أمهات في المعتقل
خمس وأربعون معتقلة من الشيوعيات والعرفاتيات في المهجع رقم (6) في فرع الأمن.
المكان الضيّق حدّ الاختناق، جعل المعتقلات ينقسمن إلى مجموعتين: مجموعة تنام (تسييف)، والمجموعة الأخرى تسهر عند الباب، تنتظر بفارغ الصبر استيقاظ الأخريات كي تستطيع النوم.
كانت غرناطة.ج ومنى.أ تسهران قريباً من فوهة الشباك العالية المحددة بالشبك المعدني، والمطلّة على أرضية ساحة السجن الخارجية. تنكمشان على نفسيهما، وكل منهما تحتضن ركبتيها، وتراقب قطعة السماء الصغيرة الكحلية المقسّمة إلى مربعات حديدية.
كانت ليلة جليّة للغاية، ونقية بشكل مثير للشجن...
فجأة غطّى الفوهة القاتمة وجه نوراني، ملاك ظهر أمام ناظريهما بشكل خاطف، وكأنه بعث إليهما من السماء حقاً! مرّت هنيهات قبل أن تكتشف غرناطة ومنى أن البدر الذي أشرق فجأة كان وجه طفل، طفل حقيقي في هذا المكان القاحل كالصحراء والمعتم كقبر. كان عمره قريباً من عمر مجد: ابن منى. ربما للحظات تجلّى مجد أمام الأم، كحلم أو كطيف بعيد، لم يغب لثانية واحدة عن خيالها الذي لم يستطيعوا اعتقاله أبداً. كأن القدر بعثه كي ينشلها من هذا العذاب.
صارت منى تحاول التقرب منه، وقد بدا أن قطعة من قلبها تعلّقت بوجه الطفل المطل من الشباك العالي. ثم راحت المعتقلات الأخريات تتزاحمن تحت الفوهة العالية، مشرئبات بأعناقهن تجاه الطفل، محاولات، كل بدورها، أن تتحادث معه أيضاً. ربما تخيّلت كل أم منهن طفلها ماثلاً في وجهه.
لم يجب الطفل، كانت عيناه مفتوحتين على سعتهما، الدهشة تقطر منهما، وهو يحاول تبيّن كتلة الأجساد والوجوه التي تشرئب إليه، واللمبة الصفراء تحيلها إلى تهويمات ضبابية شاحبة كالموت.
أخيراً، وبعد طول محاولات، استطاعت منى أن تجعله يجيبها، ولكن بجملة واحدة:
ـ ما لازم إحكي معكون أنتو مجرمات.
صاح الصغير وهرب. غاب فجأة كما أشرق.
ثمة شيء ما تحطّم في داخلهن، بدا ذلك على وجوه السجينات، وعلى ملامح منى وعينيها اللتين امتلأتا بالدمع.
عادت المعتقلات للجلوس من جديد والانتظار، كما عادت منى وغرناطة إلى الزنزانة. لكن شيئاً داخلياً لم يعد كما كان، لم يعد البتة كما كان.
لم تمر لحظات حتى رجع وجه الصغير من جديد، لينير الزنزانة من الشباك. ولم تكد منى تعي رجوعه، حتى طفق يرمي لهن بزهور صغيرة برية، برية وصفراء، من تلك الأزهار التي تنمو في كل مكان حتى في باحة معتقل كفرع الأمن.
كان يدخل كل زهرة على حدة من فراغات الشبك الحديدي الصغيرة والقاسية، لتتهادى الزهرة بغواية إلى عمق الزنزانة كنور يسقط من الأعلى، والفتيات يتسابقن للإمساك به. زهرة فزهرة فزهرة...
كان يبدو أن ما لقّنه له والده الضابط لم يكن كافياً لجعل الطفل يبتعد عنهن كمجرمات. كن يشبهن أمه أيضاً...
مرّت دقائق فحسب استطاعت منى خلالها أن تعاود الحديث مع الطفل، لتخلق الكلمات حياةً جديدة في فراغ روحها، ولتجعل صورة مجد، ابنها، تظلل أوقاتها، قبل أن تسحب يد ثقيلة وجه الطفل من الشباك، ويعود الظلام من جديد إلى المهجع رقم. وتعود الأمهات إلى البكاء الذي ما انقطعن عنه.
...
في فرع الأمن كان هناك الكثير من الأمهات المعتقلات، حوالى السبع أمهات من أصل اثنتي عشرة معتقلة. ظللن أكثر من ثلاث سنوات في المعتقل بعيدات عن أطفالهن: دلال. م، لينا. و، رجاء. م، بثينة. ت ، منى. أ، هتاف. ق، آسيا. ص، منيرة. ص، وسهام. م. بعضهن مثل رجاء. م وبثينة. ت لم يكن منظّمات في أي حزب، مع ذلك قضين سنوات طويلة في السجون.
لدى سهام. م، الملقبّة بأم حديد، ولدين في الخارج، وزوجها معتقل كذلك. وسهام لقّبت بأم حديد لأن زوجها، الذي كان صديقاً للحزب، بدأ يوماً ببناء بيت جديد له، وكان الحزب يحتاج بعض المال، فما كان منه إلا أن باع الحديد، ليتبرع بثمنه للحزب. وكتب رسالة إلى المعنيين بالأمر قال فيها: زوجتي ليست أقل مني حماسة لتقديم مساعدة للحزب.
نتيجة لذلك دفعت سهام (أم حديد) ثمن حماستها الشفهية ثلاث سنوات ونيّف من عمرها وعمر أطفالها في المعتقل.
صباحاً حين كانت أصوات الأبواب الحديدية توقظهن، كانت المعتقلات يلقين تحية الصباح على بعضهن:
صباح سندويشات اللبنة...
صباح كوي الصداري...
لكن الصباحات كانت تمضي دون أن يستطعن تعويض الغياب: غياب الأطفال عنهن، وغيابهن عن حياة أطفال تركوا في الخارج دون أمهات، وفي الغالب دون آباء أيضاً. كان الغياب هو العذاب الأول والأخير بالنسبة لمعتقلات فرع الأمن. خاصة أن الزيارات كانت قليلة بل نادرة في بعض الأحيان.
بالنسبة لبثينة. ت كان الأمر محطِّماً. ذلك أن ابنتها راما أبعدت عن صدرها وهي ترضع بعد. أخذوها ولم تكن قد بلغت شهرها العاشر. حينذاك كانت بثينة تصرخ في زنزانة فرع الأمن طيلة أيام وتطالب براما، لكنهم لم يجلبوها بالطبع. وبقي صدر بثينة، الذي امتلأ بالحليب، يضغط عليها بآلام شديدة، وابنتها بعيدة، حتى سقطت مريضة محمومة طيلة أيام.
بعد سنة ونصف من الاعتقال، وقت سُمحت بأول زيارة في فرع الأمن لأهل سونا. س، وصلت مع الزيارة مجموعة من الصور إلى جميع المعتقلات. صرت آخذ الصور من الحقيبة لأوزعها على رفيقاتي. أستلم الصورة، أنظر إلى الخلف لأقرأ الاسم، ثم أنادي باسم صاحبتها، لتقفز الأخيرة إلى كنزها، وتتلقفه بولع. وقت وقعت صورة بين يدي لم أعرف لمن، صورة طفلة صغيرة وجميلة، ولا يوجد اسم خلف الصورة، وحينها صحت وأنا أرفعها:
ـ لمين هالصورة؟. صورة طفلة صغيرة.. لمين؟!
ـ إنها صورة ابنتك بثينة.. صورة راما.. ألم تعرفيها؟!!
صاحت إحدى الرفيقات اللواتي كن يعرفن ابنتي جيداً. أسقط في يدي وأنا أراقب الصورة من بين دموعي. كان مؤلماً للغاية اكتشافي أن الصورة هي لابنتي راما حقاً، وأني لم أتعرف عليها. كنت أسال نفسي هل هناك أم لا تعرف ابنتها؟!
لم أستطع رؤية راما إلا بعد سنتين ونصف من اعتقالي، حين سمحوا بأول زيارة لي. جاء أبي وأمي وأختي ومعهم صغيرة يحملونها. نظرت إلى الصغيرة ولم أعرفها من جديد، كانت راما الطفلة التي كبرت!. أما ابنتي الكبرى: لانا، فلم يحضروها إلى المعتقل البتة، كنت مصّرة ألا تتشوه ذاكرتها الغضة بمشهد اعتقالي في ذاك المكان المقيت.
ولم أرها حتى خرجت في سنة ,1990 وكانت لانا قد تجاوزت الثامنة من عمرها.
من الفرع كتبت بثينة رسالة إلى ابنتها:
(للوشة الحلوة: يا نور عيون ماما وبابا... صورتك وإنت رايحة عالمدرسة بتجنن، وصورتك وإنت عم ترقصي بعرس خالتك بتاخد العقل... هالمرة يا حلوة بدي صورة وإنت عم تكتبي الوظيفة.
كيفك يا ماما... زعلانة منك كتير لأنك لسه نحيفة والظاهر إنك ما عم تشربي حليب وما عم تاكلي منيح. تأخرت عليك يا ماما بس ما بإيدي... يلا ياحلوة اصبري رح إرجع لك إنت وراما أكيد أكيد. انتظريني يا قمري رح ابعتلك مانطو كتير حلو إلك ولراما إن شاء الله يعجبك... وتصوروا فيهم وابعثوا لي الصور... وابعثي لي صوف لإعمل لك طقم حلو... إنتي أشري لي عليه عالجورنال وأنا بعمل لك إياه...
شفت بالصور سنوناتك الجداد... دخيل عيونك وسنانك وقلبك يا لانا. صرت صبية وأكيد قربت تصيري بطولي... بكره يا ماما برجع وبفهمك كل شي. أهم شي يا حلوة ما تنسي أبداً أنو أنا وبابا غبنا عنك من شانك ومن شان راما وكل الأطفال الحلوين والشاطرين وأنو نحن بدنا نرجع بس ما عم يخلونّا...
إذا إجت تيتي لعندي (كلمات ممحوة) مشتاقتلك كتير ومشتاقه لراما...
كيفك إنت وياها يا صبية أكيد عم تعتني بأختك لأن إنت الكبيرة.
اكتبي لي رسالة يا ماما بخطك الحلو... على فكرة، خطك حلو كتير وأكيد إنت شاطرة بالمدرسة... بدي ياكي تطلعي الأولى هاه... وبدي تبعتي لي الجلاء بس تاخديه.
لانا: لا تفكري أبداً يا ماما أن فينا نكون جنبك وما عم نرجع. كل شي عم يصير غصب عنّا وعنّك... وبس إرجع بحكي لك كل شي بالتفصيل.
لانا: أنا لسّا عم غنيلك (عم تكبر الفرحة) وإنت لسه رفيقتي وأنا رفيقتك... وهلق بغيابي لازم تيتي ونانا وجدو وجوجو... يكونوا رفقاتك وتحكي لهم كل شي عم تفكري فيه... مئة بوسة على خدودك وعيونك وعيون راما يا أحلى الحلوين.
(ماما وبابا)
بعد سنتين من الاعتقال جاءت زيارة لدلال. م (أم علي) ورجاء. م على الشبك: أي يفصل بين المعتقلة والزوار حاجزين من الشبك الحديدي، وبين الحاجزين مسافة يتمشى السجان فيها طيلة فترة الزيارة.
عادة ما يغض السجان النظر، ليدخل الأولاد ويروا أمهاتهم داخل الشبك. دقائق قليلة تتنشق فيها المعتقلة رائحة طفلها وقوداً لشهور قادمة، وربما استطاع طفلها أن يتمتع، لدقائق أيضاً، بضمّة أمه وحنانها، على الرغم من حالة الرعب التي تزرعها فيه رؤية رهبة المعتقل وحواجز الشبك وصراخ السجانة.
هذا ما منّت دلال نفسها به، وهي تخرج للزيارة، محاولة ترتيب ثيابها على الدرجات القليلة الفاصلة بين القبو والطابق العلوي، حيث ينتظرها أولادها.
حين خرجت إلى الشبك متلهفة لاهثة لم أرَ أحداً ينتظرني! كان أهل رجاء. م ينتظرون مقدمها من وراء الشبك. سألتهم:
ـ وين ولادي؟؟
أجابوني أنهم منعوا سلفي وسلفتي، الذين يعتنيان بصغيري بعد اعتقالي وأبيهم، من الدخول إلى الفرع، باعتبار أنهما لا يعدّان، حسب عرف السجن، من الأقارب! والزيارة ممنوعة إلا للأخوة والأولاد والأبوين.
فجأة وقبل أن أقفل عائدة إلى القبو نظرت خلفي لأرى طفليّ: مي التي لم تبلغ الرابعة، وعلي الذي لم يبلغ السادسة، يدخلان وحيدين لزيارة أمهما. كانت صدمة كبيرة لي أن يُترك صغيران ليدخلا وحدهما إلى هذا الجحيم. الهلع يملأ وجهيهما الصغيرين، وهما يلتفتان يمنة ويسرة ويبحثان عني. فيما لا يواجههما إلا الشبك والسجانة وبكاء أهل رجاء.
ماذا أفعل؟ بالله ماذا أفعل؟ هل أتركهما وأهرب من هذا المشهد القاسي كي لا يروني؟ ماذا سأقول لهما؟
لم أستفق من الصدمة حتى كانت سلفتي قد دخلت عنوة وراء الولدين، في اللحظة ذاتها هدر صوت مدير السجن صارخاً ألا تدخل، وانتهت الزيارة بخروج الجميع.
إلى المهجع المظلم والخانق عدت. كانت الدموع تشوّش الرؤية أمامي. رحت أشتم وأسبّ بصوت عالٍ، لأني كنت سأموت اختناقاً إن لم أفعل. أشتم الجلادين القتلة السفلة. والسجان الذي يسوقني إلى المهجع يحاول جاهداً أن يهدئني لئلا يسمع مدير السجن صراخي...
لمَ كانت الزيارات، التي من المفترض أن تكون أشبه بطاقة نورانية تفتح أمام السجينة سهلاً أخضر وعطراً وسط عفن أيامها، تتحول في ذلك المكان إلى رحلة عذاب؟!
رحلة عذاب حقيقية خاضتها مريم. ز كذلك. كانت مريم قد اعتقلت في فرع الأمن ولم تكن ابنتها فداء قد بلغت الخمس سنوات من عمرها بعد. وفداء، التي عاشت طيلة فترة اعتقال أمها في بيت جدتها لأمها، لم تستطع رؤية مريم إلا بعد ثلاثة أشهر من بدء الاعتقال، حين سمح لها بالزيارة للمرة الأولى.
في ذلك اليوم أتت أم مريم وأختها وأخوها مصطحبين فداء معهم. كانوا قد أفهموا الصغيرة أن هذا هو مكان عمل أمها الجديد ليس إلا. وعليها أن ترى أمها لدقائق، كي تعود الأم إلى عملها من جديد.
الزيارة كانت في غرفة تغصّ بعناصر الأمن، الذين يتربصون بكل نأمة تخرج من أفواه الزائرين، وكل حركة تنمّ عن أحدهم. استمرت الزيارة نصف ساعة تقريباً، ظلّت فداء فيها منكمشة في حضن أمها دون أن تنبس ببنت شفة، تتحسّسها فحسب، تشتمّها، وتراقب ملامح وجهها وهي تكلّم الزائرين، وتطبع كل حين قبلة على وجه صغيرتها.
حين أُمروا بالمغادرة نزلت الابنة عن حضن أمها مستسلمة، كانت تبكي بصمت وهي تمسك بيدها. فيما دسّت الجدة مبلغاً من المال في يد ابنتها مريم قبل الوداع. فداء، التي كانت تلتقط كل ما يحدث كرادار، أخرجت مصروفها اليومي من جيب الجاكيت، ليرة واحدة كانت الجدة تهبها إياها كل صباح، ودفعتها بسرعة وتلهّف إلى أمها، وكما فعلت الجدة تماماً:
ـ خدي هي كمان ماما... من شان تشتري فيها.
...
لم يكن الأمر مختلفاً كثيراً في سجن النساء. كان هناك أيضاً العديد من الأمهات. لكن الأمر المختلف تمثّل في وجود بعض الأطفال والطفلات المعتقلات مع أمهاتهن في المعتقل!.
كان هناك الكثير من الأمهات الشيوعيات: أميرة. ح، فاديا. ش، سحر. ب، رنا. م، أم أكرم (زهرة. ك) وتالياً ضحى. ع.
لكن الأمر كان أقسى بالنسبة للمعتقلات الإسلاميات! هناك صغيرة اسمها سمية ابنة سلوى. ح، إحدى المعتقلات الإسلاميات، وقد صار عمرها سبع سنوات وهي في السجن مع أمها. وظلّت معتقلة حتى وقت الإفراج عن الإسلاميات من سجن النساء، وذلك في شهر كانون الأول .1989 وربما ما زالت إلى اليوم الجملة التي خطّتها سمية الصغيرة بيدها على جدران الزنزانة في فرع الأمن العسكري، حيث نقلوا الإسلاميات قبل وقت قليل من إطلاق سراحهن:
أنا سمية من مواليد سجن... سكنت في سجون... و...
لم يكن ثمة أحد في الخارج تستطيع الأم (سلوى. ح) أن توكل إليه تربية الصغيرة. لذلك كان لابد من إبقائها معها في المعتقل.
جاءت نساء تلك العائلة إلى سجن النساء في,1985 بعد أن قضين حوالى السنتين في السجن الصحراوي: أم حسان وابنتاها، سلوى. ح ويسرى. ح، وحفيدتها سمية ابنة سلوى. النساء الأربع كنّ رهائن لزوجي الابنتين: محمد. ش، زوج سلوى من المسلمين، الذي هرب إلى الأردن فيما بعد، وزوج يسرى الذي أعدم فيما بعد إثر محاكمات الإسلاميين.
عن سمية كتبت هبة. د في كتابها. عنونت الفصل بـ: ولادة أصغر المعتقلات:
(سيقت سلوى وأمها وأختها ومعهم ليلى. ب...
هناك في ذاك المكان المرعب الذي كن يرين فيه مواكب المعتقلين تساق صباح كل يوم إلى الإعدام حان موعد ولادة سلوى دون أن تكون لديهن أية وسيلة لذلك أو حتى أية ملابس للمولد القادم. لكن الله رحمهن بوجود قابلة معتقلة معهن اسمها رغداء س.
متى جاء سلوى الطلق كتمن الخبر وصياحها معه خشية أن يكون ذلك سبب لعذاب جديد لها أو حتى لهن!! حتى إذا ولدت سمع أحد الحراس على السطح بكاء المولودة فسأل فأخبرنه، فجاء هذا الشاب الذي لم تمت فيه بقايا الإنسانية بعد وأدلى لهن علبة صفيح فارغة وعود كبريت فأشعلن من ثيابهن فيها ما يكفي لتسخين ماء حمّموا به المولودة، وروت الأم بنفسها إنهن قصصن لها الحبل السري بقطعة تنك اقتطعنها من علبة الصفيح تلك!
غير أن المأساة لم تنته بعد، والخطر لم يبتعد عن هذه المولودة البريئة التي أسمتها الأم سمية. وقد قامت إحدى المعتقلات بالإبلاغ عن العنصر فحضر مدير السجن المقدم وجعل يسمعهن سيلاً من الشتائم والإهانات والتهديدات كعادته ثم أخرج عائدة ك ونزع عنها حجابها وجعل يدوسه بقدميه والشتائم لا تزال تتدفق من فمه المنتن... فلما انتهى وهدأت نفسه أمر بمعاقبة المهجع كله ونقله إلى «السيلون» وهو عبارة عن قبو كبير رطب ومعتم لا منفس فيه مسكون بالعناكب والصراصير والحشرات وقتها كان عمر سمية عشرين يوماً فقط، وكان عليها أن تنتقل إلى السيلون مع بقية السجينات، فأصيبت المسكينة من حينها بربو مزمن لم تشف منه إلى الآن.
بالنسبة لأميرة. ح لم يكن الأمر مغايراً أيضاً. لكنها فكرت لهنيهات، وهي تلمح ابنتها سنا للمرة الأولى بعد ثلاث سنوات على غيابها: هل من الممكن أن تكون هذه ابنتي؟
لم تكن تلك الطفلة الواقفة في غرفة الزيارة، واللاهثة من اللهفة، تشبه صورتها أبداً. صورة صغيرة معلّقة فوق فرشة نوم أميرة، على حائط المهجع العاري في سجن النساء. كنز استطاعت أختها سمر أن تهرّبه إلى الداخل، بعد سنة من بدء الاعتقال، وذلك في زيارة لأهل حسيبة. ع التي كانت معتقلة معها في سجن النساء.
لم تكن تشبه الصورة أبداً، فكرتُ من جديد. صورة لفتاة لطيفة، جعلتني أتذكر سنا ابنتي بشكلها الجميل والقديم. تلك الصورة عملت على هدم كل المسافات بيننا، على خلق شيء شبيه بالخرافات بين روحي وروحها. كنت أحسّها بين يدي وأنا نائمة، ومعي في صحوي... ما الذي حدث لها في غيابي؟.
كانت سنا قد بلغت السابعة، بعد سنة من تخفّي، وسنتين من اعتقالي. وطيلة فترة الزيارة، التي استمرت حوالى الساعة، وهي تجلس في حضني الذي حرمت منه طيلة تلك الفترة. طفلة تدور بعينيها ذات اليمين والشمال. وجه يحمل خوف العالم كله، قلقه، شحوبه، وينوء بعشرات الأسئلة التي لا إجابات لها، أسئلة فوق طاقة طفل بعمرها، وأنا أغالب دموعي التي كانت مصّرة على الهطول.
بعد نهاية الزيارة عدت من جديد إلى المهجع. كنت أشعر بالاختناق، يد شبحية ثقيلة تطبق على رقبتي، حتى تكاد تخنقني. لم أقدر على مداراة فجيعتي بطفلة ظلمت دون رغبة أو قصد. فجيعة حقيقية...
في اللحظة نفسها التي دخلت فيها المهجع لمحت تماضر وجهي المحتقن، وعينيّ اللتين كنت أحسّ النار تخرج منهما، لترمي جملتها كقنبلة في وجهي، جملة جعلتني أنفجر لساعات ببكاء طالما كبتّه:
ـ خرجك الله لا يردك... اللي بدو يجيب ولد بيربيه ما بيزته...
على الرغم من قساوة الجملة إلا أنها كانت محقة! كان غيابي عن سنا شبحاً يطاردني منذ ذلك الوقت وحتى اللحظة.
ربما كان صنع الهدايا للأحبة في الخارج، من المواد القليلة المتوافرة في المعتقل، طريقة تصعيدية للتعويض عن غيابهم. أو ربما طريقة لبث كل حبّ المعتقلة في قطع ستلمسها أيدي أحبابها، وبهذا سيشعرون بكل ما يرسله قلبها إليهم. هذا ما حدا بأميرة، كغيرها الكثير من المعتقلات، إلى صنع الهدايا لابنتها في الخارج.
الوقت يمرّ كطيف خفيف مسرع في المعتقل. ساعات تنقضي وأميرة منكبة على حياكة فستان لسنا، أو تطريز شيء آخر لها. كل غرزة صوف مثقلة بالحب، بالشوق، وبألم الفقد. وبما أن المشاعر السلبية والإيجابية تتضخم جداً في المعتقل، فقد كانت أميرة تعمل 12 ساعة أحياناً دون أن تعي، وهي تفكر بسنا، وبسنا فقط، وكيف ستستقبل صغيرتها هديتها هذه.
أول هدية بعثتها أميرة. ح لابنتها كانت جزداناً من الخرز، نقشت عليه اسم: سنا. إضافة إلى بطة صغيرة صنعتها جميلة. ب، وفستان بسنارة واحدة حاكته هند. ق. أما وفاء. إ فقد بعثت معها عصفوراً مصنوعاً من الخرز. كل تلك الهدايا أرسلت إلى سنا من سجن النساء مع سجينة قضائية جرى إطلاق سراحها في ذلك الوقت، ولم تصل الهدايا المبعوثة حتى اليوم.
في سجن النساء كتبت هند. ق قصة تدور في الفلك ذاته، أسمتها: وراء القضبان. كانت حادثة حقيقية جرت معها، وعملت على تدوينها في دفتر صغير اشترته من الندوة في السجن. وعلى ذلك الدفتر ستكتب هند، خلال سنوات سجنها الطويلة، الكثير من القصص:
(آه من الأطفال، آه من براءتهم، من صفائهم وشفافيتهم، آه من وجوههم النضرة ونظرتهم الصادقة... وقلبهم الأبيض... آه... وآه... وألف آه.
اليوم جاءت أختي لزيارتي في السجن، جاءت كطائر حزين يحتضن صغاره تحت جناحيه. جاءت وكانت المفاجأة! لأول مرة أشعر بالارتباك والعجز... وأمام من؟؟ أمام طفل الثماني سنوات. لأول مرة يعجز لساني عن النطق. تشربكت الأحرف، وتأتأ اللسان و... و... نعم... طفل الثماني سنوات... يقلب كياني، ويشلّ تفكيري (وأنا المناضلة وراء القضبان)!! بسؤاله الحزين البريء:
ـ خالتو ليش حطك الشرطي بالحبس؟
كان يسألني وحزن قاس على وجهه، ودموع تجول في عينيه، ونظرة حارقة مؤلمة لعيني.
اختل توازني، كدت أتهاوى لولا التحامي بالقضبان الباردة. هرول الشرطي صارخاً بوجه البراءة الطفولية: ـ عمو اسكوت... ويلا روح من هون.
لم يتحمل الطفل هذه الإهانة، وببراءة الطفولة أيضاً صرخ في وجه الشرطي:
ـ يا حمار ليش حابس خالتي بدي اخدها معي...
ومد يده الصغيرة ليشدّني من وراء القضبان. لكن يد الشرطي كانت الأسرع والأقوى والأوجع، ونتره خارجا مع أهلي، لتنتهي زيارتي وصدى سؤاله: (خالتو ليش محبوسه؟... دون جواب).
روزا ياسين حسن
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد