الدراما المسرحية بين المسرح الأوغاريتي والمسرح الفرعوني
أول ظهور للمسرحية في مصر الفرعونية (نصوص الهرم الخمس والخمسون)، وهي نصوص كتبت على الجدران الداخلية للمعابد والاهرامات، وتضمنت نصوصاً على لسان اشخاص، ينطقون بصورة واضحة مع بعض التعليمات المسرحية، عن احتفالات كانت تقام في عيد التتويج، أي تتويج ملك جديد، وقد اكتشفت تمثيلية متطورة في منفيس حوالي سنة 3100 ق. م، كان احد اشخاصها الإله (بتاح) يرجع تاريخها الى عصر المملكة الوسطى حوالي 2000 ق.م وتحيي ذكرى تتويج الملك (سنوست الاول).
لكن اذا تجاوزت مدة حكم ملك من الملوك ثلاثين عاماً احتفل في هذه الذكرى بتمثيل مسرحية درامية خاصة تسمى (هيب سيد) تعكس أبرز الأحداث التي وقعت خلال مدة حكمه الطويلة، كذلك كانت تقوم احتفالات على ضفاف النيل عند الانتهاء وقطاف المواسم وجني المحصول، وأشهر هذه المسرحيات (غرام أبيدوس) التي بقيت تمثل سنوياً منذ 2500 ق.م وتمثل هذه الدراما معاناة (أوزيروس) وغرام اخته، وزوجته ( ايزيس) ،( كان الملوك الفراعنة يتزوجون اخواتهم ، وقد ادى هذا في النهاية الى انقراض سلالاتهم) ومولد ابنهما (حورس) والبعث الاخير لأوزيروس، تاركة ارض الموتى، وهناك ادلة على انه في تمثيلية (غرام أبيدوس) الطويلة كانت مناظر المعركة الحربية، تتضمن قتالاً حقيقياً وكان يموت بعض المشتركين في تمثيل ذلك القتال، وكانت هذه التمثيلية في الأصل تمثيلية (اخصاب) تتناول فيضان النيل السنوي وعبادة الطبيعة البدائية، ويبدو ان جميع هذه الانشطة الدرامية المسرحية كانت خاضعة لإشراف الكهنة، وكان الممثلون يرتدون الملابس المناسبة لأدوارهم، كأقنعة رؤوس الحيوانات واجسادها ولباس الجن والعفاريت...الخ كما يحدث اليوم في بعض المسرحيات .
يرجع تاريخ هذه المدونات المصرية الى ثلاثة ألاف سنة قبل الميلاد، أما عن النشاط الدرامي المسرحي في ارض وادي الرافدين، فإنه كان أشبه بعروض تمثيلية متصلة اتصالاً وثيقاً بطقوس الاساطير أو بالاخصاب أو بالامطار الموسمية، فمثلاً مسرحية (عيد رأس السنة) في بابل توصف بأنها كانت تعرض آلام الإله ( بيل) أي ( بعل) الذي ذهب الى العالم السفلي ليقابل التنين الذي ابتلع خضرة الارض في الشتاء وعودته بعد ثلاثة ايام وهذه الطقوس المسرحية ليست حكراً على الفراعنة والبابليين وغيرهم من الشعوب الزراعية، فعندنا هنا في (منطقة اللاذقية) وفي (مملكة أوغاريت) تحديداً، كانت حكايات (بعل) تُروى كل عام في بدايات فصل الخريف، حين كانوا يعبرون عن افراحهم بجني غلال العام الزراعي المنصرم.
ويحتفلون بسقوط الامطار الباكورية التي تعلن عن بدء اعمال الحراسة والبذار لموسم جديد، فيصلون شاكرين مهللين لتدوم هذه الفرحة العامرة ففي اسطورة (بعل ويم) نرى (الاله بعل) إله المطر والريح أكثر الآلهة قرباً والتصاقاً بحياتهم اليومية سواء كانوا مزارعين يعتمدون على المطر أو صيادين يبغون هدوء الريح او تجاراً يمخرون عباب البحر، لذلك كانوا يتحلقون ليقصوا حكايات تلهب مشاعر المحتفلين عن صراع (بعل) مع (يم) إله البحر، فبينما نرى (بعل) يكبح جماح العواصف في الطبيعة، نرى إله البحر (يم) ينفخ فيه ليزيده ثورة وهيجاناً فيشل حياتهم ويقطع مصدر رزقهم الذي يتوقف على البحر إن كان في الصيد أو في التجارة وانتصار (بعل ) على (يم) في النهاية تجسيد لآمال الناس واحلامهم بقدوم سنة خيرة يهطل المطر وينمو الزرع وتختفي العواصف والانواء فيكثر الخير وتزدهر التجارة ويعم الرخاء وبذلك تكون الاسطورة قد صورت اوضاعاً اجتماعية، وبينت حياة الشعب بشكل عام في مملكة اوغاريت، كذلك نرى في اسطورة (قصر بعل) نسيجاً على نمط ما كان يجري في الاحتفالات البهيجة التي كانت تقام في أوغاريت في الخريف، حيث كان يشرب المحتفلون بواكير الخمر من كروم العام الجديد ويستمعون الى الموسيقا، ثم يعقب هذا المشهد البهيج مشهد مليء بسفك الدماء، حيث تعمل (عناة) اخت (بعل) السيف ذبحاً بلا رحمة في رقاب سكان القريتين، وتغرق نفسها في حمام من الدماء ثم تغتسل وتعيد زينتها وتستقبل ضيوفها في منزلها، ولعل دموية (عناة) في هذه الاسطورة تذكير للإله (بعل) بما يعانيه الشعب في أوغاريت من الظلم والتعسف على يد اخته (عناة) ولعل في تخويف(عناة) الوحشي لهذا الشعب الساذج له ما يسوغه لأنه يرتبط بالظروف التي استولى (بعل) إبانها على الحكم، فهو لا يزال يمارس سلطة غير مستقرة نتيجة صراعه الدائم مع الهين آخرين هما (يم) إله البحر و(موت) إله الموت، يهددان استقرار حكمه وبسط سيادته بمكانتهما المؤثرة والفعالة في حياة الأوغاريتيين، و(يم ) من خلال الاسم الذي يحمله ،كما اسلفنا، يتحكم بعواصف البحر وامواجه العاتية، أما ( موت) ومن خلال اسمه يحمل القطب المضاد لـ(بعل ) فهو يمثل القحط والعناء ولذلك تتضمن هذه الملحمة وصفاً لمعركتين ضاريتين يلعب الإله (موت) في كل منهما دوراً مختلفاً ، ففي كليهما يبدو ان (موت) هو المسؤول عن الجفاف الصيفي وموت الخضرة الربيعية لأنه يجعل السماء تلتهب بشمس محرقة تتلف خيرات الارض، فيجابهه (بعل) وجهاً لوجه، ويسفر الصراع عن التعادل لذلك لن يتمكن بعل من ممارسة سلطته لنمو الزرع وتهدئة البحر للصيد والتجارة إلا بالسيطرة على هذين الالهين الجامحين وبث الرعب في قلب الإله الاكبر ايضاً (إيل) عن طريق اخته (عناة) التي كانت تشغل ما يمكن ان يسمى قيادة (الشرطة السرية) لبعل، ذلك ليعترف (إيل) ببعل سلطاناً مطلقاً ،وفعلاً تدخل (إيل) لصالح بعل عندما تجادل مع (موت) واجبر (موت) على ان يعترف ببعل الهاً مطلقاً... وهكذا نرى ان عدوي (بعل) اللدودين ( يم) و (موت) قد اقحما في هذا المشهد المسرحي كي تضاف هذه الاسطورة الى مشاهد الصراع الدائم بين (يم) و(موت) ، وبذلك تعكس بطريقة تمثيلية (مسرحية) الاوضاع الدينية والاجتماعية للشعب الاوغاريتي .
ان مضمون هذه المسرحيات التي بطلها بعل، وكانت تمثل على خشبة المسرح كل عام في نهاية مواسم القطاف، شرح لظواهر الطبيعة، فنزول (بعل) الى العالم السفلي يعني انحباس المطر وتوقف الخصب عند النباتات والحيوانات والانسان، لذلك تيبس الحقول وتحل المجاعة «وهذه الصورة موجودة ايضاً في ملحمة كرت ملك صيدون ايضاً» وتبدل وجه الارض وتحولها الى مروج خضراء، بيان ان الإله (بعل ) قد انتصر ومن الواضح ان (بعل) و(موت) كانا يتقاسمان السيادة بالتناوب ويجسدان الحياة والموت والخصوبة والجفاف، وكان (بعل) يجسد صورة الإله الذي يموت ويحيا كل سنة لأن بقاء (بعل) حياً يعني بقاء الخضرة طوال العام، وهذا مخالف لنواميس الطبيعة.. وهكذا نرى ان الدراما المسرحية في مملكة أوغاريت هي تصوير حي لواقع الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في أوغاريت مع الاحتفاظ بالفارق الكبير بين المسرحيات الفرعونية الدرامية التي كانت اكثر تعقيداً وتطويراً من مسرحيات مملكة أوغاريت الفقيرة نسبياً اذا ما قورنت بعظمة الفراعنة واتساع امبراطوريتهم وغناها الاقتصادي وتعدد مصادرها الثقافية .
غيد الياس بيطار
المصدر: البعث
إضافة تعليق جديد