيد السينمائي، يستحضر المعرض، عبر عددٍ من الصور الفوتوغرافية والأفلام، الأدوار الثانوية التي أدّاها أرتو بين عامَي 1924 و1935 في أفلام تجارية مهمة وأخرى طليعية، فحوّلها بواسطة حدّة أدائه وحضوره المغناطيسي أدواراً رئيسة لا تزال حتى اليوم تغذي أسطورته، مثل دور مارا أو سافونارول أو الراهب ماسيو. ويتوقف المعرض عند تعاونه مع أبرز المخرجين السينمائيين ومنتجي الأفلام آنذاك، مثل أبل غانس وفريتز لانغ وجورج بابت. ولكن مع صعود السينما الناطقة، ابتعد أرتو عن هذا الميدان لضروراتٍ فقط، فالمسرح وقرينه، أو الحياة، قادران بنظره على تلبيتها.
وتختتم المعرض كتابات أرتو النقدية في ميدان فن الرسم وقد تناول فيها، منذ العام 1920، رسامين كباراً، من الماضي أو معاصرين له، مثل أوتشيللو ودولاكروا وأندريه ماسون وبيكاسو وبالتوس ودوبوفي وخصوصاً فان غوغ الذي كتب أرتو بحثه الشهير حوله، «فان غوغ، منتحِر المجتمع» (1947)، خلال شهرين فقط، كردّ فعل على مقالة في مجلة «فنون» حاول فيها أحد الأطباء تصوير الفنان الهولندي كمختل عقلياً. وفي هذه النصوص، تتبيّن لنا خصوصية مسعى أرتو النقدي الذي، بدلاً من تحليل ما هو مرئي في لوحات هؤلاء الرسامين، سعى دائماً إلى كشف الروح التي تستبق العمل الفني وتجعله ممكناً أو قابلاً للتجسيد.
انطوان جوكي
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد