أنسي الحاج: عفوَ الكلمـــــات
لماذا يتمكّن الموسيقيّون من التعبير بالموسيقى ولا يستطيع الكتّاب؟ لماذا يقدر الملاكمون والمصارعون أن يعبّروا بالضرب ولا يستطيع الكتّاب؟
ولنبقَ في الموسيقى، حتّى لا ننساق إلى الإفصاح عمّا سنندم عليه لحظةَ الإفاقة من ساعة الحقيقة.
أعتقد أنّ الأدباء إجمالاً يشعرون بالنقص حيال مؤلّفي الموسيقى. كبار الشعراء ماتوا وفي نفوسهم شيء من النوتة. ضاقت الأوزان بفكتور هوغو فابتكر بحوراً جديدة وضاقت ببودلير فلجأ إلى النثر. وناطح فاليري الرياضيّات والفيزيائيّات والفلسفة علّه يخترق الجبل إلى موسيقى أقرب إلى الموسيقى فباء بنظمٍ متحذلق لن يتبقّى منه الكثير. وجُنَّ ماللارميه باللفظة ــ لفظة «أزور» تحديداً ــ وراح يتقعّر ويوغل في التنظير حتّى انتهت محاولاته بخلاصةٍ عَدَميّة هي عبارة عن مغلَّف للعقم. لكنّ مالّلارميه نجح في جعل العقم مرادفاً للكمال.
إذا كان الشعراء يتبعهم الغاوون فالشعراء يتبعون الموسيقيّين. لماذا؟ لأنّ لغة الشعر مؤلّفة من حروفٍ تلوكها العامّة ولغة الموسيقى من رموز تعجز عنها الآلهة.
ولأنّ الموسيقى تنهمر كشلّالٍ من الشمس المائيّة.
■ ■ ■
لا أفهم التفاصيل التقنيّة في المؤلّفات الموسيقيّة، وقد يسحرني مَن يزدريه الخبراء عادةً، كفرانز ليست أو تشايكوفسكي. وسأظلّ أسكر بريمسي كورساكوف ورحمانينوف مهما قيل إنّ ذلك دأبُ الجمهور البسيط. وكنتُ أضجر حين كان عاصي أو منصور الرحباني يحاول أن يعرّفني على الدواخل التقنيّة، وبلغ ضجري ذروته أحد الأيّام في فندق ببحمدون لمّا عرّجنا معاً على محمد عبد الوهاب للسلام، وانغمس الأخوان، وبالأكثر عاصي، في حوارٍ اختصاصيّ معه حول الآلات والطبقات والتجديد والتلقيح أيقنتُ خلاله أنّ أهمّ ما في الإعجاب براءة المُعْجَب من دم المعرفة.
طوبى للجهلاء فإنّهم يُمَتَّعون!
■ ■ ■
هذه الحاجة إلى «فعل» الموسيقى تشبه المراجل الهزلية لو لم تكن تعطّشاً فيزيكيّاً فاقد المنطق لمَن يراه من الخارج ومُحْكَم التجانس بالنسبة لي. وصلتُ في مغامرتي الكتابيّة إلى منطقة لم أعد أشعر فيها بأنّ لغتي تكفيني وأنّ الكلمات تملأ فمي. منطقة تنتهي فيها حدود الطاقة الكلاميّة فتجد نفسك أمام أفقٍ يستوجب مخاطبةً مختلفة، وتحت وطأةِ مشاعرٍ وخواطر هي أقرب إلى ظواهر الطبيعة، كهياج البحر أو هستيريا العاصفة، كحقول تحترق أو رحلة في قطار شرع ينحرف نحو الهاوية. تحسّ أنّ لسانك مكبوس في زجاجة، وكلامك لم يعد سلاحك، والفرق بين ما يحصل فيك وما يواصل حصوله في الواقع فضيحة، وأنّك تصرخ في منامك، ولم يعد يجديك الصراخ بل تحتاج إلى ما يُغيّر، يُميت ويحيي، يشهد الشهادة التي تمزّق الأحشاء، تستولي على القَدَر، وتمحو المكتوب.
تحتاج إلى ما يعيد للإنسان العاجز قدرة الآلهة القديمة ــ وكانوا بشراً قبل آدم المظلوم ــ على التحكّم في آلةِ المصير.
■ ■ ■
إنْ غَلَبَني التأثّر فما جدوى الكلمات، وإنْ ساررتُ فلا تَصْدُق الكلمات. إنْ أردتُ أن آخذك بين أضلعي فلا تكفي الكلمات. وإنْ أردتُ أن آخذ حياتك فبأيّةِ كلمات؟
ولا تحدّثني عن التصوير والنحت ولا عن الرقص. ولا حتّى عن المسرح. السينما، هذا السلاح الفعّال، أكانت تكون ذلك السلاح لولا الموسيقى؟
ربّما ليست الموسيقى، ليس الصوت هو القويّ، بل الأذن هي الضعيفة. أقصد الضعيفة بمعنى الأشدّ رهافة، القناة الممكن بواسطتها السيطرة على السامع. موصولةٌ رأساً بالجهاز العصبي، بالعمود الفِقَري، تنتقل منها ذبذباتُ الصوت إلى الكيان كلّه كتلةً واحدة، كعاصفةٍ تكوّمت وانتشرت في العروق. يغدو السامع فريسة، فريسة سعيدة لنوع محدود من الأصوات وفريسة شقيّة للأكثريّة الساحقة من الأصوات. نُمسي هنا في حالةٍ من التأثير المغناطيسي الصرف.
تقول إحدى النظريّات إنّ حياةَ الكائن تنتظره قبل أن يولد وعندما يولد تنتقل إليه. هكذا قُلْ عن الحواس وعلاقاتها وعن الميول والحساسيّات.
لم يتمكّن منّي صوت إلّا كان فيه شيءٌ من الرَقْوَة. سحر الصوت المزدوج الطبيعة، أحضانه خصبة رؤوم فيها هدهدةُ الأمّ وحماية الأب. أجنحةٌ تُعيد إلى الصدر الأجنحة. خَدَرٌ أقوى من الحلم، أرحم من الغفران، أنعم من نظرات الملائكة. لا تتوقّف الرعشة تحت تأثير أصوات كهذه، رعشةٌ تُجمّدُ أوصالك، تشلّ حركتك، تريحك من وعيك. رعشةٌ تُبارك حاسّة السمع، فترى وتلمس وتَسْبح وتشفى وتنجو بأذنيك.
هذا ما وجدته في صوت فيروز صيف 1962 على أدراج بعلبك يوم ظهرتْ في «جسر القمر» وهذا ما رحتُ أبحث عنه وأجده في كلّ ريبرتوارها. جيلُ اليوم يجهل مع الأسف القسم الأكبر من ريبرتوارها، وهو البادئ في خمسينات القرن الماضي، ومنه كنوز لا شكّ أنّ تغييبها جريمة موصوفة، ويشكّل سبباً رئيسيّاً لاعتقاد البعض بأنّنا نبالغ حين نتكلّم عن صوت فيروز.
■ ■ ■
التنازل أمام الصوت تنازل عن الأنا. الاستسلام لأمواجه اضمحلالٌ هانئ.
■ ■ ■
الأغنية الكاملة هي الأغنية الناقصة. تبقي المستمع على جوعه. ذكاءُ الأخوين رحباني (والأرجح أيضاً ميلهما الطبيعي) هو السرعة. اخترعا أسرع الأغاني. حتّى في مسرحهما الغنائي حيث كان الجمهور يمكن أن يتوقّع الإسهاب لم يُسهبا. اخترعا الأغنية التي «تَملأ» ولا تُشبع، وبالعناصر الثلاثة: اللحن والصوت والكلمات. وبالغا في الإيجاز وكادا لا يقعان ولا مرّة في التطويل.
■ ■ ■
الفنّ الفيروزي ــ الرحباني يعيد إلى المستمع طفولته. أحياناً، في بعض المواقف (وردة تحاور نفسها في «المحطّة»، خاطر يعاتب هَوْلو في «الليل والقنديل»، عطر الليل تستجوب الأمير في «أيّام فخر الدين») أو في النهايات الخائبة لبعض المسرحيّات («الشخص»، «يعيش يعيش») ما يعيد إلى المستمع طفولة جريحة.
بالأكثر في مستوى الأسى أو التمرّد، ولا مرّة مدعاة لليأس.
■ ■ ■
كان شخص بين أصدقائي يتضايق من هوسي بصوت فيروز ويقول لي مستهزئاً: «بس تشبع منّو شو راح تعمل؟». ما تكرهه الأذن سوف تظلّ تكرهه وما تحبّه سوف تظلّ تحبّه. حبّ الصوت بهذا الشكل «العضوي» ليس تفضيلاً حُرّاً بل هو إدمان. قد يشفى الإدمان المصطنع كما في حالة المخدّرات، لكنّ الإدمان المرسوم في خريطة الجينات علامة.
■ ■ ■
المغنّي يعير صوته للكلام لكنّ المغنّي العظيم يعير روحه. وعندما تكون روحه وصوته واحداً، كما عند فيروز، فهو لا يُغنّي الكلام بل يوجده. غنّت فيروز أكثر الكلام احترافاً غنائيّاً مع شعر الأخوين رحباني فجاء صوتها «يغنّي» لهما بقدر ما كان قلماهما يكتبان لصوتها، وغالباً أكثر، وفي كلمات البدايات خصوصاً حين كانت ضرورات القافية غالباً ما تُملي الألفاظ نفسها حدّ الملل. في هذا الغالب كان الصوت يخلق دوائر الجاذبيّة والباقي يتبع. في حالة غناء الشعر غير المكتوب للصوت، كما مع قصائد سعيد عقل، اجترح صوت فيروز (بالإضافة إلى الألحان الجميلة) معجزة إيصال لغةٍ مستعصيةٍ إلى جمهورٍ عريض، والبرهان أغنية «سائليني» وأخريات من مجموعة «رندلى».
ليس هذا لأسباب احترافيّة بل لطبيعةِ حنجرة تمنح الألفاظ، بمجرّد نطقها لا غنائها فحسب، أبعاداً وأصداء لا تجدها في التخاطب المألوف ولا في الغناء العادي مهما كانت قدرات حنجرة صاحبه.
تكلّمت مراراً عن داخليّة هذا الصوت وأطلقت على صاحبته لقب «شاعرة الصوت» وأحد معانيه التطابق بين رحيق الغناء وروح الشعر. الشعر يطمح أن يصير صوتاً يلعب بين وادي الذات وسمائها، يعيد إنتاج ذاته في سامعه وإنتاج حواس سامعه (قارئه) إلى ما لا نهاية. الصوت الهاجس المرجوّ، اللازمة الرَقيّة، حائط المبكى وسدرة المنتهى. فيروز شاعرة الصوت بقَدْر ما هي صوت الشعر، الشعر الخالص من الخطابة واللفظيّة والنرجسيّة والنظريّات. أيّ قوّةٍ في أن يكون صوتٌ بَشَريّ ملاذاً بهذا الحجم، صوتٌ لا يتوخّى السلطة، أَحَلَّ الوداعةَ محلّ سباق طول النَفَس والتواضع محلّ الفخفخة والفعل الداخلي الصرف محلّ التأثيرات الخارجيّة الباذخة والساحقة؟
■ ■ ■
الصوتُ بديلٌ من الكائن البشريّ. هو الحضور الكامل بلا ضريبة. صوتٌ يناسبك هو كلّ ما يصبو إليه حلمك الخائف من خياله.
■ ■ ■
وفق الروايات لم يتجلَّ الله للإنسان إلّا بواسطتين: ملاك (حكاية يعقوب، بشارة مريم) والصوت من الغمام أو الرعد. الصوت هو الغالب، وبلغ الأوج مع موسى، وقبله إبراهيم وقايين وآدم وحوّاء، وبعدهم أيّوب. تقول الروايات (العوسجة الملتهبة) إنّ الله يستكثر على الإنسان أن يعاينه، فهو لاهبٌ محرق أعظم من عين الشمس. لكنّه لم يستكثر عليه أن يَسمع صوته. علاقةُ الله بالصوت علاقة السرّ بنفسه.
الله «فضَّلَ» إسماعَ صوته. ركن إليه. حمّله رسائله. استودعه سلطانه.
مقابل ذلك، كان الله يسكن أيضاً السكون المطلق.
الصوت حضوره الاحتفاليّ والصمت حضوره الوديع.
■ ■ ■
عفوَ الكلمات فهي طبعاً لا تنضب، لكنّه الكاتب يضيق بنفسه.
أنسي الحاج
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد