أدونيس: عزف منفرد على قيثار دمشقي
1 – ياسمين
ليس للياسمين الدمشقيّ نَابٌ
ولا خوذةٌ.
أُتركوه لأحلامهِ ولأشـــواقهِ وللـــعاشقينْ.
أُتْركوا للِشّموع التي تتقطَّرُ من عِطْرهِ
أن تُبَعْثِرَ هَالاتها أَلَقاً وافتتاناً على طُرقِ المارقينْ.
2 – أسوار
منذ خمسين عاماً،
أَتقصَّى المتاريسَ، أَقرأُ أَسْوارَها وأَنْفاقَها
وَأرى كيف يُقْذَفُ بالنّاسِ فيها.
وأقولُ: مَتى تَمَّحي
وَيمضي إلى الله أصحابُها
وحُرّاسُها؟
منذ خمسين عاماً
لم أكنْ أتساءَل إلاّ:
كيف أزرعُ ورداً على باب بَيتي؟
3 – الجحيم النّعيم
الجحيمُ النَّعيمُ هنا في وريدكَ،
في شريانِكَ، لا فُرْقَةٌ ولا شُرْكةٌ.
فلماذا، بِحَقّ التُّرابِ وميراثهِ، وَبِحَقّ الهواءْ
لا تُريد السمَّاءُ لِجسمك أن يتحرّرَ مِن أَسْرِهِ،
وأَن يلبَس الفضاءْ؟
4 – عُطلة
لا أُحِّدث عن واحدٍ يثور،
على رأسهِ مَلاَكٌ.
لا أُحدّث عن رايةٍ أو هُتَافٍ
لِدَمٍ، أَوْ رَصاصٍ.
5 – غناء
ألمح الحُزْنَ في الشّام، يأخذُ قيثارَهُ
ويغني بلا كلماتِ.
6 – جوع
كلّما خرَج الشُهداءُ جِيَاعاً إلى اللهِ،
حَتّى يُزيّنَ أفواههم،
بِملاعقَ مِن فِضَّةٍ،
خرح الجوعُ في الأرض، يبكي،
ويندبُ أَحْوالَهُ.
7 – نخلة
يَدّعي
أنّه عاشقٌ نخلةً
لم تَجئ مِن مُتُونِ البساتينِ،
أو مِن كتاب الفصولْ.
قال: فيها سِهَامٌ
تُصيب القلوبَ،
وتنزلُ فيها كوحيٍ.
نَخْلةٌ ليس في جِذْعها الآنَ غيرُ الطُّلولْ.
8 – شِباك
تَهبطُ المدنُ العربيّةُ في سُلّم
وتصعدُ في سُلَّمٍ:
خطواتٌ - حقولٌ
بلا زارعٍ، ولا سَائِسٍ.
خطواتٌ - شَوارِعُ مَسْدودةٌ.
أيّهذا الهَواءُ النقيُّ الذي يُوقِظ الأفْقَ
مِن نَوْمِه،
قُلْ لهـــذي المدائنِ: أَلقي شــِبَاكَ الهجوم
على الظُّلماتِ، على الخَوْفِ،
وَامْتَزجي بالفضاءْ.
قُلْ لها، أيّهذا الهَواءْ.
9 – حلم مشتَرك
عسَلٌ في جِرَار الشّوارعِ للمتْعبَينْ
والثّواني قنابِلُ موقوتَةٌ
تَتَنقّل مَرْسُومةً
بأشكالِ رَقْصٍ،
بِمُغنّين – أصواتُهم
تَتَنزَّلُ مَنّاً وسَلْوَى.
عَسلُ السَّائرينَ إلى أرض أحلامهم،
عَسلُ الَّرافضينْ.
10- رقابة
مَا لِجسْمي يُراقِبُ جسْمي؟
ودرُوبي إليهِ،
كُلَّ يَوْمٍ تُغَيّرُ أَقفالُها
ومَفَاتيحُها.
11 – تراب
لا تُسدِّدْ رَصاصَكَ نَحْويَ، لستُ العدوَّ،
وهذي حَياتي
خُطواتٌ ثِقَالٌ بِطَاءٌ
على دَرَجٍ من عَذَابْ.
وأقولُ: دَمي عاشِقٌ
وجسميَ يَضْنى،
وَلاَ حُبَّ لي غيرُ هذا التُّرَابْ.
12 – تساؤل
لَنْ تُحِبّوا، إذا لم تَثُوروا،
أَوْ، كما قيِلَ: ثُوروا، تُحِبّوا.
فَلِماذا، إذاً، لا تَرونَ المدينةَ إِلا
شمعةً مُطْفأَهْ؟
ولماذا، إذاً، تكرزونَ:
الحيَاةُ غرابٌ،
والظّلامُ امْرأهْ؟
13 – احتفاء
لِلحقولِ التي تَتنزّه فيها الشآمُ،
لأِحزانِها وصَعَاليكها،
لِشقائقِ نُعْماَنِها،
وَلِشــمسٍ تجـــيءُ إليها لِتَبْرُد أحشاؤُها،
أَنْتمي الآنَ – كَفّايَ مَمْدودتانِ، وصَدْري
جَبَلٌ ضارِبٌ في الفَضاءْ،
غِبطةً، وَاحتِفاءْ.
14 – حزن
وردةٌ وكتابٌ
يبكيانِ على قبْر طِفْلٍ.
15 – استعادة
مَا الذّي تقرأُ اللاذقيةُ،
ماذا تقولُ لِجيرانِها وجَاراتِها؟
وَجــْهُهَا «ضَجّةٌ»، كما قال عنها المَعرّي.
أَتُرَاها الحياةُ التي تَتَلأْلأُ فيها
تُقَادُ إلى هُوّةٍ، من جديدٍ؟
مَن جَديدٍ، يقولُ المَعرّي:
«سَأُسمّي حياتيَ موتاً
وأَسْأَلُ مِنْ أوّلٍ:
ما الصَّحيحُ»؟
القناديلُ تُطْفَأُ، والأرضُ مخنوقَةٌ.
16 – استضاءة
أَستَضيءُ بِأرضي
بالرّياحِ وآهاتِها،
وأَسأَلُ في حيرةٍ:
«تُرانيَ حرٌّ؟ ولكن
مَنْ يؤكّد أَنِّي أرَى
وَأَنّيَ حرٌّ؟».
17 - عالم
عَالَمٌ أَتحّركُ فيهِ،
أفكّر، أرمي شِباكي على كلّ شيءٍ.
وَأكتبُ ما شئتُ. لكن،
لم أَقُلْ، مرّةً، إنّه عالَمي.
لم يكن، مرّةً، عالَمي.
أَهُوَ الأَبْجدّيةُ؟ لا مُلْكَ لِلأبجديةِ،
غيرُ الخروج إلى كلّ ما ليس مِنها.
18 – صُوَر
صُوَرٌ – في اللّقاءاتِ، وَحْديَ، في غُرْفَةٍ،
في طريقٍ، حديقة مَقْهى،
أحدّقُ فيها، أُسائلُ عَينيَّ: ماذا أَرَى؟
أَأَنا صورتي؟
أَوجْهي هنالكَ وَجْهي هُنا؟
أمْ تُرى صُورتي فَصَلتْني عَنّي؟
(وما أعمقَ الفَرْقَ بين الخطوط التي رَسَمْتني
وتلك التي رسَمَتْ صورتي)،
كأنّي سَأُمْحى
إذا مُحِيت صُورتي، أَوْ كأنّي
لم أَعدْ في الحقيقةِ إِلاّ مجازاً.
19 – وصاية
وطَنٌ يتبدَّدُ في اللَّغْوِ، في أَرْجُلِ الكلماتِ:
لهذا القناعِ - الشِّعارِ الذي ابتكرتْهُ
القيودُ، عروشٌ
تتخاصَمُ في الأوْصياءِ،
وَمَنْ بينكم يُريدُ الوصاية؟ كلاَّ،
لن أكون شريكاً
لن أكون وَصِيّاً على أيّ عَرْشٍ.
20 – قدرة
تقدرُ القُنبُلهْ
أن تكونَ جواباً أو تكونَ سؤالاً.
وتقدرُ أن تتشَظَّى:
تَتغلغَلُ في أيِّ شيءٍ،
تَتَماهَى بهِ، وَهيَ نَقْضٌ لَهُ
تقدر القنبُلهْ
أن تقولَ النّساءُ الرّجالُ غُبارٌ
وأن تَتـزَّيا بهم، وَبأِحـــلامهم وعَذاَباتِهمْ،
وتسألَ عنهم، واحداً واحداً،
وتقول لأِمْطارها:
أَطْفِئي جذوةَ الأَسْئِلهْ
تقدرُ القُنبلهْ
أن تقولَ: لِكانونَ حَظٌ
في زيارة أَيّارَ:
دارُ الأَساطيرِ قَفْراءُ
والكونُ بَوّابَةٌ مُقْفلَهْ.
21 – وطن
وطَنٌ نائِمٌ في العَراءْ
لا سرير له
غيْرُ نَسْجِ الهبَاءْ.
22 - تخوم
لا أقولُ: لنا موقعٌ واحِدٌ
وحُدودٌ بلا فاصلٍ.
لا أقولُ: الطّريقُ هناك امتدادٌ
لطريقي هُنا.
لا أُشارِكُ في وَحْدة الخرائبِ. لا وَحْدةٌ
إذا لم تكن فتِنةً:
فَجْرَ جسْمين في ذُرْوَةٍ
شَغفاً واحداً
قَلقاً واحداً،
وانفِتاحاً حميماً على السرّ: لا وَقْتَ للذاكرهْ
كي تعودَ إلى إِرثها.
إِرْثُهَا الَوقْتُ والآنُ: عَصْفٌ جميلٌ،
مُدُنٌ ثائِرهْ.
23 – وصف
تَصفُ اللاّذقيّة أَبْناءَها
مثلما فَعَلتْ قبلها حلَب ودمشْق:
شَفَةٌ واحدهْ
وَلغاتٌ عديدَهْ.
إنها العودَةُ - القاعده:
زمَنٌ لَوْلَبيٌّ قديمٌ
ومراياه مصقولةٌ جديده.
24 – جراح
مَنْ يقولُ: الجِراحُ شُقوقٌ
في عُروق الجسدْ؟
الجراحُ دَمٌ يَتدفَّقُ في شَريَانِ الأبَدْ.
25 – كَبِدُ الماء
مطَرٌ غامِضٌ، ولكن
يعرف العشبُ ألفاظَهُ
وَيفهمُ إيقاعها وأَسْرارَها.
ولماذا، إذاً
تتورّمُ حَتىّ كَبِدُ الماء في نَبْعِ تَاريخنا؟
26 – إقناع
سوف أُقْنعُ نفسيَ أن تَتشَّبهَ بالرّيحِ،
كيْ أتجرّدَ من كلّ مُلْكٍ،
وَكَيْ أتبدّدَ في كلّ فَجٍّ،
لا أُبالي بما كانَ أو ما يكونُ، وكالريح أحيا:
ليس للرِيح إلاّ
لا مُبَالاَتُها.
27 – جهل
لم أكن قَبْلُ أعرفُ أنَ هناكَ رجالاً
يُوضَعون كَنَقْدٍ
في الجيوبِ.
28 – مَرَق
مَرَقٌ سائِلٌ في الشوارعِ، فيضٌ
مَن عظاتٍ لِجِنٍّ
فقدوا سِحْرَهم،
وَلِحبْرٍ قديمٍ
لا يَرى الكونَ إلاّ حجاباً.
مَرَقٌ سَكبتْهُ الشآمْ
في جِرار الكلامْ.
29 – نرد
الحقيقةُ نَرْدٌ
في يدَيْ غَيْمَةٍ.
30- رصاص
ليس عندي رَصاصٌ كغيري،
كثيرٌ غريبٌ ومن كلّ نوعٍ
وأَجهلُ من أين يُؤْتَى بهِ.
هكذا سأظلُّ (يقولون لي)
عائِشاً في جحيمٍ.
أَتُراها الرَّصَاصَةُ حوريّةٌ؟
31 – رمل
ليس لِلرّمل معنىً
سِوى شكلهِ.
32- تماثيل
لا تقلْ لِلتماثيل مِن أين جاءَتْ، ولكن
قل لَها: كيف جئتِ؟
الحجارة تجترُّ أَشْلاءَها
والأزاميلُ في حيرةٍ.
لا تقلْ، لا تقلْ.
الأزاميلُ تشكو تماثيلَها،
التماثيلُ تشكو أزاميلَها.
33 - اختراق
شاعِرٌ
يَلعبُ النَرْدَ بين مناماتهِ،
والُنجومْ:
لا مسالِكَ نحو التحرّرِ،
لا فجرَ، إلا
في اخْتراقِ التّخومْ.
34- أسلاف
كانَ مِيراثُهم «ضَجّةً»
مِثلَما حَدّثَ المعرّي. وكانوا
يُولِمون شَرايينَهم إلى الخلفاءِ:
المدائِن مَطْموسَةٌ
بِأبابِيلهمْ.
لن يَروا، إِنْ رأوا
غيرَ أشلاءِ تاريخهم،
وَتمَاثيلَ منحوتةً من دماءٍ.
35 – طفل
رَسَمُوا الثّائِرَ المنوّرَ طِفْلاً
كَتِفَاهُ جَناحانِ مِن نَشْوةٍ وحريةٍ.
وزنداه يَحتضنانِ دفاترَ أحلامهِ.
كَبُرَ الطّفْلُ، صار سَماءً.
36- محاكاة
سَأُحاكي الطّيوْر.
سـوف أبني، إذاً، منزلاً مِن خيوطٍ وقَشٍ.
آخذُ القَشَّ مَثنى، فُرادَى
وأرفعُ منه عموداً هناك، عموداً هنا
وأزيّنُ ما حولها بريشٍ،
وَبعِشْبٍ، وأوراقِ وَرْدٍ.
الخيوط لأربط ما بينَها
قَشّةً قَشّةً، عموداً عموداً،
وأمدَّ الجُسوْر.
37 – صبوات
منذ كانون، آذار، أكتبُ
كي يتجّددَ معنى الشُّهورِ،
وتُبْتكر الأزمنهْ،
والمنارَاتُ ليست أَغَانيَّ، بل هذه
الصّبواتُ التي تتفجّر من رئةِ الأمكنَهْ.
38 – اعتراف
لا أُجادِلُ: رفْضي مقيمٌ
في القتيل الذي يَقْتُلُ
في القتيل الذي يُقْتَلُ.
لا أجادِلُ: رَفْضي مقيمٌ،
في كتابٍ يُجيبُ، وفي مارقٍ يَسْأَلُ.
وَيحتارُ فيّ الجميعُ. وأحتارُ في كل شيءٍ
ولا صَخْرَةٌ غيرُ رَفْضي.
(بيروت 31 – 20 أيار 2011 )
أدونيس
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد