الذاكرة الدينية ... من التفريغ إلى التفعيل
لم تكن صدفة أن تجد ملايين الناس يتوافقون على اتخاذ يوم من السنة عيداً يكفون فيه عن العمل ويقومون بكل «الطقوس» المعتادة للعيد. وليس تبديل الرزنامة بعد تقليب كل أوراقها في وقت واحد من الملايين، مجرد توافق عفوي أو ارتجالي على يوم من أيام السنة يتخذ مبدأ للتقويم.
ما يجمع الأعياد والأحداث الكبرى في العالم هو صدورها عن رمز أو معنى أو أصل ديني أو ثقافي أو حضاري، وتتناسب ضخامة العيد أو الحدث وشموليته مع عمق هذا الرمز وتجذره في البنية الاجتماعية والخيال المشترك للأفراد الذين يتمثلونه. وتشكل قوة الرمز رمزاً لقوة هذه الكينونة الاجتماعية, ولكل عيد مستويات رمزية متعددة بحسب الظرف المكاني أو الزماني، أو بحسب قدرة المعنى الأصلي على توليد معان إضافية.
تشكل رموز ومعاني الأعياد، كأصول التقويم، ككثير من النفائس الفنية والأعمال الأدبية ذات الانعكاسات الدينية، ذاكرة اجتماعية مشتركة لكم هائل من الأفراد الذين ينضوون في تجمع بشري واحد. وقد يبدو من العبث إنكار هذه الذاكرة أو تحريفها، فضلاً عن محاولة محوها وطمس معالمها، كما يبدو لمعتنقي «الدعوة العلمانية» الصارمة في المجتمعات العربية والإسلامية.
مشكلة «المتعلمنين» هنا أنهم يصدرون عن مذهب «الجبرية الفكرية»، الذي يحملهم على إجبار الناس على محو ذاكرتهم إن كانت دينية أولاً، واعتناق العلمانية ثانياً بحدودها التي يترك لهؤلاء «الشيوخ» أنفسهم تفصيلها، مع تقنع هذه الجبرية بلبوس التحرر والليبرالية التي يبدو أنها ليبرالية أصولية تتخذ من العلمانية ديناً وتريد أن تطبقه بأصولية لا تختلف عن أصولية المتدينين الذين يخرجون كرغوة فكرية تريد من أتباع الدين أن يعتبروها حقيقة لا تقبل الجدل.
في بلد مثل فرنسا، تجد العلمانية الشاملة تقبلاً وحضوراً على المستوى الرسمي والشعبي أكثر من المسيحية ذاتها، وهي تشكل حالاً فريدة في العالم العلماني بعمق حضورها وشراسة المدافعين عنها. ولم يكن سبب ذلك قوة الأفكار العلمانية وسحريتها، بمقدار ما كانت هشاشة الأفكار المحسوبة على المسيحية التقليدية الرجعية التي ارتكست بمعاداتها للعقل ووصلت إلى إضعاف بل تشويه الرمز والمرجعية الدينية التي توحد أتباعها، مع سطوة سياسية وقمع فكري ولد رد فعل لم تخب آثارها حتى اليوم. وعلى رغم ذلك، فبعد أكثر من قرن على تطبيق الفصل الرسمي للدولة عن الكنيسة عام 1905، ومع العلم أن فصل الدين عن المدرسة كان سابقاً على ذلك ويرجع إلى العام 1882، فالملاحظ اليوم هو الوصول إلى أزمة اجتماعية يلخصها أحد فلاسفتهم بأنها أزمة رمز جمهوري ناتج من غياب المقدس المشترك كما يسميه، مما أنشأ جيلاً فاقداً للذاكرة، فهو لا يملك ذاكرة لماضيه ولا روحاً نقدية لهذه الذاكرة.
إنها أزمة جيل منقطع عن موروثه الحضاري وتراثه الفني والأدبي. إنها أزمة جيل يقلب أوراق الرزنامة بغباء، «ويقف شاب منه أمام لوحة للسيدة مريم العذراء فيتساءل باستهتار: من هذه المرأة؟».
والدعوة اليوم إلى تعديل الصيغة العلمانية بصورتها الفرنسية على أشدها. واللافت أن التفكير بتطوير العلمانية ينطلق اليوم من الميدان الذي بدأ تطبيقها فيه من المدرسة، إذ يقترح كثير من الفلاسفة والتربويين تدريس الظاهرة الدينية في المدارس العامة.
العلمانيون في المجتمع العربي والإسلامي مصرون على أن يدخلوا النفق الفرنسي المظلم والطويل، والذي تحاول الفلسفة الفرنسية الخروج منه اليوم، مع تجاهل التجارب الحضارية لمجتمعات أخرى مثل «الصين والهند واليابان، وكذلك إلى حد كبير المجتمعات الروسية، ومجتمعات أميركا الشمالية والجنوبية». وهم متشبثون بفكرة الزج بالعلمانية في جبهة الصراع مع الدين وتقديم صيغة واحدة تعرّفها على أنها نقض الدين وإزالته من الحياة. والحال «أن العلمانية لا تتقدم على حساب تجريد الدين من صدقيته [وإلغاء] مبادرته واستقلاله، كما يعبر عنهما وجود سلطة دينية ذات صدقية ودور ومكانة في النظام العام، وإنما من خلال تعميق الانسجام والتفاهم داخل النظام المجتمعي العام ذاته بين سلطات تعترف كل منها بالأخرى وتحترم صلاحياتها وسلطتها».
تبقى الرموز والمعاني الدينية وإن تم استغلالها بالربح والتجارة مناسبة للتذكير بالحضور القوي للفكر الديني الذي قد يفتر، ولكن من الصعب على الجميع تفريغ الذاكرة منه. والأجدى عربياً وإسلامياً هو تفعيل هذه الذاكرة لتصبح ذاكرة منتجة لا مستهلكة ومستوعبة فحسب. وما تتميز به الأحداث ذات الخلفيات الدينية هو استيعابها مستويات رمزية كثيرة. فعيد الميلاد، وإن نسي المسيحيون أصله الديني، فهو يحمل معنى الولادة والحياة، كما أن الفصح يحمل معنى التجديد. وعيد الفطر عند المسلمين عيد السعادة البشرية والتكافل الاجتماعي، كما أن الأضحى هو عيد الكرامة والمساواة الإنسانية. كان المسلمون واعين لهذه المعاني العميقة حينما أرخوا بالهجرة بدلاً من ميلاد النبي، ليبقى وهج الإصلاح والتجديد والبناء، وهذه المعاني كما هو ملاحظ تشمل المؤمنين والملحدين من المسلمين والمسيحيين، والعلمانيين.
صهيب زهران
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد