الإنكليز يشكون «أمركة» لغتهم
من الأقوال الساخرة التي تحاول ان تقوّم طبيعة العلاقة بين البريطانيين والأميركيين، عبارة انهما «بلدان تفرقهما اللغة الواحدة»، وذلك في إشارة الى حالة ثقافية يتحدث فيها كلا الشعبان اللغة نفسها، الا ان كل منهما طورها بطريقة مختلفة عن الآخر. وتبدو الحساسيات واضحة بين الشعبين في هذا المجال، خصوصاً لدى البريطانيين الذين يعتبرون بلادهم الوطن الأم للانكليزية، بينما سطا الشعب الشقيق على اللغة وراح يتدخل حتى في طريقة التهجئة، فيلغي أحرفاً من طريقة كتابة بعض الكلمات، ويمنح تسميات مختلفة للأشياء. وبذلك، لا يتوقع الأميركي أو من تعلم الإنكليزية الأميركية مثلاً، ان يطلب طبق «شريمبز» في مطعم بريطاني ويفهم النادل طلبه على انه «الجمبري او القريدس»، إذ يجب في هذه الحالة ان يطلب «برونز» كي يهنأ بالحصول على ما يحلم بالتهامه. لكن المفردات في شكلها المطلق لفظاً وكتابة ليست هي المشكلة الحقيقية في هذا المجال، فالأمر الذي يثير الجدل ثقافياً هو ما يحدث في عالم النشر، حيث يعبّر الكثير من الكتاب والمثقفين عن استيائهم من «أمركة الكتب الإنكليزية» المطبوعة في الطرف الآخر من الأطلسي. الا أن الأميركيين يردون التهمة نفسها، اي «أنكلزة الكتب الأميركية» المطبوعة في بريطانيا. لذا فإن كتاباً مشاهير من الجانبين، مثل مارتن آميس وجون أبدايك لا تنشر أعمالهما في السوقين بالطبعة ذاتها، هناك دوماً فروقات.
ما لفت نظري بداية الى حساسية هذه المشكلة في عالم النشر، اطلاعي على رسالة قارئ مختص باللغة، في صحيفة التايمز البريطانية، معلقاً على موضوع سابق نشر في الصحيفة نفسها حول أمركة الكتاب البريطاني عند نشره في السوق الأميركية. ويذكّر القارئ بأن الحركة المضادة موجودة منذ الخمسينات عندما نشر كتاب (American Into English) للباحث اللغوي جي في كاري في سبع وستين صفحة، كدليل يسترشد به الطباعون والناشرون في إدخال التعديلات على النص الأميركي، من حيث المفردات والتنقيط وطريقة الإملاء.
من هنا بدأت بحثي حول هذا الإشكال الذي يذكرني باختلاف الأساليب العربية في الكتابة، الإعلامية في شكل خاص، بفروقات صغيرة أو كبيرة، مثل المدرسة الشامية، المدرسة المصرية، المدرسة المغاربية. واستحضرت جدلاً دار مرة على منصة ندوة في فعالية ثقافية بالكويت سنوات الثمانينات من القرن الماضي، عندما توتر الجو بين ناقد لبناني وباحث مصري، حول كلمة «إشكالية» حيث رأى الباحث المصري انها «ابتكار لبناني» وفضّل عليها كلمة «مشكلة»، فرد عليه الآخر بهجوم يستنكر ملاحظته. على اية حال لم تصل المنطقة العربية بعد الى مستوى الخلاف البريطاني - الأميركي، لعدم وجود سوق قوية للكتاب في اي إقليم في المنطقة، يفرض شروطه اللغوية من أساليب ومفردات خاصة!
بحثي عبر الانترنت، قادني الى مظاهر عدة لهذه الاشكالية بين طرفي الاطلسي، فالأمر يتعدى الكتب، الى الشكوى حتى من لغة الكومبيوتر، لأن البريطاني يستاء من أمركة لغة جهازه، ويعتقد ان الملايين ممن يستخدمون الكومبيوتر من الجيل الجديد سيرون في تلك المفردات التهجئة الصحيحة للانكليزية، ما يعني تخريباً لها، بينما جاره السويدي أو الدانمركي وحتى الفنلندي، يقرأون التعليمات الخاصة بالكومبيوتر، بلغاتهم الأصلية. وكان طريفاً ان اطلع أثناء بحثي على وجود دليل لمجلة الايكونوميست يباع ككتاب لمن يريد تحت اسم (الدليل الى ستايل مجلة الايكونوميست)، يحتوي على الكثير من النصائح للكتابة الصحافية، ويشمل فصلاً عن الفروقات بين الانكليزية البريطانية والانكليزية الأميركية، من ناحية المصطلحات والمفردات والتنقيط وتركيب الجملة.
ومن الظواهر الواضحة لاختلاف المفردات في الطبعات البريطانية والأميركية، سلسلة روايات (هاري بوتر) الذائعة الصيت، فقد تبين لي ان الأطفال والمراهقين من قراء هذه السلسلة الشهيرة يقرأونها باختلافات في العناوين وببعض المفردات ايضاً، اي ان المراهقين على طرفي الأطلسي لا يقرأون النسخة نفسها. الجزء الذي صدر في النسخة البريطانية بعنوان (هاري بوتر وكأس النار)، أصبح في النسخة الأميركية (هاري بوتر وكوب المشروب الساخن)، وعللت الناطقة باسم الدار الأميركية الناشرة هذا التغيير، بأنه «سيجلب مزيداً من القراء في السوق الأميركية، لأن النسخة الأخرى تحمل مفردات صعبة تحتاج الى بحث لمعرفة معناها، والقارئ يجب ألاّ يتعنى ويبحث في القواميس من أجل أن يقرأ»! وتقدم الناطقة أمثلة من الأجزاء السابقة بقولها انهم اضطروا الى إبدال كلمة «بسكيت» الإنكليزية بـ «كوكيز» الأميركية، كما ان كلمة «بوتس» تعني نوعاً من الأحذية عند الأميركيين، بينما يستخدمها الانكليز إشارة الى صندوق السيارة الخلفي. وتنبه الى انه «لولا مترجمونا المثابرون، أشك في أن هاري بوتر كان سينجح كل هذا النجاح في السوق الأميركية. وقد ساهمت تدخلاتهم في جعل السلسلة أكثر قراءة ومتعة من النسخة الأصلية»! وتنهي كلامها بتوجيه نصيحة للكاتبة كي جي رولينغ «ان تكتفي بالكتابة بالانكليزية»! وتكاد ان تقول «من دون فذلكات». بينما يعتبر البريطانيون ان رولينغ تجيد استخدام مفردات انكليزية من القاموس، مما يثري لغوياً، سلسلتها الموجهة الى المراهقين.
ولان التغييرات تشمل جميع الكتاب من دون استثناء، فقد احتجت كاتبة متخصصة بأدب الاطفال وتدعي جين وايتهيد على التغيير الذي طرأ على احدى رواياتها بعد تدخل دار النشر لأمركتها، قائلة: «هذا ليس بالكتاب الذي كتبته أنا».
لا تطاول أمركة الكتاب المطبوعات البريطانية فقط، بل حتى الترجمات التي تتم من اللغات الأخرى الى اللغة الانكليزية. ففي أواخر الثمانيات أعادت دار نشر أميركية ترجمة رواية «الغريب» لألبير كامو بعد ان كان قراء اللغة الانكليزية قد قرأوها لأربعة عقود بترجمتها التي صدرت عام 1946 وتأثروا بها وببطلها مارسو. ويعلل المترجم الجديد مبادرته بأنه قدم ترجمة جريئة اكثر قرباً من دواخل المؤلف الذي تأثر اساساً بالرواية الأميركية واعترف بأنه استخدم أساليبها. ويعتبر بعض المهتمين بعالم الأدب في أميركا ان الترجمة الانكليزية الأصلية التي نفذها ستيورات جــــيلبيرت، مترجم الكثير من الأعمال الفرنـــسية الأخرى، جعلت الرواية تبدو اقرب الى الثقافة البريطانية، وباريس اقرب الى مدينة لندن.
ويطاول الانقسام الانكليزي الأميركي - في اللغة نشر القواميس ايضاً، ففي عام 1999 اصدرت ميكروسوفت قاموساً ومعجماً لغوياً هو شهير الآن بين مستخدمي الكومبيوتر، اسمه (انكارتا)، اثار استياء في حينه بين البريطانيين وجعل المدير التنفيذي لدار بلومزبيري يحتج على ان «لغة الملكة باتت تســــتبعد من القواميس وبأن اللغة الإنكليزية ما عادت بريطانية». كما انتقدت إحدى المسؤولات عن دار نشر (اكسفورد يونيفرســيتي برس) المختصة بإصدار قاموس اكسفورد الشهير، مشروع انكارتا كونه لم يجمع «اللغات الإنكليزية» في القامــــوس الإلكتروني، بل أصدرته بصــــيغة أميركية بحتة، حتى ان تعريف بعض الكـــلمات يســــتلهم الأفلام والأعمال الأدبية الأمــــيركية فقط لشرح معناها وتقريبه من ذهن القارئ.
العالم كله يتعرض للأمركة إذاً، البريطانيون من جهة يحاولون ان يدافعوا عن لغة اقترضت منهم ثم تعرضت للتشويه، أما القائمون على دور النشر والاعلام في الضفة الغربية للأطلسي، فلا يريــــدون للأميركي، صغيراً كان ام كبيراً، ان يتأقلم مع ثقافات الآخر، بمفرداته وتعابيره وتجاربه وحكمه في الحياة، ما يجعله أحادي الثقافة سجين مجتمعه وما ينتجه من قيم، فقط.
غالية قباني
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد