افتتاح متحف الفنون الأول بباريس
متحف الفنون الأولى» الذي افتتح في باريس أخيراً بعد عشر سنوات من التحضير خاص بالمنتجات الفنية الروحية والسحرية للحضارات غير الاوروبية.
تضم كنوزه (أكثر من 300 الف تحفة) قطعاً من افريقيا وأوقيانيا (جزر المحيط الهادئ) وأستراليا وآسيا. عرض منها 3500 تحفة فقط على مساحة تقرب من خمسة آلاف متر مربع. المساحة تتألف من ستة معارض دائمة ترتبط بمحاور الزمان والمكان، من أقنعة سحرية الى أردية طقوسية الى منحوتات معبدية، وآلات موسيقية نذرية وغيرها، تنتقل ما بين سييريا الى الصين ومن بورينو الى النيجر ومن الأمازون الى بقايا حضارات الآنكا والازتيك للهنود الحمر، وهناك معارض معلقة منها ما هو معاصر مثل التي يقيمها سبعة أوستراليين يحملون تقاليد ذاكرتهم المحلية غير المعروفة، نعثر في زخارف المتحف على اشارات قدسية تتجاوز حدود القوميات والشعوب والقارات مثل الحية والسلحفاة، والوعل والفيل والتمساح والخنفساء.
يربض صرح المتحف على ضفاف نهر السين (رصيف برونلي) مقابل «برج ايفيل» في قلب باريس وطول أبنيته يجاوز مئتي متر.
تجاوزت كلفة عمارته مئة وسبعين مليون يورو مع أربع سنوات مضنية اختبارية ميدانية (قابلة للتعديل) من فريق تقني عال بقيادة أشهر المهندسين المعماريين في فرنسا جان نوفيل. هو الذي صمم عمارة معهد العالم العربي في عهد ميتران، مرصعاً في واجهته الجنوبية عدسات من الرقش العربي المثمن، تفتح وتغلق آلياً وفق درجات الشمس والنور وساعات النهار.
كان فاز مشروعه في المسابقة العالمية وذلك لمطابقة عمارته ليس فقط لروح الارتياد المستقبلي وانما للمطابقة المثالية للوظائف والبعد التربوي والشمولي في أبعاده الثقافية، يتحدث هو نفسه عن الحاجة المزدوجة الى غياب النور (من أجل حفاظ المخزونات) وحضوره من أجل وضوح العرض، تتراوح الحاجتين بين شكل علب التخزين المكعبة البارزة في الواجهة ومبدأ المساحات الزجاجية الرحبة التي يتراشح فيها الضوء الخارجي مع الداخل.
تتفوق هذه العمارة كنموذج مستقبلي على «مركز بومبيدو» (الذي انجز في نهاية السبعينات كنموذج يحتذى في العمارة الثقافية الوظيفية المتحولة)، تلتحم في المتحف الجديد ثلاثة أبنية متباعدة في الهيكل والخامات والحلول المعمارية لا تتصل ببعضها الا من خلال عدد يسير من المنافذ والجسور. نعثر على دور رئيسي لمهندس نباتات وأشجار معروف، بدت حدائقه (التي تعانق الأنواع المتباعدة في القارات) شريكاً في التصميم، فقد أعتلت نباتاته (المأخوذة من غابات الأمازون) النوافذ، وزحفت أنواع الاشجار السامقة على مساحة حدائق وغيطان تتجاوز الألفي متر مربع. اشتملت العمارة على مكتبات ودور ابحاث مجهزة بوسائط اتصالية معلوماتية معقدة من أجل الإحالات والتحقيقات الانتروبولوجية (سميت أبرز مدرجاتها باسم كلود ليفي ستروك الانثروبولوجي الذي قضى على الاثنولوجيا العنصرية). ثم الارشيف الخصب ومسارح وقاعات محاضرات شتى اللغات الخ...
ارتبط هذا المشروع الثقافي برهان الرئيس جاك شيراك، ومنذ أن اصدر قراراً بانشائه منذ عشر سنوات عام 1996، حتى أن البعض اعتبره نوعاً من الوصية الأخيرة قبل انهاء مدة انتخابه الثانية بعد عام. وتحقيقه اليوم يعتبر انتصاراً ثقافياً للوجه الديغولي المعادي للحقبة الاستعمارية، واستعادة لاستقالة ديغول بعد منحه الجزائر استقلالها. وشيراك نفسه يملك مجموعة أثرية من الآثار السحرية خصوصاً الافريقية والأميركية. وكان قراره زلزل بيروقراطية المتاحف الفرنسية، فقد سحبت الى المتحف الجديد المجموعة الكاملة لمتحف الفنون «الأفريقية والأوقيانية» وأغلق عام 2004، وحولت كذلك المجموعة (الاثنولوجية) البارزة من «متحف الانسان» ومتحف اللوفر، كما استقبل تبرعات كريمة من أصحاب المجموعات الخاصة، ناهيك عن استعارة بعض القطع الشهيرة من المتاحف العالمية. ثم وهو الأهم تأسيس مجموعة مقتنيات المتحف نفسه منذ عقد بموازنة ضخمة، ابتدأت بشراء أول تحفة وأشهرها وهي: منحوتة شوبيكوارا من الطين المشوي والملون من الحضارة المكسيكية ترجع الى ما بين القرن السابع والثاني قبل الميلاد، اعتمدت صورتها كرمز للمتحف الجديد في كل مواقع الاعلان عنه.
ونتذكر أن متحفاً خاصاً بحضارات الهنود الحمر (مثل الآنكا والآزتيك) افتتح في واشنطن عام 2004، وأن السيدة نفاع المديرة السابقة لمتحف معهد العالم العربي لعبت دوراً أساسياً في المرحلة التحضيرية التي ابتدأت بابتداع قسم وبناء الفنون الأولى في متحف اللوفر، وكذلك المتخصصة اللبنانية هناء شدياق التي استقالت بدورها من متحف المعهد لتصبح مسؤولة في المتحف الجديد عن جانب مهم من النشاط الحرفي (بخاصة البدوي) في الشرق الاوسط والمرتبط بفن النسيج بأنواع زخارفه واشاراته وحياكاته.
تهيأ لي يوم الافتتاح من خلال ندوة رباعية بثتها مباشرة اذاعة مونت كارلو في باريس (الى جانب مدير المتحف استيفان مارتان والمهندس نوفيل وأحد المتخصصين المغاربة) أن أعيد شرح اهمية العنوان الجديد: «الفنون الأولى» الذي حلّ بقرار علمي من جانب الرئيس شيراك محل التعبير الاستعماري «الفنون البدائية»، وأصبح معتمداً في المحافل والدراسات العلمية والأثرية منذ عشر سنوات، شرحت بأن المصطلح الجديد يصحح النظرة الاستعمارية التقليدية للحضارات غير الأوروبية، بل ويعتبرها أسبق من الحضارة الأوروبية باعتبار ضمني للأخيرة بأنها الفنون الثانية، لنتصور بعد ذلك خفة بعض الترجمات الصحافية العربية المتسرعة التي عادت واستخدمت عبارة «متحف الفنون البدائية» من خلال الحديث عن المتحف المعجزة الجديد. يعيدنا خطاب شيراك يوم الافتتاح الى ما كان يردده وزير الثقافة في عهد ديغول أندريه مالرو على لسان لويس ماسينيون بأنه «لا يكفي أن نعرف الآخر وانما المهم أن نحبّه».
أسعد عرابي
المصدر:الحياة
إضافة تعليق جديد