«طوق الياسمين» لواسيني الأعرج
هذه رواية تخرج عن مألوف الكتابة العربية.. وقد يكون خروجها على تقاليد هذه الكتابة، فيما هو متعارف عليه منها.. إلا أنها، مع ذلك، لا تفقد شيئا من «روائيتها» أي كونها رواية ذات شخصيات، وتقوم على حدث.. وشخصياتها، وهي تصنع هذا الحدث، تمر بمخاضات، وتعيش صراعات (مع نفسها أكثر مما هي مع بعضها البعض)، ومع الواقع بدرجة من درجات العلاقة التي لهذه الشخصيات بالواقع. فنحن أمام «عمل روائي» فيه من الشعرية الكثير، وله مبنى فني واضح السمات (تشكله شخصيات الرواية بما تصنع من مواقف.. وتكاد كل شخصية من شخصياتها تشكل بؤرة دلالية رمزية من خلال ما تبنيه ذاتا وتعبيرا عن هذه الذات نجده دائما بين حدين: حد الحلم، وحد الواقع من «اسطورية» سواء منها ما جاء في صورة من صور «الفعل»، أو هو «مفكّر» به في نطاق ما ترى انها تحقق نفسها من خلاله «ذاتا» ومن هنا تنبع «الشعرية» من العلاقات الناشئة (والتي نلتقيها متكاملة، أو عند نهاياتها)، والتوترات التي تتداخل بين «الذات» و«الذات الأخرى» وبينها وبين الواقع (الذي يحاصرها) والآخر الذي تريد ان تصنعه.. ما يجعل للشخصيات والواقع الذي تقيمه «اسطوريته» وللتعبير عن ذاتها في علاقتها بهذا الواقع «شعريته». ومع أن «لغة السرد» فيها تتكرر، على نحو أو آخر، مفردات واسلوب بناء وتعبيراً.. إلا أنه «تكرار» لا يضعف الرواية مبنى.. وكأنه في كل مرة يضع في هذه اللغة معاني جديدة، تجعل لها أبعادا جديدة ضمن بنية روائية نجد فيها ما يمكن ان ندعوه «حركة استقطابية» تجمع «الشخصية» الى «الفعل»، وتربطهما معا بالقول (الذي يدور في فضاء بين «الذات» و«الآخر ذاتاً» بترابط نابع من مستوى العلاقة بينهما التي تبدو كما لو انها «فعل مستمر» يكتمل دائما، على غير ما رسمته نهاية الرواية).
ومن خلال هذا البعد المتحقق روائيا يمكن ان نقرأ هذه الرواية من زاوية أخرى ـ من خلال ما يمكن ان نعده «فجوة» بين ذاتين، وزمنين، ومكانين (بكل ما للمكان من ابعاد دلالية):
فـ «عيد عشاب» يمثل ذاتا بمفردها، وله «زمانه» الذي عاشه، و«مكانه» الذي شهد تحولاته في بعديها: الذاتي، والزماني. وأما «مريم» و«سيلينا» فهما تمثلان البعد الآخر للذات والزمان والمكان.
فإذا كان «عيد عشاب» ـ وهو« الشخصية المحور» للرواية ـ قد عاش زمنه ليهزم، في النهاية، أمامه.. فإن للآخرين، جمعا وأفرادا، هزائمهم أيضا (فمنهم المهزوم من الداخل، ومنهم من يعيش الهزيمة في الخارج والداخل ـ هزيمة مركبة). وإذا كان «عيد عشاب» وكل منهم يعيش تجربة نزوع للهزيمة (بحكم كونه مهزوما من الداخل)..
تستوقفنا شخصية «عيد عشاب» أكثر من سواها، لا لكونها «خالقة حدث» دفع في اتجاه العلاقات التي سادت الرواية، بل لأنه عاش هزيمته، وأقرّ بهذه الهزيمة، فإن الآخرين يبدون موزعين بين «الاعتراف» و«المكابرة» «شخصيته» بقدر ما يكون لها من حضور، فإنها في حالة «الغياب ـ الموت» ظلت ماثلة في وجود الآخرين ـ الاصدقاء وأما حضوره في الرواية فجاء من خلال عنصرين:
ـ الأول: هو الأوراق التي تركها، وهي أقرب ما تكون الى «شهادات» على «الذات والواقع» الذي عاش، و«الحياة» التي ضمته الى الآخرين، أو «عزلته» عنهم.. بكل ما احتوت هذه الأوراق من تمثيلات، ورؤى وتحولات (نجد شاهده الأكبر فيها: محيي الدين بن عربي، فيما يورد له من شذرات أو يسجل من مواقف دالة).
ـ والثاني: حضوره في حديث شخصيات الرواية ـ وهو حضور يتفاوت أثرا وتأثيرا بين «شخصية» وأخرى (بحسب الحالة التي يمثلها عند كل منهم، والوضع الانساني الذي يتمثله كل منهم فيه).
والرواية، في بعدها هذا، تتحدث عن تجربتين، أو ترسم الآفاق الفعلية لهما: فتجربة حدثت واكتملت (يمثلها «عيد عشاب«» نفسه، الذي يستخدم الروائي «أوراقه» على نحو بارع في عملية البناء الروائي.. والتجربة الأخرى تبقى مستمرة حتى النهايات (التي بلغها الجميع؛ كل على نحو خاص به يميزه عما يحدث للآخر)، وإذ تمضي الرواية (تجربة، وحدثا، وسردا) في تناميها هذا، نجدها تتكاثف أكثر وتقوى الخيوط الواصلة بين التجربتين فيها، لتجد التجربة الأولى أثرها فيما يحدث من تحولات في التجربة الثانية.
والرواية، أيضا، في مستوى احداثها وشخصياتها وما لها من نسيج عام، تنتظم في إطار «الرواية الشعرية».. وللمكون الشعري فيها غير مصدر وبعد (وإن جاءت جميعها متصلة بـ «ذات المتكلمين» في الرواية، ونابعة عنها، فيماتصدر من مشاعرالحب، والحزن والشوق، والحنين.. وكذلك فيما تعرب عنه من عذاب مقيم)، كما نجد هذا «المكون الشعري» مرتسما فيما تعيشه شخصيات الرواية من قلق، وتمزق وتوتر، ومن صبوة الى «تحرير الذات» مما يثقلها من رواسب. .كما قد تعبر عن نزوع الى الخلاص ـ الذي وان بدا «خلاصا فرديا» فإنه ينتظم في «رؤيا جماعية» تحرر مضمون هذا الخلاص من «فرديته».
ولعل الاشكالية الاساسية في هذه الرواية ليست فقط في موت «عيد عشاب» ذلك الموت المأساوي الذي ترك في نفوس الجميع، وانما في «حضوره»: «ذكرى، وموقفا،وتوقيعات، بما يجعل للآخرين احساسهم بفاجعة الفقدان، وتداعيات هذا «الحضور» على كل ما حوله...
مهما تباينت استجابات الآخرين «لموت عيد عشاب» ـ الذي يتحول الى رمز أكثر منه ذكرى ـ فإن موت «مريم» وابنتها «سارة» في لحظة واحدة هو ما يفاقم مأساوية «الغياب/ الحضور» لدى الآخرين.. ويتحول الموت من حالة الحدث والشعور الروحي بفداحته والاحساس المأساوي بالفاجعة ـ كما هو في حالة «عيد عشاب» الى مأساوية «مماثلة» في موت «مريم» و«سارة».
ويبقى ا لسؤال أمام هذا كله عما إذا كانت هناك «اسئلة جذرية تثيرها هذه الرواية، أو تطرحها على قارئها؟
ـ إذا كانت هذه القراءة قد ركزت على علاقة الانسان بذاته، وبالآخر ـ كما رسمتها احداث وجرت وقائعها.. فإن ذلك كله، كما نستخلصه من هذه القراءة قد تبدا في صيغة اسئلة عميقة بعيدة في مسارات النفس والواقع.. وإذا كنا نجدها شحنت «اسنانها» بالقلق ازاء وضعه الانساني، والتوتر في علاقاته ومواجهة مشكلاته؛ فإنها، من طرف آخر، حددت أمام هذا الانسان سبل رؤية الواقع، ورؤية الذات وهي تقف إزاء هذا الواقع أو مواجهته..
وهي.. من قبل ومن بعد، رواية قائمة على ما هو شعوري، وعلى ما يتشكل احساسا من خلال العلاقة بين «ذات» الانسان ووجوده، أكثر منها تمثيلا لمبنى فكري، أيا كانت آفاق هذا الفكر وحدوده.
الكتاب: طوق الياسمين
المؤلف: واسيني الأعرج
الناشر: المركز الثقافي العربي ـ بيروت ـ 2005
ماجد السامرائي
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد