الجزائر: صندوق النقد الدولي أم تحالف دول "بريكس"
انعقاد قمّة دول «بريكس» الخمس (البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا) في مدينة «دوربان» بتاريخ 26 و27 آذار/مارس الماضي، حدث سياسي رئيسي، يحمل في طياته أملاً حقيقياً بإمكان وقوع تحولات على النظام الاقتصادي العالمي، عبر إرساء نظام بديل عن ذلك التي تمسك به مؤسسات «بريتن وودز». وقد لاقت القمة اهتماماً كبيراً في الجزائر. فالجزائريون، الذين يتذكرون بألم أزمة المديونية التي ضربت بلادهم بعمق وعنف في نهاية عقد الثمانينيات من القرن الماضي، تتملكهم حماسة كبيرة إزاء مثل تلك المشاريع. وقد استُقبل بإيجابية كبيرة الإعلان الذي صدر من تلك المدينة الأفريقية (والقارة السمراء عانت، مع أميركا اللاتينية، أكبر معاناة من الاصلاحات الهيكلية لصندوق النقد الدولي، ومن خيارات الاستثمار التي فرضها البنك الدولي)، عن إنشاء مصرف لتنمية الجنوب برصيد 50 مليار دولار، و«صندوق احتياط للطوارئ» بقيمة 100 مليار دولار.
وأتاح عدد كبير من المقالات الصحافية للرأي العام الجزائري متابعة وقائع القمة والاطلاع على مقرراتها، خصوصاً انّها تلت ببضعة أيام زيارة المديرة العامة لصندوق النقد الدولي، السيدة كريستين لاغارد، إلى الجزائر العاصمة (في 13 و14 آذار/مارس الماضي)، وهي التي أتت لـ«تشكر الجزائر على القرض الذي قدمته إلى «صندوق النقد»، بحسب تعابيرها.
مسخرة اقراض الجزائر صندوق النقد الدولي
أثار الإعلان الذي صدر في تشرين الأول/أكتوبر 2012 عن قرض من الجزائر لصندوق النقد الدولي بقيمة 5 مليارات دولار، وبفائدة أقل من 1 في المئة، الحيرة لدى العديد من الاقتصاديين الذين وجدوا في ذلك مثالاً آخر عن تبذير الاحتياطيات النقدية المتراكمة بفضل الاستغلال المفرط للثروات الأحفورية. من ناحية الجدارة الائتمانية، فإنّ صندوق النقد الدولي هو مدين من الطراز الرفيع، لكن من جهة الفاعلية بالنسبة للجزائر، كان الأجدر من دون شك عدم استخراج النفط أو الغاز الذي وفرّ هذا الاحتياط المالي البالغة قيمته خمسة مليارات دولار، والذي تسعى السلطات الجزائرية إلى توظيفه بعائد رمزي. فهذا أيضا تبذير.
وبغض النظر عن تعبير لاغارد عن الامتنان، تجدر الاشارة إلى أن هذا القرض لا يعزّز حقاً مكانة الجزائر داخل صندوق النقد الدولي الذي بات مُسَيطَرا عليه من قبل الغربيين أكثر من أي وقت مضى. ومكانة الجزائر داخل صندوق النقد الدولي ثانوية تماماً، بما أنّ حصّة الكوتا الخاصة بهذا البلد انخفضت نسبياً منذ مضاعفة رأسمال صندوق النقد الدولي، من 238 مليار DTS (أو «حقوق السحب الخاصة»، وهي وحدة قياس مالي تستند الى متوسط أربع عملات عالمية، وهذا «اختراع» لصندوق النقد نفسه بغاية توفير استقرار سعر صرف العملات الوطنية للبلدان الاعضاء فيه) إلى حوالى 477 مليار DTS في كانون الأول/ديسمبر 2010. وكانت الجزائر تملك، منذ العام 2008، كوتا تبلغ قيمتها حوالى 1255 مليون DTS، أي 0.53 في المئة من مجموع DTS التي يملكها صندوق النقد. ومن خلال عدم رفعها إلا بمقدار 705 مليون وحدة، فقد أوصلت الجزائر مساهمتها إلى حوالى 1.960 مليون DTS، أي بما لا يزيد عن 0.41 من رأسمال صندوق النقد الدولي.
أعطوا تونس بدلا من صندوق النقد الدولي!
وهذه المليارات الخمسة من الدولارات التي أٌقرضتها الجزائر للمؤسسة التي ترئسها كريستين لاغارد، (الرئيسة السابقة لمكتب المحاماة العالمي الضخم «بيكرـ ماكنزي»، الذي يتخذ من شيكاغو مقراً له، ووزيرة المالية الفرنسية في زمن ساركوزي)، يجب وضعها بموازاة المئة مليون دولار التي أُعطِيَت من صندوق النقد كقرض لتونس بعد مماطلة كبيرة. وتونس دولة جارة للجزائر، وهي تعاني صعوبات مالية كبيرة. وهناك فارق كبير بين موجبات الحد الأدنى من التضامن مع بلد شقيق وجار، يمرّ بمرحلة ديموقراطية انتقالية من جهة، وبين الاعراب عن دعم سياسات غير اجتماعية مستندة إلى مبادئ «توافق واشنطن» العشرة، الذي نظّر عام 1989 لكيفية إدارة أوضاع البلدان المأزومة اقتصاديا، موصيا بفرض «تدابير تقشفية» صارمة عليها. و«توافق واشنطن» هذا هو بمثابة انجيل صندوق النقد والبنك الدوليين اللذين يطبّقانه بلا رحمة. لكن هذا الخيار يترجم التوجهات غير المعلنة، لكن الفعليّة للنظام الجزائري.
المفارقة الجزائرية: مال متكدس وفقر كثير
تسير الجزائر من دون سياسة اقتصادية واضحة فعلاً منذ تخلّي سلطاتها عن الاصلاحات الاقتصادية التي طبّقتها حكومة مولود حمروش. وهي تكتفي بإدارة الموقف يوما بيوم، وفقاً لمصالح صنّاع القرار الفعلي فيها، أي قادة الاستخبارات والمجموعة الضيقة الممسكة بالحكم (الأوليغارشية). وبتأثير مباشر من صندوق النقد الدولي، وافقت الجزائر في العام 1994 على تطبيق برنامج تصحيح هيكلي نفذ أصلا تحت وصاية صندوق النقد. وبذلك، فقدت البلاد خصائص الدولة الاجتماعية، من دون أن تكسب شيئاً في المقابل على صعيد الفعالية الاقتصادية، وخصوصاً في ظل تعميق تبعيتها تجاه الموارد النفطية. والصورة العامة لاقتصاد الجزائر توضح خضوعه لهيمنة الاستيراد المكثف الذي ينمو بشكل لا يمكن كبته، إضافة إلى البطالة العالية. وهذه كلها تكشف بوضوح أن الرابحين الكبار من سياسة التصحيح الهيكلي هم الشركات متعددة الجنسيات من جهة، وأصحاب المصالح المحلية، مدنيين وعسكريين، الذين يسيطرون على التجارة الخارجية والتعاملات بالمواد النفطية. بالطبع، لم يشكل الانفتاح القسري للاقتصاد الجزائري، الذي فرضه صندوق النقد الدولي، نجاحاً، بدليل أن الجزائر تقع في ذيل جميع التصنيفات الاقتصادية والاجتماعية العالمية، حتى وإنْ كان الارتفاع الكبير والمستديم لأسعار النفط والغاز منذ نهاية التسعينيات يقنِّع ويموه هذا الفشل، الذي يشعر به بشدة المواطنون، حيث هم يعانون من سوء حال القطاع الصحي ومن سوء حال قطاع السكن ومن البطالة.
تسقط الصناعة، يعيش السوق!
لا شكّ ان الدولة التدخلية البيروقراطية قد غيرت خطابها الايديولوجي، لكن أداءها لم يتحسّن. ففي الواقع، انهار الانتاج الداخلي لدرجة أن القطاع الصناعي، الذي كان يُعتبر فخر البلاد، والارث الحقيقي الوحيد لحقبة هواري بومدين، لم يعد يمثّل إلا بضع نقاط مئوية من الناتج المحلي الإجمالي. بات غياب السياسة الاقتصادية الجزائرية يٌقاس بالتضخُّم الكبير للموازنة، الذي تتسبب به نفقات هائلة وغير فعالة، ويتسبب به هدر الأموال في تمويل دعم اسعار السلع بهدف تهدئة الاستياء الاجتماعي واحتوائه وضبطه. أمّا برامج الاستثمار في البنى التحتية، ذات الكلفة الهائلة، كمشروع شق الطريق السريع الذي يربط شرق البلاد بغربها الذي أنجزته بشكل أساسي الأيدي العاملة الأجنبية، فآثارها التحفيزية ضئيلة، خصوصاً على صعيد توليد نشاطات ملحقة بالمشروع الرئيسي، وأعمال إعادة تكليف وتلزيم.
لم تعد الجزائر إلا سوقاً تُلقى فيه منتجات استهلاكية مصنّعة في الخارج، مثلما تظهره بقسوة، وعاماً تلو الآخر، إحصاءات التجارة الخارجية. كل ذلك لم يمنع صندوق النقد من دعوة السلطات الجزائرية إلى رفع العوائق من أمام قروض الاستهلاك، وذلك لمناسبة زيارة لاغارد، وهي نصيحة قُدّمت إلى جانب نصائح «كريمة» أخرى.
فضيحة، فضائح
لكن الاعتبارات التقنية أو الحاكمية السيئة، لا تكفي لشرح الانعدام المزمن للفعالية في الإدارة الاقتصادية، والمناخ المتداعي لقطاع الأعمال. وقد كشفت فضائح الفساد الأخيرة حول «سوناتراك» (شركة النفط الوطنية في الجزائر)، أن غياب المؤسسات الديموقراطية يسمح لمنطق القنص والنهب المتأسس على استقطاب الريع النفطي من قبل المجموعات الممسكة بالسلطة، بأن يسمو على المصلحة العامة.
إنّ تزامن زيارة وفد صندوق النقد الدولي وقمة دوربان، يزيد من التناقض الفاضح بين توجّهات مجموعة «البريكس»، التي تُعتبر المجموعة المحرِّكة للدول الناشئة، ودولة الجزائر التي باتت بلا صوت، وتعيش ركوداً اقتصادياً. والسلطات الجزائرية العاجزة عن بلورة سياسة أفريقية، تفرض الوضعية السائدة على حدودها الجنوبية بلورتها، مرغمة بالمقابل على الامتثال لنداء صندوق النقد الدولي الهادف إلى تعزيز نظام ليبرالي متطرّف مسؤول عن أزمة عالمية ذات تداعيات اجتماعية دراماتيكية... وكل ذلك من أجل تأمين الدعم الغربي للنظام الحاكم.
ذلك أنّ القرض الذي قدمته الجزائر ـ والذي يماثل ما قدمته تركيا، ويبلغ ضعف القرض الذي أمّنته تشيكيا المزدهرة ـ لا يؤمّن أي تأثير إضافي للجزائر على الساحة الدولية، اذ تحتكر مجموعة الدول السبع (G7) توجُّهات صندوق النقد الدولي، وهم مؤمنون بسطوة الإله/ السوق. وبالنسبة للنظام الجزائري الحاكم، يتعلق الأمر قبل أي شيء آخر بتملّق الدول الغربية تلك ونيل رضاها، في زمن يتسم باضطراب التحالفات واحتمال انقلابها. بينما يفترض بأن يتمّ التخطيط لاستكمال تلك «الديبلوماسية المالية» الهادفة إلى تأمين الدعم الدولي للنظام، بالتزامات توفّر للجزائر بدائل إنقاذ إذا ما ساءت الامور، وهذا احتمال لا يستند الى مخاوف وهمية بل الى ملاحظة السرعة الكبيرة التي تتطور فيها أسواق الطاقة، بينما، وبالمقابل، تسجل الجزائر انخفاضا في انتاجها للمحروقات وفي حجم تصديرها لها.
ويفترض بالأشهر المقبلة، الفاصلة عن موعد انعقاد قمة مجموعة «البريكس» في 2014 بالبرازيل، وصدور الإعلان الرسمي عن إطلاق «بنك التنمية» و«صندوق الاحتياط»، أن تتيح توضيح موقف الجزائر، وتقييم صلاحية إدارتها الاقتصادية لفوائضها المالية. فإن لم تنخرط بفعالية في المؤسسات الناشئة تلك، فسيكون واضحاً أنّ الجزائر ذات التوجه الاجتماعي التي حلم بها كتبَة إعلان التحرير في الأول من تشرين الثاني/نوفمبر 1954، والتي كانت ركناً في مجموعة دول عدم الانحياز... باتت تنتمي إلى حقبة ولّت نهائياً.
عمر بن درة
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد