«12 لبناني غاضب»: المطر يتساقط على ساحات الإعدام

19-03-2010

«12 لبناني غاضب»: المطر يتساقط على ساحات الإعدام

لم يكن لعرض الفيلم التسجيلي اللبناني «12لبناني غاضب» في صالة سينما الكندي بدمشق أن يمر مرور الكرام على جمهور تظاهرة أيام سينما الواقع - دوكس بوكس، فالفيلم الذي حققته «زينة دكاش» عبر خمسة عشر شهراً من العمل المتواصل على مسرحيتها في سجن رومية ببيروت عن النص الأميركي «ريجنالد روز» اثنا عشر رجلاً غاضباً، كان يختزل 85 ساعة من تصوير حققتها «دكاش» أثناء شغلها على ورشتها المسرحية الخاصة جداً، ورشة تحيل السجن إلى مسرح، ومن ثم إلى فيلم سينمائي كان كافياً لمفاجئة جمهور سينما الكندي الذي صفّق قرابة ربع ساعة للمخرجة اللبنانية الشابة بعيد انتهاء العرض، وكأن هذا الجمهور أراد أن يبوح لدكاش أن ثمة سجوناً من نوعٍ آخر يمكنكِ أن تحققي فيها مشروع المسرح بأوساخٍ أكثر نصاعة، لكن من غير أن يهددكِ أحدهم بالقتل إذا ما رفضت اختياره للمشاركة في مشروعكِ الإصلاحي...، هذا على الأقل ما تبادر إلى ذهن البعض، عندما شاهدوا مغامرة هذه المرأة داخل مكان يفور بسجناء أدانهم القضاء اللبناني في جرائم قتل واغتصاب وإتجار بالمخدرات، حقاً صفق الجمهور مرتين، الأولى لمسرحية دكاش، والثانية لفيلمها الذي لم يكتفِ بالريبورتاجية الصحفية كما في أفلام السينما التسجيلية الجديدة في سوريا، الكاميرا هنا ليست على حياد، إنها عيوننا المأخوذة بوجوه تركت عليها عتمة الزنازين ما تركته من إهمال وجفاء وغرائز موحشة متوحشة في آنٍ معاً.
إذاً ما الذي فعلته هذه المرأة في السجن الأكبر في لبنان؟ هل قاربت في شغلها على سجناء رومية رائعة الكاتب المسرحي بيتر فايس «ماراساد» والتي أخرجها فيما بعد الإنكليزي «بيتر بروك» للمسرح وللسينما كفيلم حقق فيه حضوراً لمجانين الماركيز دي ساد على المسرح، أم أن القصة توقفت عند حدود العلاج بالمسرح، إعادة التأهيل وما إلى ذلك؟ كيف استطاعت هذه المرأة أن تمر من رائحة الأجساد الذكورية الفائحة بعرقها ومخلفاتها البيولوجية إلى مشهد مسرحي سينمائي نظيف إلا من أوساخه الاجتماعية والسياسية والإنسانية...؟
اثنا عشر رجلاً غاضبا... المسرحية التي أخرجها للسينما «سيدني لوميت» عام 1957 بعد كتابتها بثلاثة أعوام، وحققت سيطاً طيباً في أوساط المجتمع الأميركي تعود اليوم عبر لعبة المسرح داخل السينما، والاثنين معاً داخل السجن، فهذا الأخير يحقق حضوراً مختلفاً في عتمة سراديب بلدان العالم الثالث، حيث تلتقي عتمة السجن بعتمة المسرح عبر حواف تشبه سكاكين مجرمي رومية، وبالمسافة ذاتها التي فصلت جمهور المسرح المسجون عن ممثليهم في شهري شباط وآذار 2009 ببيروت، ستعود الكاميرا لتدوين المطر المنهمر في ساحات السجن، - حتى المطر يتساقط على ساحات الإعدام -، يمكننا رؤية شبابيك الزنازين، تبادلات سرية بين السجناء للمناشف والتبغ والطعام عبر أسلاك النوافذ المكهربة، يمكننا أيضاً استدراك رائحة المكان من خلال لقطات غزلت بذكاء بين أوقات البروفة والعرض، وبين اعترافات خاطفة للسجناء من خلال لقطات قريبة ومتوسطة لوجوههم، حكاياتهم بلا استحضار يعيد تمثيل الجريمة أمامنا جنائياً، ربما كان هذا أكثر شيء تفادته «زينة» عندما حاولت أن تخلص إلى 75 دقيقة «زمن الفيلم» من ساعاتها المطولة عن تدريبات متواصلة منذ بداية عام 2008، طاقة أخّاذة لامرأة تواجه نظرات رجال ملأهم الحرمان للحم الأنثى لسنوات طويلة، فرغم أن البعض منهم فشل بإغوائها، وبعضهم الآخر أطلق عليها لقب «أبو علي» إلا أن ذلك لم يكن كافياً لإقناعنا أنها لم تكن مؤلمة بمنظرها الأنثوي وسط جماعة من أرباب جرائم الاغتصاب والقتل، أقلهم لم يشاهد امرأة منذ ثمانية عشر عاماً، هذا إذا ما استثنينا صوتها الحميمي على أذانهم العطشى، صوتها المناقض تماماً لأصوات السجان وأوامره لهؤلاء بإطفاء الضوء، أو لاستجوابات مفاجئة.
أبطال تراجيديا
رغم ذلك استطاعت «دكاش» أن تحقق فيلمها الذي ابتعد عن المسرح المصور، حتى أنه نأى بنفسه عن التسجيلية التقريرية، ما جعل من سجناء رومية أبطالاً لتراجيديا معاصرة بكل معنى الكلمة، تراجيديا تغّيب ضحايا السجناء لتحل مكانهم أغنيات الإصلاح الاجتماعي، وأناشيد التهكم السياسي على أنغام نصف تخت شرقي بجانب الخشبة المنصوبة في إحدى قاعات السجن، يمكننا رؤية المشاهد الأولى للبروفة، زمن يمتد على طول الزنازين الداخلية، دون الإطلالة على شوارع بيروت ونهاراتها، فالمكان محدد بدقة للصورة التي تلتف بعدستها حوالى السجن الكبير وساحات التنفس، طبعاً هناك جنسيات عدة داخل هذا المسرح - السجن، لقد التقطت كاميرا المخرجة الكثير من اعترافات الاضطهاد والتمييز لسجين عن سجين آخر، فالعراقي والنيجيري واللبناني وسواهم، جميعهم يمارسون اضطهادات من أنواع مختلفة إزاء بعضهم البعض. يبدو هنا أن الأماكن البديلة للعرض المسرحي ليست كل شيء بالنسبة لزينة، ليس المسرح، وليست السينما تماماً، ليست الفضيحة السرية لمكان يتوارى فيه المذنبون عن أعين ضحاياهم، بل هي الرغبة في اكتشاف جذر الأشياء على رأي ماركس، جذرية الأشياء هنا هي الإنسان لحظة مواجهته لأمثلة العقاب البشري، وما فعلته «زينة» عبر كل هذا الوقت هو تهيئة للحظة حضور الجمهور الطليق لمشاهدة نظرائه من المكبلين إلى قيودهم الثقيلة، العقد الاجتماعي وتبعاته القانونية، الذنوب المخزّنة على هيئة بشر اقترفوا الخطيئة على الملأ، جمهور الخارج هنا كان في مواجهة طازجة على ضفتي مسرح - رومية، شهود يحمدون خالقهم على براءتهم المؤقتة، فيما كان جمهور صالة الكندي بدمشق أقل شعوراً بالذنب، فالشاشة توفر حماية إضافية، إذ لم نكن لنفكر للحظة واحدة أن هذه الشاشة ستذهب بنا إلى سجن رومي مرعبٍ كهذا، أو إلى أي سجنٍ آخر، لقد بقي كل شيء في مكانه، بقيت التسجيلية حزام أمان مضاعف لنتقي رائحة الجدران المتأكسدة بأنفاس المذنبين، حموضة جلودهم وعكر مياههم، أصوات زرد السلاسل الباردة، جنازيرها المحكمة على أفاريز الأبواب، فيما تسجل لنا كاميرا «زينة» مشاهد لزخاتٍ من مطر ينهمر كالسياط على إسفلت الساحة، الساحة التي ُتنَفذ فيها أحكام الإعدام، والتي نشاهد عليها بعض السجناء يلعبون كرة السلة فيما ينجدل حبل مشنقتهم في خفاء دراماتيكي، ربما ليموتوا موتاً معافى على رأي «ساراماغو» في روايته العمى، ألم يكتب هؤلاء على جدران السجن تلك العبارات بطرق أخرى؟ ألم تلتقط لنا الكاميرا جملة «العين بالعين» كدليل مدوّخ على حتمية القصاص وعدالته؟ مفارقات كثيرة بين أبدان المذنبين وأغنياتهم وبين جمهور مسرحية 12 رجلاً غاضباً في بيروت من جهة، وبين جمهور سينمائي مأخوذ بالتلصص على خفايا نزلاء إحدى السجون العربية من جهةٍ أخرى، فالجمهور الأول لا مفر له من مجابهة نفسية مع جناة لهم ضلع كبير كجزء من مجتمع شارك في صنعهم بطريقة أو بأخرى، أضف إلى ذلك شرط العرض الذي لم يسمح بالمغادرة لأحد قبل انتهاء المسرحية، فيما الجمهور الثاني في دمشق لم تعنه تلك المجابهة، ولم يغلق أحد أبواب السينما كي لا يتمكن أحد الحاضرين من الفرار بجلده، لكن هذا الجمهور استطاع في صالة الكندي أن يدرك بمراقبته الكلية لسيرورة الحدث وتطوراته من زمن البروفة إلى زمن العرض وما تخلل ذلك من اعترافات و بوح بصري داخل السجن و حواليه، أدرك أن تعقيد التقنية التي صنّعت كل ذلك، متدرجةً من المواد البشرية الخام للصورة وملابساتها الإنسانية إلى جعل الكادر أكثر نوعية ووجدانية، على الأقل في ترتيب المشاهد ومنتجتها لتصــير على هذا المستوى من التعبير والصميمية الفتاكة.

سامر محمد اسماعيل

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...