«طفولة في حلم يقظة» لشومان: غرام الشاعر وآلامه
إن السؤال البديهي الذي قد يطرحه المرء على نفسه، حين يريد أن يكتب عن روبرت شومان، بعد أن يستمع وربما لساعات طويلة، الى بعض موسيقاه الجميلة، الرومنطيقية والتي تجمعه في بعض أروع لحظاتها برومنطيقيين آخرين هما شوبان وفاغنر، هو: عن أي شومان يكتب: عن الموسيقي صاحب الألحان العذبة المكتوبة للبيانو؟ عن الصحافي الذي اهتم - أكثر مما اهتم أي موسيقي آخر - بالكتابة عن موسيقيي زمنه والترويج لأعمالهم والتنظير لها؟ عن ذلك العاشق الذي أمضى سنوات طويلة يحب كلارا ابنة استاذه فردريك فايك قبل أن يتمكن من الزواج بها وسط معارضة أبيها الشديدة؟ عن ذلك الطفل الذي ما إن تحقق حلم حياته العاطفي، حتى غرق في سوداوية قادته الى محاولات انتحار ثم الى مأوى للأمراض العقلية؟. هناك في حياة روبرت شومان وعمله الفني جوانب كثيرة لعلها، جميعاً، تشكل منه شخصية درامية بامتياز، ومن هنا لم يكن من المصادفة أن تصدر عنه كتب عدة، معظمها يهتم بشخصه بقدر اهتمامه بعمله. ومع هذا لم يكن عمل شومان الإبداعي، الجانب الأقل أهمية في حياته. إذ ها هي أعماله ماثلة حية حتى يومنا تشهد على عبقرية فنان، لم يفعل أي شيء في حياته سوى أن يحب، وأن يؤلف الموسيقى ويكتب عنها. ومع هذا عرف تماماً كيف يعبر عن زمنه، وعن ذلك الحس الرومنطيقي الطاغي الذي كان من سمات ذلك الزمن. ولعل القطعة التي تحمل عنوان «حلم يقظة» Traümerei، وهي من إنجازات النصف الأول من حياة شومان المهنية، خير شاهد على ذلك الإبداع الرومنطيقي. ونعرف، طبعاً، أن «حلم يقظة» هذه تكاد تكون الأشهر بين أعمال شومان، غير ان عدداً كبيراً من محبي هذه القطعة ومحبي الاستماع إليها في شكل دائم، لا يعرف أو ينسى غالباً، أن «حلم يقظة» هي في حقيقتها جزء من عمل أكثر اتساعاً، لشومان يحمل عنوان «مشاهد للطفولة»، وهو عمل كتبه شومان، أصلاً، للرقص.
> كتب روبرت شومان «مشاهد للطفولة» في العام 1837، وكان في السابعة والعشرين من عمره، وغارقاً حتى أذنيه في عشق كلارا، يحزنه أن أبيها لا يكتفي فقط بمنعها من الزواج منه، بل يحاول منعها من رؤيته. وكان من شأن هذا كله أن يغرقه في الشرب والحزن، غير ان قوة الحب لم تمنعه من أن يتفاءل، مستعيداً أجواء طفولة، كان يحس انه لم يخرج منها تماماً بعد. ومن هنا غلبت هذه المشاعر والحالات كلها، على ذلك العمل الذي يتألف من ثلاثة عشر مشهداً، أو رقصة، وفيه يعبر شومان عن أجواء الطفولة... ولكن ليس الطفولة بالمعنى التقني البيولوجي للكلمة، بل الطفولة بصفتها حالاً إنسانية دائمة يمكن الإنسان أن يعيشها حتى نهاية حياته، ويمكنها أن تقود خطاه، معطية إياه صفاء دائماً ونقاء في حياته كلها.
> يتألف هذا العمل إذاً من 13 مشهداً. ومن الواضح لمن يصغي جيداً إلى «مشاهد للطفولة» أن ثمة هندسة مقصودة تنطلق بتركيبة العمل من الأكثر بساطة إلى الأكثر تعقيداً، في سياق يبدو أنه يتزامن مع اكتساب الطفل، الذي هو «بطل» العمل، وعيه المركب بالتدريج، ومن خلال اختلاطه بالحياة وتسلله الى تفاصيلها وتفاعله معها. وعلى هذا النحو تزداد تقنية التركيب الموسيقي، وبالتالي الصعوبات التقنية التي يتسم بها تقديم هذا العمل، بالتدريج، حتى المقطع الأخير، الذي يبدو شديد التعقيد، وكأنه خرج أخيراً من عالم الطفولة، الى عالم الحياة الواسع. وعلى أية حال، علينا أن نتنبه إلى أنه إذا كان شومان يعطي المقطع قبل الأخير، الثاني عشر، عنوان «الطفل الذي ينام»، فإنه يعطي المقطع الأخير، الثالث عشر، عنوان «الشاعر يتكلم»، ما يفسر النقلة النوعية التي تحدث هنا من خلال انتهاء «دور الطفل» وأسئلته، بنومه، وبدء «دور الشاعر».
> يبدأ العمل، إذاً، بمقطع أول يحمل عنوان «حكايات الغريب». وهنا من خلال لحن يتردد مرتين ويتسم بقدر كبير من البساطة (وبالتالي باستخدام بسيط جداً للآلات الوترية) نرى مسافراً غريباً يروي لنا صوته، بهدوء ودعة، حكايات عذبة هادئة لاقاها خلال ترحاله، وهي حكايات تنتهي، نهاية سعيدة. في المقطع التالي وعنوانه «حكاية غريبة» يكاد كل ما نسمعه أن يكون دقات قلب الطفل وهو يصغي متأثراً الى حكاية بحيث نراه يقفز في كل مرة تصل الحكاية الى نقطة مهمة... وفي النهاية، حين تنتهي هذه الحكاية نهايتها الطيبة، تهدأ دقات القلب ويستسلم الطفل إلى دعة محببة. المقطع الثالث عنوانه «كولين - مايار» وهو اسم لعبة شعبية للأطفال تحتوي على قفز على أصابع القدمين ومرح مع كثير من الإثارة، والموسيقى الراقصة هنا تتابع حركة قفز الأطفال، في إيقاع بسيط مفضية الى المقطع الرابع الذي يحمل عنوان «طفل يتوسل». وهنا وكما يوحي الينا العنوان، نبدأ بترك المرح والهدوء التام لنجد أنفسنا أمام موسيقى تخلط الابتسامة بالدمعة، وتروح الموسيقى على التوالي متأرجحة بين الدمع والابتسام لتتوقف في نهاية الأمر عند الطفل وهو يتلو صلاته الحزينة المؤثرة تأثيراً كبيراً... ومن الواضح هنا أن هذه الصلاة، والمناخ الهادئ الذي تخلقه أو تواكبه موسيقى وترية تتخلى عن الإيقاع تماماً، هي ما يقودنا الى المقطع الخامس «سعادة تامة»، وفيه لا نواجه أكثر من تعبير مطلق عن قلب وصل الى صفائه أخيراً، وغاص في هذا الصفاء غير راغب في أي بديل له. ولكن لأننا هنا في خضم الحياة ووقائعها، لأن زمن السعادة والهدوء لا يمكن ان يتوقف هكذا، سنجدنا في المقطع السادس امام الطفل نفسه وقد أفاق من صفاء قلبه على أحداث مفاجئة تبدأ بالتسلل الى حياته. صحيح انها احداث غير ذات خطورة وأهمية هنا - ما يفرض على موسيقاها أن تكون مرحة على رغم إيقاعيتها وصخبها النسبي -، ومع هذا هي أحداث لا بد منها. ولئن كان الموسيقي هنا وضع اللحن انطلاقاً من نظرة واقعية، من دون أن يزحمه بأية شحنة درامية، فإنه في المقطع التالي، وهو الأشهر في تلك المرحلة من مراحل حياة شومان وعمله، مقطع «حلم اليقظة»، يعود في محاولة للغوص مجدداً في توجهه الرومنطيقي، ولكن مع شحنة درامية واضحة: فالطفل هنا يبدو ضائعاً وسط العواصف والأنواء... غير ان ذلك كله، والحماسة التي تثار لديه نتيجة هذه الوضعية، لا يمنعانه من أن يغرق أخيراً، متعباً، في نومه. وفي المقطع التالي (الثامن) «عند ركن النار»، يستمر الطفل في حلم يقظته دافئاً هادئاً قرب نار متقدة. وهذا الحلم يقوده في المقطع التالي («فارس الدادا») إلى لحن قريب من فالس موقّع يحاكي خبب الحصان، ويبدو أنه كان ضرورياً لنصل إلى الجدية النسبية التي تهيمن على المقطع العاشر، الذي يتألف من خط لحني يتواصل وكأنه حركة إنسان على آخر نفس... وهذا المقطع هنا يبدو ممهداً للمقطع التالي وعنوانه «لزرع الخوف» وهو عبارة عن لحن يتسم بالغموض ويحمل قدراً لا بأس به من التهديد والخطر... صحيح ان إطار الخط اللحني يتتالى ثلاث مرات، لكنه، سرعان ما يفضي بنا الى المقطع التالي وفيه ينام الطفل هادئاً من جديد بعدما عاش مغامرته كلها، تاركاً المجال للشاعر يتحدث في المقطع الأخير، الثالث عشر، والشاعر هنا يدلي باعترافاته أمام الطفل بلغة بسيطة... من دون أن يتنبه الى أن الطفل نام.
> إذاً، كان روبرت شومان في السابعة والعشرين حين وضع هذا العمل الخلاب، وكان يعيش آخر لحظات قلقه ازاء تواصل حبه مع كلارا، إذ انه لاحقاً سيتزوجها، لكن سنوات الدعة والسعادة لن تطول، حتى وإن كانت كلارا ظلت مخلصة له، على رغم صداقتها الطويلة اللاحقة لبرامز، طوال أربعين سنة بعد موته في العام 1856. وشومان الذي ولد العام 1810، أمضى آخر سنوات حياته مريضاً كئيباً سوداوياً، غير ان هذا كله لم يمنعه من أن يكتب بعض أروع أعماله في تلك المرحلة. ومن أهم الأعمال التي كتبها شومان ولا تزال حية الى اليوم: «غراميات شاعر» و «كونشرتو للبيانو والأوركسترا» و «مشاهد في غابة» و «جنفياف» إضافة الى سيمفونيات عدة رائعة.
إبراهيم العريس
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد