الباب المفتوح لعبد الرحمن منيف
رغم رحيل الروائي عبد الرحمن منيف في 2004، الا أن رفوف المكتبات العربية لم تتوقف عن اكتشاف وإعادة اكتشاف صاحب خماسية "مدن الملح". فإلى جانب الروايات والمجموعات القصصية المُعاد إصدارها، لم تنفك تصلنا نصوص تعود الى المراحل الأولى لعهده بالكتابة وتُنشر للمرة الأولى. هي أعمال إذا لم تكن في أهمية أعمال أخرى له على غرار "مدن الملح" أو سواها، فإنها تلقي الضوء في شكل خاص على علاقته بأدواته السردية ومحاولاته إيجاد لغته وأسلوبه وبنائه الروائي، وتأتي لتضيف الى السلسلة التي تشكل مساره الأدبي الحلقات الأولى في كل ما تنطوي عليه هذه الأخيرة من براءة الخطو الأوّل والتفتيش المتعثّر عن اللغة والاجتهاد المرتبك لمدّ الموهبة الطرية بما يكفل لعودها الاشتداد.
تحت هذا العنوان وانطلاقاً من هذه الزاوية، نقرأ اليوم مجموعة "الباب المفتوح" القصصية الصادرة لدى "المؤسسة العربية للدراسات والنشر" و"المركز الثقافي العربي"، التي كُتبت قصصها بين 1969 و1970، أي قبل إقدام منيف على نشر عمله الأول "الأشجار واغتيال مرزوق" في 1973، وهي مرحلة تصفها سعاد منيف على الغلاف الداخلي للكتاب بالتجريبية في حياة الكاتب وبأنها كانت "امتحاناً أوّلياً لممارسة الكتابة".
إننا اذاً حيال النص الحامل بذور النص الذي يليه والواعد بما هو أكثر أهمية منه في ذاته، النص الذي لن يُنشر الا بعد زمن من التمرّس في الكتابة نصير فيه أكثر تسامحاً لكن أيضاً أكثر ثقة بأنفسنا بسبب المكان الذي وصلنا اليه. من هنا، تحمل هذه القصص كل مواصفات المحاولات الأولى غير المكتملة الملامح والشروط الفنية، وتبرز فيها الموهبة التي تتلمّس خطواتها وتعيد التساؤل حول أدواتها وتفتّش عن لغتها، هذه العصية أبداً التي لا تنفك توهمنا أنها في المتناول.
من حيث التقنية، نلمس بدايةً سعي الكاتب الواضح للنفاذ الى الدوافع والنوازع التي تحرّك الناس وتحكم سلوكهم. فنراه لذلك يقارب موضوعاته، شخصيات وأحداثاً، لكن الشخصيات في شكل خاص، في حركة تتجه من الخارج الى الداخل، من دون أن تنجح دوماً في إيجاد طريقها في هذه المتاهة التي هي الذات الانسانية. وإذ تبدأ حركة السرد وصفية شبه تقريرية أحياناً، أو سريعة ومباشرة في أحيان أخرى، تصيب قلب موضوعها من الجملة الاولى ولا تناور، فإنها تكتسي في كل مرة بشيء من الرومنطيقية المضمرة التي لا تعلن عن نفسها صراحةً الا من خلال براءة الخطاب العام وبعض الغنائية التي لا تفرط في إظهار نفسها.
يعتمد منيف الإيقاع الروائي في قصص يمكن أن تشكل كل منها فصلاً مستقل العناصر من رواية أطول. فأسلوبه في التعامل مع العناصر السردية لا يخضع لأي نوع من الضغط أو التكثيف الذي يميّز القصة القصيرة عادةً، بل يكتفي الكاتب بإعلان الاستقلالية الدرامية لقصته محافظاً على وتيرتها العادية. من ناحية أخرى، لا تبدو القصة لديه تطوّراً درامياً يسير في شكل تصاعدي متمدداً أكثر كلما تغذّى من معطيات محيطة، بل هي حفرٌ ونبشٌ في لحظة سردية واحدة. ورغم بحثه عن الغريب والنافر والشاذ في الشخصيات والحوادث على السواء، الا أنه يكفيه أحياناً حادث عادي واحد، على غرار حفيد يودّع جدته قبل سفره (قصة "الباب المفتوح")، أو موقف عرضي كأن لا تجد شخصياته مطعما تتناول فيه الغداء الا مطعم المحطة (قصة "مطعم المحطة")، أو حتى شخصية هامشية مثل شخصية الخوش في قصة "مزحة"، لينسج حولها وعليها صياغته "القصصية" ويحوك منها "قصة" تبدو في معظم الاحيان واثقة من انطلاقاتها اكثر من النهايات التي تنغلق عليها. واذ يحتلّ أسلوب البورتريه مكانة مهمة في معظم القصص، تأتي بعض مطالعها لتذكّر بـ"كاراكتيرات" لابرويار من دون أن يكون لها النَفَس التهكمي ذاته، بل نبرة أكثر إنسانية تشير الى الغرائبي، في شيء من التعاطف حياله.
لكنها البراءة أولاً والبراءة قبل اي موضوع آخر، ما يحرّك معظم أبطاله، الذين رغم تنوّع شخصياتهم وأعمارهم تجمعهم الروح الطفلية وهذه البساطة والرقة الداخلية التي يتمتعون بها والإحساس المرهف الذي قد يقترب من العطوبية، فضلاً عن أنفتهم الريفية والعلاقة العضوية التي تربطهم بالأرض والجذور حتى لو كانوا رحّلاً أو مجهولي الأصول. وفي معظم القصص تُروى الحوادث بعيون طفلية تسجل للعالم من حولها بكل الذهول والبراءة المعطاة لها، مكتشفة مفاهيم الحياة وقيمها ومعايير استقبال العيش فيها مثل أعواد طرية تقسو أكثر بعد كل تجربة.
ورغم الميل الغرائبي في شخصيات أبطاله وسلوكياتهم، الا ان الكاتب لا يبالغ في هذا المجال محافظاً على قدر من الاتزان الذي يكفل واقعيتهم. أما هذه الواقعية فيستمدونها من دواخلهم أكثر من ارتباطهم بالمحيط المجتمعي الذي يتحركون ضمنه. ففي معظم القصص لا يبدو هذا المحيط واضح المعالم تماماً ومحدد الإطار، بحيث يكاد يقتصر في بعض الاحيان على إشارات سوسيولوجية متفرقة، على غرار موقف زوجة "المستر ستيوارت" من العرب في قصة "الأيام الأخيرة من آب"، أو مشكلات صويلح مع الدولة والنظام الاقطاعي في قصة "صويلح"، أو حال العجوز نايف الهذّال المسلوخ عن أرضه في الجولان السوري في قصة "رسالة من وراء الحدود".
في هذه القصة الأخيرة يروي منيف على لسان بطله: "رفضنا ان نتحرّك لما طلبوا منا. سألنا اين تريدوننا أن نذهب؟ ولدنا هنا. (...) أجبرونا على أن نرحل، حملنا الاشياء التي نستطيع حملها وتحركنا، لكن عيوننا لم تفارق الارض التي تركناها. (...) في المدينة لا نستطيع العيش، كنا نريد أن نبقى على أطراف المدينة لكي لا يؤخرنا شيء عن العودة". هذا الموقف السلبي تجاه المدينة يبرز كذلك في قصة "صويلح" حيث يقدم منيف المدينة كمرادف للخيبة وللأحلام المخذولة، واذ تؤثر شخصياته العيش عند أطرافها مهمَّشة ومنسية أملاً بالعودة ذات يوم الى أرضها، نراها في انتظار هذه اللحظة تعيش مراوِحة في حزنها، هذه "الدودة" التي تقرض الانسان من الداخل، كما يسميها بطل قصة "الباب المفتوح"، واذا تمرّدت شخصيات مثل صويلح فإن تمردها لن يكون الا مُغرقاً في عبثيته ومعدوم الصدى.
سيلفانا الخوري
المصدر: النهار
إضافة تعليق جديد