أدونيس: وجه بيروت
-1-
في «وجه» بيروت تعب يتحول الى كهيرب يحرّك جسم العالم. لكن، لماذا لا نرى منه، نحن أهله، إلا سطحه – تجاعيد، وقسمات؟ لماذا لا نرى ذلك «الكون الداخلي» الذي ينطوي عليه؟
وكيف نستطيع ان نمزّق الحجاب الكثيف الذي يُلقيه عليه «الخارج»، إذا لم نمزّق، أولاً، الحجاب الكثيف الذي يُلقيه عليه «الداخل»؟
خصوصاً أن هذا الحجاب «الخارجي» منسوج بخيوط ذلك الحجاب «الداخلي».
دون هذا التمزيق سيظل السفر من هذا «الوجه» وإليه، مهما أوغلنا قرباً أو بعداً، غرباً أو شرقاً، إصغاءً آخر الى ما يفرّق ويُشتت.
وإصغاء آخر الى أصداء كلام لم يعد يُجدي، لا قراءة ولا سماعاً.
وسوف نظلّ نقرأ هذا «الوجه» نحن أهله، كما لو أننا نقرأ أبجدية الغيم، ونُصغي إليه، كأننا نصغي الى الريح.
-2-
الصعودُ من أرض هذا «الوجه» الى سمائه، سهل جداً، فلماذا هذه الاستحالة في النزول من سمائه الى أرضه؟
وانظروا:
على أرضه بشرٌ يُقتلون،
وفي سمائه ملائكة يبتهجون.
-3-
حسناً، أيها «الوجه»:
سأقول معك: لا، لهذه السلطة.
لكن، كيف نقول: نعم، لهذه المعارضة؟
لنقرأ معاً «تاريخ الزمن»:
أهناك، حقاً، فرقٌ جوهري،
بين «زمن هذه السلطة»،
و «زمن هذه المعارضة»؟
-4-
سألني شاعر فيما كنتُ أتأمّل معه هذا «الوجه»:
هل أتركُ الشعر
وأحترفُ مهنة دليل سياحي الى السماء؟
وقال لي:
صرتُ اليوم أكثر قناعة مما كنتُ عندما التقينا، منذ فترة. معك حقٌ:
الحجابُ يغيّر وظيفة العين،
ويغيّر العينَ نفسها،
ويغيّر النظر.
-5-
- هل تقدر أن تصف لي السياسة في ظل هذا «الوجه»؟
- ريح تهبّ من الجهات كلها،
تجيء في شكل امرأة
لا تصنع حليّها إلا من البكاء.
-6-
مرة، سلّط هذا «الوجه» نظره عليّ، بشكل ولّد فيّ نوعاً من اليقين بأن للعيون هي كذلك، مخالب وأنياباً.
- 7 –
تنشأ في ظِلّ هذا «الوجه» ثقافَةٌ يقولُ أصحابُها – كُلٌّ عن الآخر: عنده خطَأٌ في العُنقِ، لا يُصحّحه إلاّ السّيف.
تنشأ كذلك قرون تتهيّأ كلَّ يومٍ، لكن من أجل أَنْ تُناطِحَ وردةً أو عصفوراً.
- 8 –
تُحــــيط بهذا «الوجه» أحــلامٌ تشبه طيوراً مهاجرةً.
- 9 –
سُرّتِ المِخدّة «صديقةُ» هذا «الوجه»، عندما علَمِت أَنَّ ليلها طويلٌ، وأَنّه لا يزال في أَوّله.
- 10 –
في السَاحة الأكثر قُرْباً الى هذا «الوجه»:
رجلٌ يعلّق على صدره نجوماً.
رجلٌ ينكر يدَيهِ وقدميه.
رجلٌ يتلو على الورق خطبته الحبر،
وعلى الحِبْر خطبة الورق.
رجلٌ يكدّس الفتَاوَى أو ما يُشْبهها في خُوذةٍ عَسْكرية.
رجلٌ يقرأ الماء ويتحدّث مع الغبار.
أئمّةٌ في جــــميع الفنــون يَجْمعون الطّوابعَ والتَواقيع. غَير أَنّ البُخارَ يحتلّ المقاعدَ كلّها في هذه السّاحة.
- 11 –
أشخاصٌ مُغْرَمون بهذا «الوجه»:
شخصٌ يجمع دمعه في محبرة،
ويخبّئ طنبوراً في قلمه.
شخصٌ يستعجل الشّمس البطيئة.
شخصٌ يقضم أظافرَ الوقت.
- 12 –
لِـ «أصدقاءِ» هذا «الوجه» تَعاليمهم:
الطّائفةُ عِلمُ المستقبل.
الدّكّان جمهوريّة.
الطّائفيّة ديموقراطيةٌ اشتراكيّة. الوراثة أمرٌ سماويّ.
التكرار فَنّ الدّياليكتيك.
- 13 –
صوتٌ مِمّا وراء هذا «الوجه»:
لدَيّ ما أقوله،
لكنّ أدواتي لا تُطاوعني.
لا أزال مبتدئاً. وما عملته سابقاً لم يكن إلاّ تجريباً.
دائماً في طَور التكوّن.
ربّما سأموتُ دون أن أكتمل.
- 14 –
وضعَ العصر مفاتيحه على طاولة المعنى:
كلاّ،
ذلك «الكونُ الدّاخليّ» الذي ينطوي عليه هذا «الوجه».
لم يخسَرْ، بَعدُ، الحرب.
أدونيس
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد