الصراع الخفي بين اجهزة المخابرات العراقية الرئيسية
انه المأزق الدامي في العراق, مرة اخرى, و«حرب المساجد» التي تجددت بين السنة والشيعة في اعقاب تفجير مئذنتي مرقد الامامين العسكريين في سامراء, تشكل مرحلة انفلات اعمى في عملية تعميق الفرز المذهبي, تمهيداً لاقرار المشروع الفدرالي بكل جوانبه التقسيمية. لكن وراء الحرب المتجددة حقيقة اخرى لا يمكن اغفالها وهي تتمثل في الصراع الخفي بين اجهزة المخابرات العراقية الرئيسية, وتحديداً بين وزارة الأمن وجهاز المخابرات الوطني العراقي.
الأميركيون انشأوا جهاز المخابرات الوطني في شباط / فبراير/ 2004 وبدأوا بتطويع ضباط وعملاء فيه من مختلف الطوائف وعهدوا برئاسته الى الجنرال محمد شهواني, وهو سني من الموصل ومتزوج من شيعية, وكان قائداً للقوات العراقية الخاصة خلال الحرب العراقية الايرانية. في العام الماضي انشئت هيئة منافسة لهذا الجهاز دعيت «وزارة الامن», وعهد بادارتها الى شيروان الوائلي, وهو عقيد سابق في الجيش خدم في منطقة الناصرية خلال عهد صدام, ويعتقد انه تدرب في ايران, ولديه اتصالات مع ضباط المخابرات الايرانية في بغداد. ويبلغ عدد العاملين في الوزارة قرابة خمسة آلاف شخص, وهو العدد نفسه تقريباً في جهاز المخابرات الوطني. وشهواني موجود حالياً في الولايات المتحدة, ويعتقد انه لن يعود الى العراق الا اذا حصل على تطمينات من رئيس الحكومة نوري المالكي بمساندته, وهو يخشى من انهيار الجهاز اذا قرر البقاء في الخارج.
وكان الاميركيون يأملون من انشاء هذا الجهاز التصدي للتدخلات الايرانية في العراق, والقيام بهجمات فعالة ضدهم, ولهذا الغرض طوع رئيس فرع ايران في جهاز المخابرات في عهد صدام, الامر الذي اثار حفيظة الايرانيين ومؤيديهم العراقيين.
والكثيرون في حكومة المالكي ينظرون بتوجس الى شهواني, لكن مؤيديه يؤكدون انه يتخذ موقفا مستقلا من الصراع المذهبي الدائر في العراق, وقد قدم معلومات مخابراتية هامة ادت الى اعتقال العديد من قادة «القاعدة», كما انه قدم ايضاً للأميركيين معلومات عن المتمردين السنة. وتقول هذه المصادر انه قد ابلغ المالكي قبل بضعة اشهر عن محاولة لاغتياله كان سيقوم بها احد حراسه الذي يعمل سرا للزعيم الديني الشيعي مقتدى الصدر, كما كشف محاولة اخرى لاغتيال نائب رئيس الحكومة الكردي برهام صالح. ويصفه عارفوه بأنه شخصية كاريزماتية وقد اشتهر العام 1984 عندما شن هجوما بطائرات الهليوكوبتر على القوات الايرانية في جبال كردستان العراقية. لكن الرئيس صدام حسين غضب منه لاحقاً, وتم توقيفه واستجوابه في العام 1989, وما لبث ان غادر العراق عشية الغزو العراقي للكويت في ايار /مايو/ 1990, وفي العام 1991 بدأ يعد خطة للقيام بانقلاب عسكري ضد صدام باستخدام عناصر من القوات الخاصة التي كان صدام قد حلها. حرب المساجد التي تجددت يقرأها الخبراء الامنيون في سياق الصراع القائم بين الجهازين, وهو صراع عمل الاحتلال الاميركي ولا يزال على تأجيجه وتعميقه بقصد التهيئة الميدانية لعملية تطهير مذهبي يدخل بعدها العراق مرحلة «الفدرلة» او التقسيم الفعلي. وتجدد الحرب المذهبية يؤكد, مرة اخرى, ان الخطة الاساسية لغزو العراق لم تتبدل ولو تبدلت وسائل العمل والتكتيكات احياناً. والمخطط كما رسمه زلماي خليل زاد منذ لقائه اركان المعارضة العراقية في انقرة /العام 2002/ هو الآتي:
اولاً بدء تصريف الامور في العراق بعد اسقاط نظام صدام حسين من خلال حاكم عسكري مباشر, يساعده عدد من جنرالات الحرب ومسؤولون في وزارة الخارجية الاميركية من المعنيين في الملف العراقي, بالاضافة الى دور مؤثر لجهاز المخابرات المركزية لتثبيت وتركز سلطة الحكم العسكري.
ثانيا معارضة اي فكرة لاقامة حكومة موقتة او مجلس انقاذ وطني, من قبل المعارضة العراقية وتقديم بديل اميركي معد بعناية لاقامة ادارة مدنية موقتة من العراقيين, الذين تختارهم واشنطن, تستمر من سنتين الى ثلاث سنوات الى حين اجراء انتخابات حرة في البلاد.
ثالثا الغاء اي دور للمعارضة العراقية التي كانت في الخارج, وهذا ما اصاب بعض جهات المعارضة بالاحباط, بالرغم من ان واشنطن سعت الى تجميع اكبر عدد ممكن من فصائل المعارضة في لندن, من خلال تفويضها لمجموعة من ستة فصائل معارضة (المجلس الاعلى للثورة الاسلامية في العراق والحزبان الكرديان والوفاق الوطني والمؤتمر الوطني والحركة الملكية الدستورية), للتحضير لذلك المؤتمر, وهذا الالغاء يتجسد في تصميم الادارة الاميركية على «اختصار» دور هذه المعارضة في حدود «الاستشارة» وهذا تعبير في مضامينه السياسية واللغوية, لا يعدو ان يكون تهميشاً جادا لقوى المعارضة العراقية من كل الاتجاهات, ولا سيما مجموعة الستة, التي كانت تعول على اعتراف واشنطن بها كممثل للمعارضة العراقية لدى استقبالها لممثليهم في آب 2002 في اجواء مبالغ فيها في الاحتفاء سياسيا واعلامياً.
رابعا خلال هذه الفترة ـ من سنتين الى ثلاث ـ ومن خلال حكم عسكري مباشر وغياب لقوى المعارضة العراقية, الا من مجموعات «متناثرة» تعول واشنطن على تعاونهم معها ليكونوا بمثابة ادوات فنية تساعدها في ادارة شؤون البلاد, سيقوم الاميركيون برسم الخطوط العريضة, وحتى التفصيلية للسياسة الخارجية للعراق مع العالم, وتحديا مع الدول العربية وبشكل خاص مع دول الجوار, كما ان هذه الفترة الطويلة ستسمح للاميركيين برسم خريطة انتاج وتسويق للنفط, بما يتلاءم ويتطابق مع مصالحهم بالدرجة الاولى, وهذا يعني بالضرورة انه سيكون على حساب المصالح الاوروبية في النفط العراقي, وايضا على حساب روسيا في هذا المجال.
هنا لا بد من الاشارة الى المجموعات, التي تعاونت مع واشنطن من العراقيين, وبعبارة ادق «سخرتهم» واشنطن لتنفيذ برامجها, هؤلاء في غالبيتهم شاركوا في الدورات التأهيلية التي عقدتها واشرفت عليها وزارة الخارجية الاميركية, والتي يصطلح عليها بمجموعات العمل, وهؤلاء في اغلبهم من الليبراليين الذين لم تكن المعارضة الاسلامية (الشيعية اساساً) تصنفهم في قائمة المعارضين, ويبدو ان الخارجية الاميركية تعمدت ان يكون هؤلاء من هذا النوع, حيث غاب عن اغلبهم الاسلاميون, الا من شخص او شخصين ممن لوحظ عليهما المشاركة في اكثر من مجموعة. وكان المخطط هو ان الافادة من هؤلاء العراقيين في المرحلة الانتقالية تحت ادارة اميركية مباشرة, من شأنه ان يخفف من اللون القاتم لصرامة الحكم العسكري (الذي كان مقترحا للعراق) امام الرأي العام, الداخلي والخارجي. ومما سبق, فان ملامح «التحرير» في العراق, الذي دعت اليه الادارة الاميركية وبشر به الرئيس جورج بوش, لا يعدو ان يكون مطابقة للشعار الشهير, الذي اطلقه البريطانيون عند غزوهم العراق في العام 1917 وهو: «جئنا محررين ولسنا فاتحين», ولكن السنين العجاف التي تلت من بعد, اكدت حرصا اميركيا على تطبيق عكسي لذلك الشعار, مثلما فعلت بريطانيا بالضبط.
يبقى السؤال: ماذا بعد؟ وهل يخرج العراق من المعادلة المذهبية المعقدة التي تكبله بعد اربع سنوات على الاحتلال, في ظل الحروب المذهبية المتلاحقة التي تسعى الى تفتيته!
جاد بعلبكي
المصدر: الكفاح العربي
إضافة تعليق جديد