الإسلام الإيراني في سؤال ما بعد الحداثة
لا ينفك السؤال على ثنائية الأصولية والحداثة في التجارب الإسلامية المعاصرة حاضراً بأشكال مختلفة. سوى أن ما ترفعه زحمة النقاش المتأخر يتعدى الأحكام المألوفة. فهو سؤال يمكث في منطقة الاشتباك المعرفي بين المفهومين، الى درجة سيؤدي التداخل والتوازي والشبهة، الى جعل الفصل بينهما امراً متعذراً. وهذا ان دلّ على أمر، فعلى ان اتجاهات معينة في الأصولية الدينية لم تعد ترى بالضرورة الى الحداثة وما بعدها كمنكر ايديولوجي عصيّ على القبول.
في حالات معينة، كالحالة الإيرانية مثلاً، سنجد أن الأصولية نزعت الى التكيّف مع المنجز الحداثي العالمي، سواء في قدرتها على توطين العلوم والتكنولوجيات المتقدمة، أو في سعيها نحو انتاج أفكار ومفاهيم موازية لمعطيات الحداثة، مثل العقد الاجتماعي والسياسي، وقضايا الديموقراطية، وأنظمة تداول الحكم، والفصل بين السلطات.
قد يكون تسييل الجدل النظري حول الأصولية والحداثة في ايران مهماً كمادة نقاش. وثمة من يذهب الى ان استعادة الكلام على الحداثة وما بعدها استناداً الى التجربة الإيرانية بعد نحو ثلث قرن على ثورة الإمام الخميني، لا يفارق دائرة الإشكال. بل انه يضع مثل هذه الاستعادة كقضية محورية بامتياز.
غير أنّ هذه القضية لا تُحمل ولدواعٍ شتى على محمل المعاينة الواقعية للتجربة الدينية السياسية. وذلك يعود إلى استشراء داء التسييس، وغلبة احكام القيمة على بيئات ثقافية، وفكرية واسعة في منطقتنا. فسيكون حاصل الأمر هو ما نجده اليوم. حيث بات المعيار المذهبي والعرقي في رأس المعايير الناظمة لحركة التحولات الجيو- ستراتيجية في شبه القارة العربية الإسلامية. لكن لو عدنا الى أصل الإشكال لطرحنا السؤال الآتي: هل ثمة مجال لقول الممكن حول ايران واسلام ما بعد الحداثة... وتالياً كيف رأى الغرب ولا يزال يرى الى مثل هذا السؤال؟
في خريف عام 1978، سافر الفيلسوف الفرنسي الراحل ميشال فوكو الى ايران لمصلحة صحيفة «كورييري ديلا سييرا» وكتب يومها عن التظاهرات الشعبية المتزايدة ضد نظام محمد رضا بهلوي. لم يكن فوكو المعروف بتحليلاته عن الجنون والمستشفيات والسجون يعرف الا القليل - باعترافاته هو – عن التاريخ الفارسي أو الإسلامي. كما أنّه لم يعمل كصحافي أو كمحقِّق للأحداث من قبل. إلا أنّه أجاب بعد أن سئل عن سبب سفره بالعبارة الآتية: «لا بدَّ من أن نتواجد حينما تولد الأفكار».
في تلك الفترة كانت ايران تكتظ بالاحتمالات الكبرى. ملايين المتظاهرين ملأوا الشوارع والساحات، كأنّما جمعت بين قلوبهم كراهيتهم للشاه، وإعجابهم بآية الله الخميني. يذكر فوكو أنّه رأى شكلاً جديداً من أشكال «الروحانية السياسية»، فكتب بإعجاب عن كيفية تحريك الخميني «شعباً بكامله ليخرج إلى الشارع» تعبيراً عن إرادة شعبية واحدة. كما كشف عن انّه شاهد أول تمرد كبير ضد النظم العالمية، واصفاً إياه انه أكثر أشكال التمرد حداثة وجنوناً. ولقد استطاع فوكو أن يدرك أيضاً كيف استخدم المسلمون في ظل غياب أي سياسة ديموقراطية، مفاهيم الفداء والشهادة، لمقاومة الحكام المستبدين والفاسدين الذين حصلوا على الشرعية في الغرب باعتبارهم من دعاة التحديث والعلمانية. ثمّ أن يصل إلى نتيجة مؤداها، أنّ من غير المحتمل أن تقتصر هذه المقاومة الإسلامية على ايران.
في تلك اللحظة أخذت الأنتلجنسيا الغربية بأسئلة لم تعهدها في أي بلد إسلامي آخر منذ انهيار الخلافة العثمانية. كان هاجس الكثيرين من المثقفين والاكاديميين والفلاسفة مركوزاً في ما يُحتمل ان تفضي إليه تلك «الجيولوجيا الدينية» من تحولات تتجاوز الهضبة الإيرانية. كان ثمة شبه إجماع ان يؤدي رد فعل الغرب السالب على الحادث الإيراني الثوري، إلى المزيد من تحويل الجمهور إلى الإسلام السياسي. وهذا ما دفع فوكو كي يرى أن «الإسلام ليس مجرد دين بل هو أسلوب حياة متكامل، وولاء لتاريخ وحضارة. وأن اسلاماً له مثل هذه الدينامية يحتمل أن يتحول إلى برميل هائل من البارود بالنسبة الى مئات الملايين من البشر».
هذه القراءة لأحد ابرز فلاسفة الغرب في القرن العشرين، لم تكن مجرد توصيف لمشهد عارض ظهرت إرهاصاته على بساط جغرافيا إسلامية مشحونة بالأزمات. إنّما هي تفصح عن واحد من أبرز مستويات اشتغال عقل الغرب على رؤية حراك الإسلام وإسهامه في تشكيل نظام القيم العالمي.
في ايران اليوم يشهد ميدان تحريك سؤال التحديث السياسي على سبيل المثال، نقاشاً واسعاً حول ما يسميه المفكرون هناك بـ «الديموقراطية الدينية». ومنهم من يذهب إلى التساؤل عن الكيفية التي استطاع المشروع الإيراني الاسلامي من خلالها، التأثير في منطق النظام الدولي الآحادي، ووضع التحدّيات أمام الفلسفة السياسية الغربية ونموذجها المهيمن.
في هذا المجال يقول كثيرون من المثقفين الإيرانيين ان فكرة «الديموقراطية الدينية»، أو ما يصطلح عليها بـ«الديموقراطية الإسلامية» و «مسألة التوفيق بين» الجمهورية» و «الإسلامية» شكلتا معاً مشروعاً جديداً يساهم في خلط الأوراق ضمن دائرة التصنيف التقليدي المتبّع في عالم الفلسفة السياسية.
الجانب المهمّ في قراءة الفلسفة السياسية المعاصرة للمشروع الإسلامي الذي طرحه الإمام الخميني، هو ما شكل عموماً ابرز اهتمامات الأطروحة الما بعد حداثية. اي التي تقضي بالعمل على تفكيك مفهوم المشروعية من خلال تقسيم حق الحاكمية إلى قسمين: مساوٍ وغير مساو بين الله والشعب. بعبارة أخرى، تقضي رؤية ما بعد الحداثة بالحؤول دون وضع مفهومي «الجمهورية» و «الإسلامية» «في موازاة بعضهما، حتى لا يتم اللجوء إلى عقد نوع من المصالحة الاضطرارية والبراغماتية او الواقعية بينهما. في مقابل ذلك ينبغي اعتبار أن حق الشعب هو فرع منبثق عن حق الله، وأن الجمهورية قالب وإطار لإعمال حاكمية الله وتنجيزها. وهكذا يجرى التنظير الفكري لهذا المفهوم على نحو لا يمكن معه تفريغ مفهومي الجمهورية والديموقراطية من مضامينهما وأهدافهما الإسلامية، أو فصلهما عن المشروعية الدينية. يُساق هذا التسويغ المعرفي من جانب عدد من المفكرين الإيرانيين بداعي العثور على منطقة اعتدال وتطابق بين الجمهورية، والديموقراطية، والبعد الديني الإسلامي العام، وايضاً حتى لا يصار الى تصوير الأمر وكأنّ ثمّة مواجهة بين هذين المفهومين وبين الدين. في هذا المجال يقول أحد أبرز هذه التنظيرات: «إننا إذا وضعنا حاكمية الشعب في ترتيب عمودي بعد حاكمية الله، ففي هذه الحالة سنقف على مزايا الديموقراطية والثيوقراطية في آن معاً. ثمّ لنقوم في نهاية المطاف بتداركها وتجنّبها، من دون أن نُستدرج إلى خلق تركيب اصطناعي هجين من الديموقراطية والثيوقراطية»...
والحاصل عموماً أنّ الديموقراطية الإسلامية، بحسب هذا التنظير، تنطوي على المزايا الإيجابية التي تحملها الديموقراطية كمفهوم، من دون أن تُبتلى بالأمراض التي ابتُلِيَت بها الديموقراطية الغربية، وهذه المزايا هي: حقّ الانتخاب للشعب، الرقابة على الحكّام، الأخذ في الاعتبار رضا العامة، القبول بمبدأ الانتقال السلمي غير العنيف للسلطة. مضافاً الى هذا كله اعتبار الأخلاقية الدينية هي الوعاء الذي يؤطِّر ويسدّد المزايا كلها.
صحيح انّ هناك من لا ينفك ينظر إلى التجربة الإيرانية بوصفها تنتمي إلى الوجه السلبي للظاهرة الأصولية الإسلامية المعاصرة. لكن كثيرين من المفكرين الغربيين المعاصرين لا يرون إلى أصولية العالم الإسلامي، التي تندرج الثورة ودولة الثورة في ايران في طليعتها، على أنّها مجرد تقليد موروث من الماضي، وإنّما إلى كونها تنتمي بحيثيةٍ ما الى «ما بعد الحداثة»، كما يقول المفكر الإنكليزي كورتز. ذلك أنّ هذه الأصولية هي التعبير الجليِّ عن رد الفعل الإيديولوجي الحتمي على إخفاق عمليات التحديث الغربية.
ثمة في الغرب اليوم من يخشى مفاعيل ما يذهب إليه التوظيف الأيديولوجي النيو ليبرالي الذي يحكم على الإسلام السياسي بأصنافه المختلفة: «الأصولي، والسلفي، والاعتدالي»، بأنّه إسلام معادٍ للحداثة، والعصر، والمستقبل.
ولكن حين يدور النقاش داخل مراكز الأبحاث والمستقبليات في أميركا وأوروبا، غالباً ما يُقال إنّه لا يجوز فهم الأشكال الراهنة للأصولية الإسلامية على أنّها نوع من العودة إلى صيغ وقيم اجتماعية غابرة، حتى من منظور الممارسين، أي من الأصوليين أنفسهم. ولا يتأخر نقادٌ كثر من العاملين في حقل إنتاج الافكار في الغرب عن نقد وسائل الإعلام التي تخطئ حين تجعل من عبارة «الأصولية» «مادة تختزل مختلف التشكيلات الاجتماعية المنضوية تحت هذا الاسم. بينما هي في الواقع تشير حصراً إلى الأصولية الإسلامية، التي يجرى اختزال وجودها، إلى تعصّب ديني إرهابي متشدد لا يعرف معنى التسامح. لكن المسألة لا تتوقف على إجراءات وتوظيفات الإعلام التي هي أداة تعبير لسلطة القرار الأيديولوجي والإستراتيجي في الغرب، فهذه السلطة تواصل إنتاج مناخات ثقافية ترى إلى كل ظاهرة إسلامية ممانعة أيّاً كانت خلفياتها وممارستها ومواقعها، بوصفها تجسيداً لمعاداة الحداثة. وهو ما يتبين من التنظيرات المضادة للحالة الإسلامية الإيرانية بوصفها قوة ساعية الى قلب مسار عملية التحديث الإجتماعي رأساً على عقب. أو بما هي قوة ارجاعية تعمل على تحقيق الانفصال عن تيارات الحداثة العالمية المتدفقة، وعلى إعادة تركيب عالم ينتمي إلى زمن ما قبل الحداثة. ومن هذا المنظور بالذات تنظر الإيديو- ستراتيجيا الحاكمة في الغرب إلى الثورة والدولة في ايران على أنهما ثورة مضادة تبعث الروح في النظام القديم.
على الضفة المقابلة من هذا التوصيف السلبي لما يمكن تسميته «إسلام الميدان»، ثمة في الغرب من يعاين الصورة بطريقة مغايرة. وتبلغ هذه المعاينة مستوى من الفهم يصبح من غير الممكن النظر الى مشروع الأصوليات، بوصفه مشروعاً ينتمي إلى ما قبل الحداثة، وإنّما باعتباره مشروعاً عائداً الى ما بعد الحداثة. ذاك أنّه لا بد من رؤية «ما بعد حداثية الأصولية» في الدرجة الأولى، من خلال رفضها للحداثة. وفي كون هذا الرفض مخصوصاً بالهيمنة اليورو- أميركية. ولقد اعتدنا ان نجد في سياق التقاليد الإسلامية كيف انّ الحداثة بالنسبة إلى الحركات الإسلامية التقليدية، تعني ذوباناً مبالغاً به في البوتقة اليورو- أميركية أو خضوعاً كاملاً لها. لكن المثل الإيراني سيتخذ لنفسه سيْريّات تتجاوز هذا السياق. وهو ما نلاحظه من خلال الحراك الإجمالي للمشهد الثقافي والفكري والتنموي على امتداد تطورات «الزواج المتصل» بين الثورة والمجتمع والدولة.
ثمة من يقرر في الغرب في سياق هذه القراءة التأويلية، أنّه إذا كانت الحداثة تعني السعي لاكتساب تعليم الغرب وتكنولوجيته في خلال الاندفاعة الأولى من مرحلة ما بعد «الاستعمار التقليدي»، فإن من شأن ما بعد الحداثة أن يعني عودة إلى القيم الإسلامية التقليدية ورفضاً للحداثة.
من المؤكد بالطبع وجود شرائح قوية من المسلمين كانت «معادية للغرب» بمعنى من المعاني منذ بدايات الاستعمار، غير أن ما هو جديد في صحوة التأصيل التي أطلقتها الحالة الايرانية، لم يكن في الحقيقة إلا ظهور قوى جديدة انبثقت هذه المرة من شروط اشتغال النظام الإمبراطوري الجديد. وتبعاً لهذا المنظور يمكن اعتبارالثورة الإيرانية، وبمقدار ما – كما يقول ناقدو ليبرالية ما بعد الحداثة – انها أولى ثورات ما بعد الحداثة، التي تحصل في الشطر الأخير من القرن العشرين.
في تداعيات المشهد الجاري نرى مثلاً كيف تتبيّن النخب الإيرانية، على مختلف اجتهاداتها الفكرية والإيديولوجية والسياسية، واقع أن العالم اليورو- أميركي يتعامل مع المنجز النووي لبلادها بصفته مضارعاً حضارياً بامتياز. حيث ينطلق هذا العالم إلى ما يتعدى الإطار التقليدي في أسلوب مواجهة مع دولة ذات طموح سيادي من دول العالم الثالث. وهناك من يقول إنّه ينطلق من ثابته استراتيجية عليا تسعى إلى إحباط إحتمال حضاري اسلامي قد يسهم في تعديل وتبديل صورة التقسيم الحضاري العالمي، الذي أرست الحداثة الغربية الاستعمارية قواعده منذ أواخر القرن التاسع عشر.
وفي المجال النووي على وجه خاص، يدرك الغرب مثلما تدرك إيران أن تطور هذا النوع من التكنولوجيا، وتمركزها في مجال اليورو - أميركي أديا إلى تقييد سيادة أكثرية بلدان العالم، بمقدار ما أفضى إلى حرمانها من اتخاذ قرارات الحرب والسلم. وهذه على ما تبيّن الفلسفة السياسية الكلاسيكية هي بالضبط عناصر التحديد الكلاسيكي لمعنى السيادة. أضف الى ذلك أن وضعية التهديد النهائي متمثِّلاً بالقنبلة التي امتلكتها امبراطوريات الغرب أدت إلى اختزال جميع الحروب، وحوّلتها منازعات محدودة أو مضبوطة بإحكام، تبعاً لمصالحها، أو إلى حروب أهلية وعرقية مفتوحة.
اسئلة الحداثة في ايران تبدو هذه الأيام، على خط تماس شديد الاحتدام مع حداثة الغرب بصيغتها المعولمة، بينما يبقى السؤال حاضراً بقوّة حول المآل المنظور الذي سيسفر عنه هذا الاحتدام.
محمود حيدر
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد