17-07-2020
أزمنة حالكة: تبصرات حنة أرندت
ريتشارد ج. بيرنستاين ـ ترجمة: كريم محمد
كتبت حنّة أرندت في مقدمة مجموعة مقالاتها عام ١٩٦٨ بعنوان "بشر في أزمنة حالكة" بأنّه: "حتّى في أحلك الأزمنة، فإنّ لدينا الحقّ في توقّع بعض الإلماعات". واليوم، في عصرنا الحالك، تُجرى قراءة عمل أرندت بإلحاح شديد؛ لأنّه يقدّم بالتحديد مثل هذه الإلماعات.
ولِدت حنّة أرندت في ألمانيا عام ١٩٠٦، ودرست مع الفلاسفة المبرزين في زمانها، بيد أنّها فرّت من بلدها عام ١٩٣٣، فعاشت فترةً بباريس، ثمّ انتقلت بالأخير إلى الولايات المتحدة. اشتُهرت أرندت بأعمالها الأساسيّة، مثل كتاب "الشّرط البشريّ" و"في العنف" و"الحقيقة والسياسة" و"أسس التوتاليتاريّة" وبالأخصّ عملها "إيخمان في القدس: تقرير حول تفاهة الشر"، ذلك الكتاب الذي كان بمثابة تغطية لمحاكمة النازيّ أدلوف إيخمان لصالح جريدة النيو يوركر.
كانت أرندت واعيةً بشدّة ببعض أعمق المشاكل والارتباكات والنزعات الخَطِرَة في الحياة السياسيّة الحديثة، تلك المشاكل التي ما تزال باقيةً معنا حتّى اليوم. عندما تتحدّث حنة أرندت عن "الأزمنة الحالكة" وتحذّر من "العِظات، أكانت أخلاقيّة أم غير ذلك، التي تفضي تحت ذريعة الحفاظ على الحقائق القديمة إلى الحطّ من كلّ الحقائق بتفاهةٍ عديمة المعنى"؛ فإنّنا ليس بوسعنا فقط أن نسمعَ أخطار توتاليتاريّة القرن العشرن، وإنّما أيضاً نسمعُ تحذيراً بشأن القوى تتخلل سياسات الولايات المتحدة وأوروبا اليوم.
لقد كانت حنّة أرندت واحدةً من المفكرين السياسيين الرئيسيين الذين حذّروا من أنّ الأعداد المتزايدة بلا نهاية من مسلوبي الجنسيّة والمهاجرين ستظلّ مشكلةً صعبة الحل. وتثير واحدة من مقالات أرندت المبكّرة تحت عنوان "نحنُ اللاجئين" عام ١٩٤٣ أسئلةً أساسيّة، وهي مقالة قائمة على تجاربها الشخصيّة كلاجئة. في هذه المقالة، تصفُ أرندت بصورة بيانيّة ما يعنيه أن يخسرَ امرؤٌ ما وطنَه، ولغته ومهنته، وتلخص إلى ادعاء أكثر عموميّةً بشأن العواقب السياسيّة للظاهرة الجماهيريّة الجديدة -أي "خلق" جماهير غفيرة من الأناس المجبرين على مغادرة أوطانهم وبلدانهم: "فالمهاجرون الذين رُحلّوا من بلدٍ إلى بلدٍ يمثّلون الطليعة الجديدة لشعوبهم… فقد تجزّأت آداب الشعوب الأوروبيّة عندما سمحت، ولأنّها سمحت، لعددها الأضعف بالتشرّد والاستعباد".
عندما كتبت أرندت ذلك، فلم تكن تدرك كم قد تكون ملاحظاتها وثيقة الصّلة بيومنا هذا. فقد أفضى كلّ حدثٍ سياسيّ مهمّ تقريباً في المائة سنة الماضية إلى مضاعفة أصناف جديدة من اللاجئين، ويبدو أنّه لا توجد نهاية تلوح في الأفق. فهناك الآن ملايين من البشر في مخيّمات اللجوء ليس لديهم سوى أملٍ ضئيل بأنّهم سيكونون قادرين على العودة إلى أوطانهم أو حتّى أن يجدوا وطناً جديداً.
في عملها "أسس التوتاليتاريّة" عام ١٩٥١، كتبت أرندت عن اللاجئين: "إنّ كارثة مَن لا حقّ لهم ليس في أنّهم حُرموا من الحياة والحريّة ومن السعي إلى السعادة، أو من المساواة أمام القانون أو من حريّة الرأي، ولكن تكمن كارثتهم في أنّهم لم يعودوا منتمين إلى أيّ جماعةٍ كانت". والحال أنّ لفقدان الجماعةِ عاقبة تهجير البشر من الإنسانيّة نفسها. وبالتالي، فإنّ النداءات بحقوق إنسان مطلقة لا معنى لها إلّا في حال كانت هناك مؤسّسات فعّالة لضمان هذه الحقوق. والحقّ الأكثر أساسيّةً هو ‘‘حقّ امتلاك الحقّ".
في كتابها "الحقيقة والسياسة"، كتبت أرندت بأنّ: "حريّة الرأي مهزلةٌ ما لم يتمّ ضمان المعلومات الحقيقيّة ولا تكون الحقائق نفسها محلّ نزاع". وللأسف، فإنّ واحدةً من التقنيات الأكثر نجاحاً لتعمية الفارق بين الحقيقة الواقعيّة والبهتان هي الزعم بأنّ أيّ حقيقة واقعيّة مدّعاة هي مجرّد رأي آخر -الشيء الذي نسمعه يومياً من إدارة ترامب. فما حدثَ بصورة صارخة في الأنظمة التوتاليتاريّة هو ما يجري اليوم ممارسته من قبل سياسيين بارزين لهم نجاح باهر -يقومون بخلق عالمٍ خياليّ من "الحقائق البديلة".
بالنسبة إلى أرندت، فإنّ هناك خطراً أكبر: "لا تكمن نتيجة الإنابة المتعاقبة والكليّة للأكاذيب محلّ الحقائق الواقعيّة في أنّ الأكاذيب ستُقبَل الآن كحقائق، وستشوّه الحقائق كأكاذيب، وإنّما في أنّ المعنى الذي من خلاله نتّخذ مواقفنا في العالم الحقيقيّ سيتم تدميره -ومقولة الحقيقة في مقابل البهتان هي واحدة من الوسائل الذهنيّة التي نحقّق بها هذه الغاية-". وعليه، تغدو احتمالات الكذب لا حدّ لها، ولا تُقابل إلّا بقليل من المواجهة.
يقعُ الكثيرون من الليبراليين في الحيرة عندما يُظْهِر التحقّق من الحقائق بوضوح وبحسمٍ أنّ الكذب هو كذب، وأنّ الناس غير مبالين ولا بمكترثين. بيد أنّ أرندت بينت كيف تعمل البروباغندا حقّاً عملَها. "فما يقنع الجماهير ليس الحقائق، وحده تماسك النظام الذي من المفترض أنّهم جزء منه يفعل ذلك".
إنّ البشر الذين يشعرون بأنّهم أُهمِلوا ونُسوا يتوقون إلى سرديّةٍ -حتى ولو سردية خياليّة مخترَعة- تعطي معنى لقلقهم الذي يجترحونه، وتعدهم بنوعٍ من الخلاص. والقائد السّلطويّ يتمتّع بمزايا هائلة باستثمار القلق وخلق خيالٍ يريدُ الناس تصديقه والإيمان به. فالقصّة الخياليّة التي تعدُ المرء بحلّ المشاكل هي أكثر جاذبيّةً من الحقائق والحجج "المعقولة".
لم تكن أرندت نذير شؤم. ولمواجهة تحذيراتها بشأن المخاطر السياسيّة، فإنّها وضعت تصوّراً مفصّلاً لنزاهة السياسة. فبوسعنا دائماً، بسبب طبيعة ولادتنا وقابليّتنا للفعل، أن نبدأ شيئاً ما جديداً. والثيمة الأعمق عند أرندت هي الحاجة إلى تحمّل المسؤوليّة عن حياتنا السياسيّة.
لقد حذّرت أرندت من أن نُغوى بالعدميّة، والكلبيّة أو اللامبالاة. وكانت جريئةً في وصفها للكذب، وللخداع والغشّ الذاتيّ وعمل الصورة ومحاولة مَن على رأس السلطة لتدمير الفارق بين الحقيقة والبهتان.
يقدّم دفاع أرندت عن نزاهة السياسة معياراً حاسماً على الوضع الذي يجد الكثيرُ منّا نفسه اليوم فيه؛ حيث يتمّ تقليل الفرصة في المشاركة، وللعمل معاً وللانخراط في نقاش حقيقيّ مع أندادنا. وينبغي علينا أن نقاومَ إغراء الانسحاب من السياسة ونفترض بأنّه لا يمكن فعل أيّ شيءٍ في وجه كلّ تلك البشاعة والغش والفساد الراهن. لقد كان المشروع الحياتيّ لأرندت منصبّاً بشكل نزيه على مجابهة وفهم ظلام أزمنتنا، دون خسران رؤية احتماليّة التعالي والتبصّر. وعليه، ينبغي أن يكون هو أيضاً مشروعنا نحن.
إضافة تعليق جديد