إلى أي حد تخشى أوروبا الإرهاب؟

13-01-2015

إلى أي حد تخشى أوروبا الإرهاب؟

منذ أن بدأت ظاهرة التطرف الإسلامي تهيمن على المشهد الميداني في الشرق الأوسط، ومنذ أن برزت ظاهرة الهجرة الجهادية من أوروبا إلى سوريا مطلع العام 2012، توقع العديد من المراقبين أن تتراجع الحكومات الأوروبية عن دعمها السياسي والإعلامي العلني، وربما المادي الخفي، للمسلحين في سوريا، وذلك خشية عودة الجهاديين إلى أوروبا. وبدأ المراقبون يراهنون على هذه الخشية ويعدون الأيام والساعات لحصول تغيير في الموقف الأوروبي من الأزمة السورية، وعودة التنسيق الأمني مع دمشق. ولكن ما حصل هو أن التسهيلات الأوروبية تزايدت بشكل ملحوظ، ووصلت إلى حد غض النظر عن قيام الفصائل المسلحة في شمالي شرق سوريا بتسويق النفط إلى خارج البلاد. ولكن ما هو سر غياب القلق الأوروبي من ظاهرة تغول الجهاديين في سوريا؟
لم يكن اختراق أجهزة الأمن الأوروبية بالمسألة السهلة أبداً. وتاريخ العمليات الإرهابية في العقود الثلاثة أو الأربعة الماضية يشير إلى أن العمليات الناجحة كانت فقط تلك التي تنفذها منظمات تحظى برعاية دولية. كما كان الحال مع عمليات «فتح - المجلس الثوري» التي أسسها صبري البنا (أبو نضال) أو العمليات التي نفذها «كارلوس الثعلب»، وحتى الجيش الجمهوري الإيرلندي يقال إنه نفذ بعضاً من عملياته الكبيرة مستفيداً من دعم تلقاه من العقيد القذافي. فقد استفادت تلك المنظمات من الرعاية الدولية التي كانت توفر لها ما تحتاجه، من أموال وأسلحة ومتفجرات، عبر سبل مختلفة وصلت في بعض الأحيان إلى استخدام الحقائب الديبلوماسية ومنح جوازات سفر ديبلوماسية للمنفذين، لتسهيل تحركاتهم عبر أوروبا. ولكن تطور تقنيات الرصد والمراقبة الخاصة بأجهزة الأمن، ورفع مستوى التنسيق بين دول الاتحاد الأوروبي، جعل حتى هذه السبل عاجزة عن اختراق الإجراءات الأمنية. وهذا ما أدركته المنظمات الإرهابية جيداً، والتي وجدت أن السبيل الوحيد بعد مطلع الألفية الثالثة لاختراق الإجراءات الأمنية، هو استخدام خلايا صغيرة، ضمن تنظيمات لامركزية، والعودة إلى بعض الأساليب البدائية، كالتواصل بين الأعضاء في التنظيم شفوياً ووجهاً لوجه، واستخدام السكاكين بدل الأسلحة النارية، واستخدام المواد الكيميائية البسيطة المتوفرة في الأسواق لصناعة متفجرات بدائية، كما كان الحال في تفجيرات لندن 2005. يومها، صرحت قاضية التحقيق في تفجيرات لندن أن المواد الأولية التي تم استخدامها لتحضير المتفجرات يمكن شراؤها بسهولة تفوق سهولة شراء حبوب الأسبرين!
يبدو إذاً أنه من المستحيل منع العمليات الإرهابية بنسبة مئة في المئة، وأن أفضل ما يمكن فعله هو فرض إجراءات تقلل احتمال نجاح العمليات الإرهابية إلى أدنى حد ممكن، وفرض إجراءات أمنية عالية للغاية في المواقع الحيوية. ويبدو أن السلطات الأوروبية قد تقبلت، منذ سنوات، هذا الواقع المخيف، وهي تعمل بشكل دؤوب ومستمر على تعزيز الإجراءات الأمنية لتغطية الثغرات المحتملة. ومعظم هذه الإجراءات لا يزال سرياً ولا تتكشف تفاصيله إلا عند وقوع حوادث معينة. فعلى سبيل المثال، أظهرت التحقيقات التي أعقبت قيام بريطانيين اثنين من أصل نيجيري، كانا قد اعتنقا الإسلام، بقتل جندي بريطاني باستخدام السلاح الأبيض في أحد شوارع لندن في أيار 2013، إن أحد المنفذين كان تحت المراقبة في العام السابق للجريمة، وذلك بسبب دردشة عبر شبكة التواصل الاجتماعي «فايسبوك»، ذكر فيها أنه يرغب بقتل جندي بريطاني. وأفيد بأن المراقبة قد رفعت بعد فترة عندما لم يصدر تصرف مريب آخر عن ذلك الشخص. وتشير هذه الحادثة إلى حجم الرقابة على شبكات الاتصالات وما قد يحصل بمجرد نطق شخص ما، أو كتابته، لكلمات مفتاحية معينة، إذ يتم تصنيف الشخص على أنه مثير للاهتمام، وهذا تعبير مهذب تستخدمه أجهزة الأمن بدل القول إنه مثير للشبهة.
وقد قدمت بريطانيا حادثة أخرى تكشف حجم الإجراءات الأمنية. ففي الصيف الماضي قتلت طالبة سعودية تدعى ناهد المانع، كانت قد قدمت لبلدة كولشستر شرق لندن لدراسة الإنكليزية، وذلك خلال عودتها إلى منزلها من الجامعة الواقعة خارج البلدة، بعدما سلكت طريقاً ترابياً بين الحقول. أثارت تلك الجريمة قلقاً كبيراً في تلك البلدة الإنكليزية الصغيرة، البالغ عدد سكانها نحو 120 ألف نسمة. فقامت الشرطة البريطانية بنشر العشرات من مقاطع الفيديو التي التقطتها كاميرات مراقبة تغطي المسافة بين الجامعة وموقع الجريمة، وجميعها مسجلة خلال فترة وقوع الجريمة، واتبعت الشرطة ذلك باستجواب حوالي سبعين شخصاً ظهروا في تلك المقاطع. الجزء المثير للاهتمام هنا هو أن كاميرات المراقبة، التي لم تكن ظاهرة للعيان، غطت منطقة تكاد تكون غير مأهولة في محيط بلدة صغيرة في الريف الإنكليزي، ومقاطع الفيديو هذه هي ما كان متاحاً للشرطة المحلية في تلك البلدة، ولا أحد يعلم ما هو متاح للاستخبارات الداخلية البريطانية «إم آي 5»، ولا عن حجم تلك الإجراءات في العاصمة لندن، أو عن الإجراءات التي قد تكون قائمة في العواصم الأوروبية الأخرى.
ما تشمله الإجراءات الأمنية الأوروبية إذاً هو رقابة صارمة على كل التحويلات المالية، ومراقبة كل ما يتم قوله أو كتابته عبر شبكات الاتصالات، إضافة إلى وضع قوائم بالأشخاص «المثيرين للاهتمام». ولكن ما يبقى عصياً على الكشف أو المراقبة هو الأشخاص الذين ما زالوا في طور النيات أو الأماني. هنا يبدو أن الأزمات المسلحة في الشرق الأوسط تفيد السلطات الأوروبية إذ أنها تشكل دافعاً لهؤلاء الأشخاص لكشف نياتهم أو للانتقال إلى مناطق تلك الأزمات للانضمام إلى ما يسمى بالتنظيمات الجهادية الدولية. واللافت هنا هو أن الدول الأوروبية كانت هي التي نشرت إحصاءات للأفراد، من حملة جنسياتها، والذين تعتقد أنهم انتقلوا إلى الشرق الأوسط للجهاد، وهذا يشير إلى أن الدول الأوروبية تملك معلومات دقيقة، إلى حد بعيد، عما يقوم به مواطنوها.
هنا يجب ألا يساء تحليل عواقب بعض الهجمات الإرهابية مثل الهجوم على صحيفة «تشارلي إيبدو» الفرنسية الساخرة. فبرغم أن الهجوم يثبت وجود ثغرات في الإجراءات الأمنية الفرنسية، إلا أنه لا ينبغي التسرع والاستنتاج بأن حادثة اليوم ستقود الحكومة الفرنسية، أو غيرها من الحكومات الأوروبية، إلى اتخاذ موقف مختلف من الأزمة السورية. بل يمكن استنتاج العكس تماماً. للتوضيح أكثر، دعونا نتساءل عن عواقب تبادل المعلومات والتقارب الأمني الفرنسي السوري، مثلاً، وعن عواقب منع سفر الأشخاص الذين يشتبه بأنهم قد يتجهون إلى سوريا للقتال. من المستبعد، بدايةً، أن يكون لدى السلطات الأمنية السورية معلومات أكثر من السلطات الأمنية الفرنسية عن نيات المقيمين في فرنسا، وما قد يكون لدى السلطات السورية هو معلومات حول من هو موجود أصلاً على الأراضي السورية، وهؤلاء، غالباً، تعرفهم السلطات الفرنسية بشكل جيد. ولهذا يستبعد أن يقدم تبادل المعلومات الأمنية فائدة كبيرة للسلطات الفرنسية. أما قيام السلطات الفرنسية بتنسيق إجراءات تعاون أعلى مع السلطات السورية، فهذا سيكون له عواقب سلبية بالنسبة لفرنسا إذ إنه سيقدم دفعة قوية ويمنح مصداقية للدعاية التي تنشرها «القاعدة» عن كون دول الغرب هي عدو المسلمين، وأن هذه الدول تتعاون مع السلطات العربية ضد المسلمين. وقد يكون التعاون السوري ـ الفرنسي سبباً لتوجيه المتحمسين للإرهاب جهودهم نحو السلطات الفرنسية نفسها، وهذا بكل تأكيد ما لا ترغب السلطات الفرنسية بحصوله.
من الناحية الأخرى، تقدم الأحداث الإرهابية، من قبيل الهجوم على صحيفة «تشارلي إيبدو»، فرصةً ذهبية للسلطات الأوروبية لتبرير المشاركة في الحرب ضد تنظيم «داعش»، وستبرر أيضاً فرض المزيد من الإجراءات الأمنية وتسمح بتمرير الزيادات المطلوبة في الموازنات الأمنية والدفاعية. على صعيد آخر، وإن كان هناك مبالغة في الاستنتاج بأن ما يحصل في الدول الأوروبية قد يشجع على زيادة هجرة اليهود إلى إسرائيل، إلا أنه لا يمكن تجاهل أن فرنسا في العام 2014 تصدرت قائمة الدول التي تصدر اليهود إلى الكيان العبري، وذلك للمرة الأولى منذ إنشائه في العام 1948. وإذا ما أردنا التركيز على حادثة الهجوم على الصحيفة الفرنسية بحد ذاتها، فإنه من المرجح أن تشكل هذه الحادثة ذريعة للسلطات الفرنسية للتدخل بشكل مباشر في سوريا بحجة محاربة الإرهاب، أكثر من أن تكون هذه الحادثة دافعاً لانعطافة في السياسة الفرنسية تجاه المنطقة.



محمد صالح الفتيح: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...