السعادة صناعة، ومشوار البحث عنها هو السعادة عينها

22-10-2010

السعادة صناعة، ومشوار البحث عنها هو السعادة عينها

إليزابيث جيلبرت امرأة تبحث عن إجابات على أسئلة الحياة الكبرى. في لحظة وعي، تجد أن حياتها أصبحت بلا معنى، فتقرّر القيام برحلة على مدى عام كامل، في محاولة للبحث عن الذات وإيجاد التوازن الداخلي. بعد تجارب حبّ فاشلة عاشتها، بدءاً من طلاقها من زوجها، ثم انفصالها عن صديقها، اكتشفت أنها لم تعد تشبه نفسها في شيء، وأنها بدأت تخسر ما يكفي من الطاقة للتمتّع بالحياة. قرّرت الكاتبة الأميركيّة جيلبرت، المولودة في العام 1969، تغيير مسار حياتها الرتيبة والمملّة، والتخلّص من الإيقاع الثابت الذي يكبّلها. مع عشقها للسفر، ورغبتها الملحّة في الخروج من القالب الذي نمّطها وخلخل توازنها، انقلبت على نفسها، وتخلّت عن كل شيء، بحثاً عن توازنها الداخلي.
كتاب «أكل، صلاة، حب» كرّسته «ليز» (كما تُسمّي نفسها في الكتاب) لتسجيل تجربتها الممتلئة بالمشاعر والاختبارات، ولحثّ المحيطين بها (كمرحلة أولى) والنساء تحديداً (من خلال مشاركتهنّ تجربتها ونصائحها) على اختيار الطريق الأقل سلوكا، وهو ما يُحدث الفرق كلّه. والكتاب، الذي بيعت منه ملايين النسخ في العالم، تمّ تحويله إلى فيلم من إخراج رايان مورفي وبطولة جوليا روبرتس. هذه الأخيرة، بما امتلكته من إحساس عال، تمكّنت من أن تُظهر «ليز» جيلبرت، التي تمتهن الكتابة، أمرأة ذكية ومرهفة، تنطلق في رحلتها حول العالم بحثاً في داخلها هي التي لا تبتغي الهرب، بل استعادة السيطرة. هي ليست سائحة عاجزة، بل سائحة ناضجة وواثقة من سحرها.
ثالوث
يركّز الكتاب والفيلم تالياً على هذا الثالوث «البديهي» في حياة كل انسان: الأكل والحبّ والصلاة، ويبني على فكرة مفادها أن نعرف كيف نعيش هذا الثالوث. أو بالأحرى ألاّ نعيشه وحسب، بل نتعرّف على أنفسنا ونحن نمارس كل جزء فيه. تبدأ رحلة روبرتس/ ليز من إيطاليا، من روما تحديداً، مع شعبها الذي «يعرف في حياته المتعة لا التسلية»، على نقيض الأميركيين. هناك، تستعيد معنى شهية الأكل واشتهائه، وتقيم علاقة حميمة مع معكرونتها، وتمارس عشقها البيتزا النابوليتانية. روما تستقبل «ليز» بذراعين مفتوحتين، حيث الحب والشغف و«لذة عدم القيام بشيء» والتدخّل في حياة الآخرين. هناك، عاشت تجربة التعرّف على شعب يمتلك شغفاً فطرياً، وعلى لغة تُعاش قبل أن تُحكى (يُفرط الإيطاليون في استخدام الإشارات أثناء الكلام)، والأهم أنها اختبرت متعة الأكل من دون قيود، حيث الأكل عشق ولذة لا ينتهيان. ثم تنتقل في رحلتها إلى الهند، كي تجد روحها في معبد. تتعلّم، بعد إشباعها معدتها، كيف تشبع روحها، وكيف «تسامح نفسها على أنانيتها». فهي لم تفكّر إلاّ في ذاتها، عندما تركت عالمها وزوجها وأصدقاءها خلفها ومضت. تتعلّم كيف تكرّس عملها من أجل الآخرين. لا تبحث ليز جيلبرت في الهند عن إله مسيحي أو يهودي أو هندوسي أو غيره، بل عن كيان روحي مطلق، يؤمّن لها السلام/ الصفاء الداخلي والسعادة، كي تعيد ترميم داخلها/ دواخلها. وإن كانت أشهر العزلة التي قضتها في الهند تبدو صارمة في البداية، نشعر في نهاية زيارتها برغبة عارمة في اختبار هذه التجربة يوماً ما، أقلّه اختبار اليوغا. ليس فقط كرياضة جسدية، بل كفلسفة حياة.
أخيراً، تسافر ليز إلى «بالي» في أندونيسيا. تقابل طبيبها الروحاني «العرّاف» كيتوت، الذي تنبّأ لها في بداية الفيلم بكل ما حدث معها في حياتها قبل عام. قال إنها ستنطلق، وتبدأ رحلة البحث عن الذات. قال إنها ستخسر كل مالها، وإنها ستستعيده من جديد، وتعود إليه مرّة أخرى، وإنه سيعلّمها كل ما يعرفه عن الطب الروحاني، وعن توازن الحياة، وإنها ستجد الحبّ الذي وإن كان يخلّ بتوازنها، فهو ضروري لاتزان الحياة نفسها.
في إطاره العام، قد لا يبدو الفيلم أكثر من رحلات امرأة مطلقة، محمّلة بنسوية مرهقة تعيش حالة فشل زوجي. إذ لم ينجح في الخروج عن القوالب النمطية للعالم المثالي، الذي تقبل عليه النساء الأميركيات والغربيات عموماً في مداواة القلق الذي يعشنه. إيطاليا في مناظرها السياحية الطبيعية وتماثيلها الشهيرة وطبيعة شعبها وحبه لكرة القدم، والأهم مطبخه المتميّز بـ«البيتزا» و«السباغيتي»، والهند بوصفها مساحة للصلاة، حيث نشهد جرعات زائدة من «ترف» الروحانيات. فليز، على الرغم من الفقر والقذارة المحيطة بها، تسعى إلى أن تكون متأمّلة بوذية تعيش الصفاء الروحي واكتشاف الذات من خلال الصمت والتعبد. أخيراً، الحب في «بالي» حيث الجنة والرجل البرازيلي الثري والوسيم بانتظارها لتقع في حبه صدفة. وجبة جاهزة سريعة وخفيفة، تقدِّم للمُشاهد ما يعرف، ولا تسعى إلى تغيير معارفه المسبقة والمعدّة سلفاً. قد لا يكون الفيلم/ الكتاب قدّم جديداً في مضمونه القائم على البحث عن الذات، وبالتالي السعادة. وقد يكون «اجترّ» نصائح فلاسفة كبار لم يبخلوا في الكلام عن الأسطورة الشخصية لكل فرد، وعن الإشارات الواجب اتّباعها لمعرفة الطريق الصحيحة، وأسهبوا في فلسفتهم حول اتباع الأحلام والصراع الأزلي مع الحب في أعماقنا، ومع القلب الذي يلحّ علينا دائماً بحثاً عن السعادة. غير أن ما يُحتسب له إيجاباً، هو هذا القالب الجميل الذي وضعها فيه. أفكاره، وإن باتت تُعدّ في إطار «الكليشيهات»، لا نزال نحتاجها، ولا نعرف السبيل إلى الجرأة في ممارستها.
أسئلة
أقلّه، استطاع الفيلم أن يقرع في داخلنا الأسئلة حول جرأتنا على اتّباع أحلامنا، وقدرتنا على التجرّد ممّا يعيقنا، وما نحن عليه من أفكار. من منا لا يرغب في أن يرمي داخله بترسبّاته كلّها، بعد علاقة حب فاشلة ويمضي؟ من منا لا يحتاج إلى أن يخرج بعيداً عن أفق حياته اليومية الضيقة، والروتين نفسه، والعمل نفسه، والوجوه نفسها؟ التخلّص من التسمّر المميت أمام شاشة التلفزيون، والاستماع إلى الهراء يومياً. تغيير البلد. الهرب بعيداً عن الكادر الضيّق لحياتنا اليومية، حيث يمكننا العثور على أنفسنا. في الفيلم، تقول ليز: «الخراب جميل، لأنه قد يكون بداية التغيير». لكن الدافع إلى السعي إلى اكتشاف عالمنا الداخلي، قد ينطلق من طلاق أو من مئة سبب آخر. فعندما نصل إلى هذه الحلقة المفرغة، يصبح كل فعل وكل تفصيل يحيط بنا فاقداً المعنى أو الدافع. بعضنا، خلال رحلة البحث عن السعادة، يشعر بالوهن والاكتئاب. بعضنا الآخر يحاول إقناع نفسه بعبارات من قبيل: «أتمتّع بالصحة ولديّ منزل وعائلة سعيدة وأصدقاء محبون وعمل. لا بُدّ، إذاً، من أن أشعر بالسعادة». إلاّ أن الفيلم أعاد إلينا فكرة أن «السعادة صناعة»، ومشوار البحث عنها هو السعادة بعينها. السعادة جهدٌ شخصي. أمرٌ نسبي. في الفيلم، تجد ليز أن السعادة كامنةٌ في تصالحها مع نفسها، وإيجاد توازنها الداخلي. هدفٌ تكافح من أجله وتناضل لتحقيقه، وتستمر في الإصرار عليه. قد تجوب العالم أحيانا بحثا عنه. وعندما تجد السعادة، تحارب لتحافظ عليها، كي تسبح في أحضانها، دائماً باتجاه الأعلى.
في زوايا كثيرة، يطرح الفيلم إشارات صغيرة تتقاطع مع حياة كل واحد منّا، في مكان ما من هذا العالم. ما هو أصعب من البقاء بعد اعتياد الزواج، هو الرحيل. هذا ما عاشته ليز. للمرّة الأولى، تلجأ إلى الصلاة. تتحدث إلى الله، وتطلب منه إشارات ليساعدها. نعيش جميعنا في انتظار إشارات ما، وفي تحليلها (إذا أتت) للقيام بخطوة معينة، أو للإقدام على تصرّف ما. تشجّعنا عبر تجربتها على أن نتعلّم كيفية اختيار أفكارنا بالطريقة نفسها التي نختار بها ملابسنا. هذه قوة يمكن تنميتها للسيطرة على الأمور السيئة التي تغلّف حياتنا. تدفعنا إلى أن نكفّ عن النظر إلى العالم فقط من منظار العقل، فمنظار القلب مهم أيضاً. «مضادات الاكتئاب السياحية» ساعدت ليز على التعرّف على ذاتها. في الهند، واجهت «شياطينها الداخلية» بالتأمّل. في بالي، استطاعت التوفيق بين الروحانية والمتعة وتتويجهما بالحب. كثيرات (وكثر) مررن بقصص مشابهة، وافتقرن إلى جرأة الخروج من النمطية.
عن الأكل
أما الأكل، فيحتلّ حيزاً كبيراً أيضاً في رحلتها. في حياة كثيرين منّا، وفي مراحل الكآبة، نشعر بالجوع، ويتملّكنا إحساس مرعب من الفراغ، نسعى إلى ملئه بشتّى الطرق. اعتادت النساء على كبح رغبتهن بالأكل، وعلى تأنيب أنفسهنّ في حال الإفراط به. لكن ليز تقول لصديقتها: «هل هرب رجل منك وأنتما في السرير، لمجرّد أن رآك قد اكتسبت بعض الوزن؟ طبعاً لا، فوجوده معك هو جائزته الكبرى». كذلك تظهر فكرة السعي باتجاه سبر أغوار الذات عبر البحث عن الآخر. عندما تحاول ليز أن تطلب من أصدقائها بمناسبة عيدها التبرّع بالمال لشراء منزل لعائلة مؤلّفة من أم وفتاة صغيرة تدعى توتي، تقول إن معنى كلمة توتي في إيطاليا هو «العالم كلّه». وتضيف: «أثناء بحثنا عن مساعدة أنفسنا، ننتهي بأن نساعد العالم كلّه». فهي تعتقد في رحلة البحث أنها تقبض على معنى حياتها، أو تمنح حياتها معنى وقيمة هي بحاجة ماسة إليهما. البحث عن السعادة والمغامرة والتفاعل مع الآخرين والحياة والطبيعة.
أفكار عدّة تتدافع في الفيلم. منها مثلاً مشهد في إيطاليا، يتحدث فيه من تعرفت إليهم ليز عن أن لكل منهم كلمة خاصة يتبنّاها في الحياة وتُعرِّف به. كلمة ليز كانت «لنعبر». فكرة العبور جميلة. تدفعنا إلى التساؤل عن «كلمة» كل واحد منا، التي يتبنّاها ويعمل من أجلها. والكلمة قد تكون حلما أو فكرة.
في جانبه التقني والبصري، نجح الفيلم في التقاط كادرات جميلة، فأتت المناظر الخلاّبة وصُوَر الطبيعة رائعة. كذلك الموسيقى جاءت منسجمة مع الصُوَر والحالات. والأهم التقاط التفاصيل الدقيقة. مثلاً: تصوير الأكل أثناء طهيه، عندما تكون المواد المكوّنة في حالة «عشق» بعضها للبعض الآخر. الـ«بارميزون» المتناثر فوق السباغيتي. لحظات التأمّل في الهند، وغيرها.
في النهاية، يمكن القول إن «الوصفة» الأساسية في الفيلم تتجلّى في فكرة واحدة، مفادها أنه: «في طريقك إلى تغيير حياتك، قد يتوجّب عليك أن تهدم حياتك نفسها». تبدو طريقة أكيدة للبدء من جديد، وإيجاد الذات. وسواء أحببنا ليز أو لا، وسواء رضينا عن توقّعاتها وأحلامها أو لم نرضَ، لا يسعنا إلاّ أن نصدقها، وأن نتذكّر و«نحن ندعو الله أن يربحنا ورقة اليانصيب، ألاّ ننسى أن نشتريها».

هيفاء زعيتر

المصدر: السفير

التعليقات

ماكتبته جميل قد لا تعجب الكثيرين فكرة الياناصيب والدعاء ولكن بعد ما قرأت ...مازلت أستحضر أقرب محلات بيع الدي في دي لأشاهد الفلم الذي وصفت شكرا لك وأيضا تصفيق

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...