أبواب طهران مفتوحة للجميع لإعادة الأمل إلى سوريا وأهــلها
قلبي يعتصر ألماً على الحال التي آلت إليها سوريا، ياقوتة العرب ومفخرة الأمة الاسلامية. يروعني أن يتحول هذا البلد، الذي طالما كان منارة للحضارة، إلى مرتع للقتل. تلك البقعة التي تعبق بالتاريخ، غدت بؤرة للتدمير البنيوي الممنهج الذي لا يستثني المعالم الأثرية والدينية والثقافية والتراثية. أقدم عاصمة مأهولة في الكون باتت عبئاً على أهلها الذين هجرتها أعداد ضخمة منهم.
رائحة الدماء فيها طغت على عطر الياسمين. أصبح الموت مشهداً يومياً، أكثر ما يحزن فيه أنه أمسى أليفاً، جزءاً من دورة الحياة اليومية.
هل هذا مصير يليق بسوريا المحبة والتسامح والعيش المشترك؟ سؤالي هنا موجه أكثر تحديداً إلى إخوتي في الدين ممن رفعوا لواء المعارضة والإصلاح والتغيير: هل فعلاً يليق بكم وبمن تنتمون إليهم ما يجري اليوم من سفك للدماء على أيدي مرتزقة محترفين ــ يفترض بهم أنهم ليسوا منكم وأنتم لستم منهم ــ وقد جلبتهم قوى الهيمنة والغطرسة الأجنبية والصهيونية العالمية إلى المحرقة السورية ليشوّهوا صورة الإسلام كما صورة سوريا التي عرفناها بأطيافها وأقوامها ومذاهبها وطوائفها المتعايشة على قلب رجل واحد منذ أمد بعيد؟ هل يليق بكم وبنا مسلمين وعرباً أن يُذبَح الأطفال والنساء والرجال العزل، لا لذنب اقترفوه إلا لأنهم لا يملكون وسائل وأسلحة الدمار المتبادل ليردوا الظلم والعسف عن أنفسهم؟ هل يليق بكم وبنا أن يخرج من بين صفوفكم، وممن نصب نفسه متحدثاً باسم الدين، ليفتي بقتل المدنيين والأبرياء والعزل من الشيوخ والنساء والأطفال فقط لأنهم ليسوا معارضة أو لم يخرجوا شاهرين سيوفهم على النظام الذي تتنازعونه السلطة أو تريدون تغييره؟
هل فعلاً نحن وأنتم أتباع ذلك الرسول العظيم رسول الإنسانية وخاتم النبيين الذي بعث رحمة للعالمين، ونحن نرى كل ما يحصل على الأرض السورية من قتل عبثي وتدمير ممنهج ونحن نقف متفرجين؟ هل يرضي هذا فعلاً رسولنا الكريم صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم؟ لو كان محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وصحبه الكرام هذا اليوم بيننا، فهل كان سيرضى بممارسات القتل على الهوية والذبح من الوريد إلى الوريد وتكفير كل من يخالفنا الرأي وتقطيع رؤوسهم ورميها من فوق الأسطح أو تعليقها على الرماح؟ هل كان سيرضى فعلاً بهدم المقدسات وأماكن العبادة وتدميرها ونبش قبور الأولياء والصالحين كما هو الحال مع قبر الصحابي الجليل حجر بن عدي رضوان الله تعالي عليه مثلاً، وهو الذي يجمع المسلمون على زهده وتقواه وخلقه الكريم؟
ثم أين منكم ذلك التباكي على حرمة الصحابة رضوان الله عليهم وأنتم اليوم تنتهكونها بأبشع الأشكال والوجوه من خلال هذه الأعمال الإجرامية، وهو ما يوجع قلب رسولنا ونبينا العظيم وينفّر الناس منكم ومن أعمالكم التي أجمع المسلمون على قبحها وحرمتها؟ هل هذه سنّة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وصحبه المنتجبين التي نفاخر بها العالم ونعتز بانتمائنا إليها فعلاً؟ ومن ثم، هل تعتقدون فعلاً أنّ نظاماً للحكم يخرج من بين الركام والدمار الشامل وانتهاك الحرمات أو من بين فوهات البنادق ومدافع الهاون والقصف العشوائي والمفخخات، يمكن أن يبقى أو يدوم لأصحابه مهما امتلكوا من دعم خارجي أو إمكانات تسليحية ضخمة أو دعم مالي عالمي؟
ألا يكفي البعض الذي لا يزال يمعن في سفك الدم السوري، هذا الظهور العلني البشع للكيان الصهيوني في عدوانه الأخير على سوريا، ليقطع الشك باليقين بأن ما يجري لهذا البلد هو النيل من عزته وكرامته وسيادته؟ هل هذا هو جزاء سوريا الدولة المقاومة فعلاً، التي وقفت عبر تاريخها إلى جانب أشقائها كلهم كما وقفت إلى جانب كل من مرّ بضيق، وفي مقدمهم أهلنا الفلسطينيين، ودرّتهم القدس الشريف؟ هل يليق بكم وبنا أن نبقى متفرجين على سوريا التي رفعت رأس كل شريف في العالم، ذلك الرقم الصعب في المعادلة الإقليمية، لتنهشها قوى الصهيونية والاستكبار العالمي، ولتنتقم منها على عقود من الصمود. تثأر من صلابتها في مواجهة المشروع الصهيو ـــ أميركي، وتجهد لأن تكسر كبرياءها التي هي من كبرياء الأمة؟ وهل الواجب يدعونا لنترك قوى الشر والظلام تستهدفها في عزّتها وكرامتها، وكل ذلك بدعم لامتناهٍ من قوى إقليمية تجهل مصلحة أمتها، وبرؤوس حراب في الداخل السوري، ممن تشارك في هذه المؤامرة، عن جهل أو عن إدراك، لتُسهم في الحط من قدر بلادها، في تقويضها، وتقويض موقعها ودورها؟
هل منكم من لا يزال يذكر ما كانت عليه الحال قبل الصحوة الإسلامية؟ كيف كانت قوى الهيمنة الغربية تسرح وتمرح في المنطقة من دون حسيب أو رقيب؟ كيف كانت الأنظمة التابعة للاستكبار العالمي تزحف كالنعاج أمام المستعمر، وتقدم له العسل والطحين من مال شعوبها، وعلى حساب كراماتها. حتى كانت الصحوة، وكانت ثورات الشعوب، ثورات العزة والحرية والكرامة، التي انتصبت تتحدى الهيمنة، تنتفض على التبعية، وتعيد العدو الصهيوني إلى موقعه الطبيعي: عدو الأمة الإسلامية جمعاء.
حراك أربك الغرب المستعمر، الذي عمل أولاً على احتوائه، ومن ثم محاولة حرفه عن مساره، قبل أن يحدد شكل الرد وطبيعته: هجوم على سوريا، يستهدف الدولة والموقع الجيواستراتيجي والدور. مؤامرة رداً على الثورة. تدمير لسوريا المقاومة، رداً على إطاحة الشعوب لأنظمة الخنوع.
ربما كان الأمر قد التبس على البعض في بداية الأزمة. ويمكن تفهم ذلك في حال افتراض حسن النيات. لكن اليوم، بعد كل ما جرى ويجري، هل هناك من لا يزال يشك في أن ما يجري في سوريا ليس سوى حرب بالوكالة؟ مرتزقة يدمرون سوريا نيابة عن المستكبر وقوى الغطرسة العالمية والمستعمر وأذنابه، ودولة تقاتل دفاعاً عن البلد وعن محور المقاومة وثقافة المقاومة.
من ينشد الحريّة والديموقراطية لا يقوّض البنية التحتية: منشآت النفط والغاز، والمستشفيات والمدارس والجامعات، والمصانع، والقطاع الزراعي، في مقدمته القطن والقمح ومتفرعاتهما... يدمرون في أشهر ما يحتاج إلى سنوات وعقود لبنائه. ليس منطقياً أن يحرق المرء بلداً من أجل أن يشعل سيجارة. حسن النيات هنا لم يعد يقنع أحداً، فهلا تنبهنا للخطر المحيق.
موقف الجمهورية الإسلامية كان واضحاً كسطوع الشمس، منذ اليوم الأول. قلناها مراراً وتكراراً: نحن مع المطالب المشروعة للشعب السوري، ونرفض في الوقت نفسه العنف بكل أشكاله، والتدخل الأجنبي بأي صيغة كان. بل أكثر من ذلك. أكدنا ولا نزال: إن كل من يضع شرطاً مسبقاً للحوار الشامل بين النظام والمعارضة، إنما يعمل على وأد الحل في مهده. ولا يمكن تفسير خطوته تلك إلا محاولة منه لعرقلة الوصول إلى نتيجة إيجابية، ورغبة منه، أو ممن يقفون خلفه، لنقل الأزمة من سوريا إلى دول الجوار، وتهديد أمن الإقليم كله. وفي نظري، إن شخصاً أو فريقاً كهذا يعمل لتحقيق أهداف القوى الأجنبية، سواء عن وعي، أو عن غباء.
وبناءً عليه، لا أرى حلّاً في سوريا، ولا إمكانية لتطبيق حق الشعب السوري في اختيار مصيره ونظامه ورئيسه إلا من خلال عملية سياسية انتخابية نزيهة وشفافة. {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً}. وحده الشعب السوري من يقرر نظام الحكم في سوريا واسم الحاكم. وإنّ من يريد أن يصلح الوضع في هذا البلد لا يمكن أن يفكر إلا بهذه الطريقة.
أتمنى، كوزير خارجية للجمهورية الإسلامية الإيرانية، وأتوقع من المنظمات الإقليمية، ومن كل من لديه تأثير في هذه المنطقة، أن يعمل جاهداً على وقف التوتر المتصاعد الذي يحول دون التوصل إلى حل سياسي للأزمة السورية. وآمل، في الوقت نفسه، من أولئك الذي يحرّضون أو يُسهمون في إرسال السلاح والإرهابيين والمرتزقة إلى سوريا، أن يتوقفوا عن القيام بذلك. لا بد أنهم باتوا يعرفون أن المجموعات المسلحة في هذا البلد بلا مبادئ ولا قيم، ولا رادع لها. مجموعات غير مسؤولة تحركها مصالحها الخاصة الضيقة. ولا بد أيضاً أنهم يدركون أن خطر التطرف وانتشار السلاح بهذا الشكل لا يهدد فقط أمن المنطقة، وإنما كيانها كله. ومن يلعب هذه اللعبة في سوريا، فلا شك يدرك أنه يعرض نفسه للعبة ذاتها. التجربة الأفغانية لم تُنس بعد.
ألم يكن من الأفضل، عوضاً عن إرسال السلاح والمقاتلين إلى سوريا، الاستعاضة عنهم بالمساعدات الإنسانية الحيويّة لهذا الشعب الذي يعاني الأمرّين؟ هذا ما فعلته إيران، ولا تزال، ومعها جميع الأصدقاء الحقيقيين للشعب السوري.
صراحة، بدأت أشكك جديّاً في حسن نيّات العديد من اللاعبين على الساحة السورية، وخصوصاً تلك القوى الدولية المدعية أنها الحامية لأمن الشعب السوري واستقراره، وبالتأكيد أيضاً وأيضاً تلك القوى الإقليمية التي لطالما أظهرت موقفاً وعملت خلافه على الأرض. على أحد ما أن يفسّر لنا لماذا يتصدى المستميتون في الدفاع عن الديموقراطية وحقوق الإنسان في سوريا، لأي محاولة للترويج لها في أماكن أخرى، أو على الأقل يسكتون عن انتهاكاتها؟
إن الجمهورية الإسلامية في إيران، التي بذلت ما في وسعها، لإقناع جميع أفرقاء الأزمة في سوريا وتشجيعهم على محاورة بعضهم بعضاً، في جهود بعضها معلن وبعضها الآخر بقي بعيداً عن الإعلام، مستعدة لتفعل المزيد في هذا السياق. لقد أجرينا نقاشات مع مختلف أجنحة الطيف السياسي السوري. أعلنّا أبواب طهران مفتوحة للجميع، في محاولة لإزالة المعوّقات أمام حوار وطني يُعقد في دمشق على قاعدة {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}. قدمنا مبادرة للحل، عرضناها على جميع المعنيين المحليين والإقليميين، وأعلنا دعمنا سلفاً لأي مبادرة تعتمد الحل السياسي إطاراً لها، من أي جهة أتت. النظام أبدى مرونة وتعاطى بإيجابية مع جهودنا. كذلك فعلت بعض فصائل المعارضة. سؤالي إلى البعض الآخر: لماذا لا تعطون أهمية لمبادرات كهذه، ولماذا لا تتعاطون معها بجدية أكبر؟
إني أعلن، في هذا المقام، الاستعداد الكامل لإيران لإنجاح أي مبادرة منصفة وعادلة تضمن مصالح الشعب السوري وتؤدي إلى إعادة الاستقرار لهذا البلد وتثبيته. {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّه ...}. كذلك أعرب عن تمني الجمهورية الإسلامية على جميع الشخصيات والمؤسسات التي تعمل في مجال صناعة الرأي العام، وخصوصاً النخب الجامعية الواعية والمؤثرة، أن تفضح وتعرّي المؤامرات الفتنوية التي تستهدف الأمة الاسلامية، في محاولة مفضوحة لاستنزافها وتدمير قواها وتجزئة المجزأ فيها.
أعتقد جازماً بأن سوريا اليوم هي ميدان الاختبار، الامتحان الحقيقي لكل من أسهم في سفك الدم السوري وإشعال الفتن المتنقلة على الأرض السورية؛ لكل من أسهمت أفعاله في تدمير هذا البلد؛ لكل من وقف متفرجاً على ما يجري؛ لكل من شاهد كل هذه المآسي ولم يفعل شيئاً؛ عليه أن يكون واثقاً أن حكم التاريخ سيكون قاسياً. التاريخ لن يرحم أحداً.
أقول للشعب السوري الشقيق، اصبر وصابر، إن اللّه مع الصابرين. وأتمنى من صميم قلبي أن تعود سوريا إلى سابق مجدها وعظمتها وموقعها الإقليمي، وتستأنف مسار التنمية والتقدم لما فيه من خير لشعبها وتقدمه ورفاهيته.
أخيرا وليس آخراً، من المؤسف حقاً أن تُهدر كل هذه الطاقات على التدمير الشامل لهذا البلد العزيز على قلوبنا جميعاً، بدلاً من أن توجه في سبيل فلسطين، أيقونة العرب والمسلمين، وقضيتهم الأولى كما يفترض، بل وقضية كل أحرار العالم وشرفائه.
فلتمتد الأيادي الخيرة إذن وتتعاضد في هذه اللحظة التاريخية الحساسة من تاريخ العالم لوقف النزف السوري. وإني أغتنم الفرصة هنا من جديد لأعلن للعالم أجمع، ولا سيما الرأي العام العربي، وبالأخص جمهور الشعب السوري العريض بكافة أطيافه وطوائفه ومذاهبه وانتماءاته، بأن إيران الجمهورية الإسلامية منفتحة على الجميع وكلها آذان صاغية لكل صاحب كلمة طيبة وقلبها مفتوح لكل أصحاب النيات الحسنة، وأبوابها أيضاً لاحتضان كل الجهود، من دون تحفظ على أحد، من أجل وقف الدمار المدبر لسوريا الدولة والوطن والشعب والمجتمع في ليل أظلم حالك، من أجل إعادة دورة الحياة إلى سوريا الألق والحضارة وعبق التاريخ وعز العرب والمسلمين والحضن الدافئ لكل أحرار العالم كما كانت قبل أن تتسلل إليها أيدي العابثين والكارهين لكل ما هو مشرق ومنير، لنعيد إلى سوريا وأهلها الأمل والمحبة والنور الساطع على جبينها وفوق تلالها وعلى امتداد وديانها وسهولها، وصولاً إلى جبالها الشاهقة ومدنها الوارفة لتنعم بنور الله إن شاء الله: {ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور}، صدق الله العلي العظيم.
والله من وراء القصد.
علي أكبر صالحي * وزير خارجية الجمهورية الإسلامية الإيرانية
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد