«سنودن» على ذمة أوليفر ستون: ما أكبر الفكرة، ما أصغر الدراما
لا أحد غير أوليفر ستون (1946) شخصياً كان يمكن أن يقدم الفيلم الهوليوودي المنتظر عن إدوارد سنودن. مخرج «جيه أف كيه» و«سلفادور»، و«بلاتون»، هو بلا منازع تقريباً المخرج الأفضل في تاريخ هوليوود المعاصر في تقديم مواضيع ذات مضمون سياسي جاد على مستوى عاطفي، يجعلها أفلاماً تجاريّة تستحق المشاهدة.
إلى جانب ذكائه الحاد وعواطفه الجياشة تجاه موضوعاته، لعل ما يفسر ظاهرة ستون في السينما الأميركية هو نزعته اليساريّة الواضحة في استقراء أحداث التاريخ الأميركي المعاصر، وطرحه المعارض غالباً لوجهة النظر السائدة لدى المنظومة، مما يجعل كثيرين يرون فيه نموذجاً صريحاً لمروجي نظريّة المؤامرة، لكنه دائماً يضمن تدفق الجمهور إلى شبابيك التذاكر.
فيلم «سنودن» (2016 ـ 134 د) يحكي قصة الشاب الأميركي إدوارد سنودن (1983) محلل وكالة الأمن القومي الشجاع الذي سرّب لصحافيين من الـ «غارديان» البريطانية، حقيقة عمليات التجسس الهائلة التي تقوم بها الوكالة على كافة أشكال التواصل للمواطنين عبر العالم. بالنسبة إلى ستون، العمل هو عودة إلى مزاج الحروب والسلطة والعمليات السريّة التي اشتهر بها دائماً. الفيلم مبني بالطبع على سلسلة أحداث حقيقية معروفة اليوم، تكشف كيف انتهى إدوارد سنودن (يلعب دوره باقتدار جوزيف غوردون- ليڤت) إلى تهريب كنز من وثائق وكالة الأمن القومي الأميركية إلى الصحافة. لكن كل ما أضافه أوليفر ستون فوق ذلك يبدو من النظرة الأولى حشواً مقحماً على القصة وغير ذي صلة. لا بدّ من أن ستون كان تحت ضغط إضافة عناصر دراميّة تجعل الفيلم أقرب إلى الجمهور من الفيلم الوثائقي المحض عن سنودن («المواطن رقم ٤» CitizenFour) الذي أنتج قبل سنتين، وفاز بالأوسكار (الفيلم للورا بويتراس). كان ذلك الفيلم قد تمحور حول لقاء سنودن المتخفي في هونغ كونغ مع صحافيي الـ «غارديان»، ولم تكن فيه أي خيوط سرد موازية. لذلك، قدّم ستون لنا قصة غرامية لتكون قاعدة الفيلم الدراميّة. بحسب الفيلم، يعيش سنودن قصة حب مع صديقته لينسي ميلز (تلعب دورها شيلين وودلي). كان يُفترض بقصة الحبّ هذه أن تكون مشوقة، وقادرة على حمل الأحداث الحقيقية للقصة لكي تستحق أن تتحول إلى فيلم هوليوودي يختلف نوعياً عن الوثائقي الفائز بالأوسكار.
علاقة سنودن - ميلز في الفيلم أضافت بعض الدراما إلى القصة المحدودة الأحداث، لكنها لم تكن مشوّقة على نحو خاص، بل بقيت في إطار الصراعات العادية بين كل ثنائي: خلافات متكررة لأنّ سنودن مضطر للتنقل بين المدن بسبب وظيفته أولاً كعميل للمخابرات ولاحقاً كمحلل في وكالة الأمن القومي. بلغ الابتذال في ربط العلاقة سنودن - ميلز بالأحداث الحقيقية مداه عندما يكون الثنائي غارقاً في لذة الغرام بعد عراك آخر، فإذا بسنودن ينظر عبر الغرفة، إلى كاميرا اللاب - توب المفتوح على الطاولة، فيصاب بالرعب موقناً أن حياته الجنسية الخاصة صارت في رعاية نظام الرقابة الأميركي الكبير. ربما كان من الأفضل للسيناريو لو استثمر الوقت الذي قضيناه نتابع هذه العلاقة الباهتة باستكشاف المرحلة التي قضاها سنودن عندما كان مطارداً عبر العالم بوصفه - على الصعيد العملي - المطلوب الأول والأخطر للسلطات الأميركية، لكن الفيلم أهدر تلك الفرصة بدون مبرر.
ميلز - كما النساء في أفلام أوليفر ستون جميعاً - تلعب دوراً جانبياً في القصة رغم الوقت الطويل نسبياً الذي تقضيه على الشاشة. هي تضيف دون شك نوعاً من تنويع بصري وتعقيد عاطفي حول الأحداث المجردة، وتكشف عن جوانب إنسانية في شخصية البطل الرئيسي - سنودن هنا بالتأكيد - لكنها تظل دوماً حبيسة الدور نفسه الذي خص أوليفر ستون النساء به في معظم أفلامه: الشريكة الوفيّة التي تعاني، لكنها تبقى مع بطلها رغم كل شيء.
أداء غوردون- ليڤت لدور سنودن كان في الحقيقة الشيء الوحيد المقنع في الفيلم. هذا الممثل ذو الذكاء الكامن والفضول الهادئ قدّم سنودن ربما كما يرى إدوارد سنودن نفسه. ليس مجنوناً ولا متطرفاً ولن يدفعك للانفعال، لكنه رجل بسيط يزعجك، ويملأ قلبك بالشك بنوايا هؤلاء الذين يجمعون عنك كل المعلومات بينما أنت لا تعلم ماذا يفعلون بها فعلاً.
يغطّي الفيلم قصة سنودن الرجل بمعظم حقائقها التاريخية، من لحظة تركه الخدمة في الجيش الأميركي إلى الإصابة التي لحقت به، وصولاً إلى تسريبه وثائق وكالة الأمن القومي لـ «غارديان». لقد كشف سنودن بوابة الجحيم الذي كنا جميعاً نعيش تحته من دون أن ندري، لكنه من أجل ذلك ضحى بحريته الشخصية ومستقبله المهني وحتى حياته ذاتها. لكن هذه الحقائق كلها موجودة في الوثائقي الذي أنجزته لورا بويتراس، وعلى ويكيبيديا أيضاً. لقد كنا في انتظار لمسة أوليفر ستون هنا، ولكننا للأسف سنصاب بخيبة الأمل. فـ «سنودن» يفشل في النهاية في تقديم الحجم الحقيقي لخطوة إدوارد سنودن بتسريب حقائق التجسس الأميركي على العالم للصحافة، وهو لا يفسّر بوضوح للعامة كيف يقوم نظام الـ XKEYSCORE الذي تستخدمه وكالة الأمن القومي بتوفير استنتاجات يسهل العمل عليها من خلال تحليل الكم الهائل من المعلومات التي يتم جمعها من خلال أعمال التجسس. كما لا يذكر أبداً أن التشريعات الأميركية نفسها عُدّلت كي تمنع إساءة استخدام السلطة من قبل مَن يمتلك صلاحية الاطلاع على هذه الاستنتاجات بفضل المخاطرة البطولية التي قام بها سنودن. الأخطر من هذا كلّه أن وكالة الأمن القومي في الفيلم بدت كأنها مجرد لص صغير آخر كان سنودن يظنّه في البداية شخصية محترمة، لكنه كشف لصوصيته في النهاية، كأن الأمر ليس بنية فكريّة ومنظومة متكاملة في صلب المشروع الأميركي كله. لا تنسوا أن أوليفر ستون، المخرج ذا النكهة اليسارية المزعومة، لا يزال في نهاية الأمر ودائماً ابن هوليوود المدلل وخريج المؤسسة الأميركية ولو شاغب قليلاً.
بعد مشاهدة «سنودن»، لا شك في أنّ وثائقي لورا بويتراس عن سنودن سيظل الوثيقة المرجعية الأهم لفهم قصة الرجل. فيلم أوليفر ستون عنه سنشاهده فقط لأنه عن سنودن، ولأنه لأوليفر ستون، لكننا سننساه فور خروجنا من صالة السينما ربما مع قليل من الشتائم - لستون طبعاً. فيلم مبستر وباهت دراميّاً، لا تشويق حقيقياً فيه على أي مستوى يليق بالسينما حتى في مشاهد الغرام بين سنودن وصديقته. مشهد تهريب مكعب روبيك عبر نقطة التفتيش مثلاً، كان أشبه بمزحة سمجة. خذ هذه أيضاً: ينتهي الفيلم بتقديم الأسماء والشكر للمساهمين بنجاحه مرفقة بأغنية بيتر غابرييل التي تضيف الإهانة فوق الجرح كما يقول المثل الإنكليزي. كلماتها تقول: «لا مكان آمناً لك لتذهب إليه، بعدما أطلقت صفارتك التحذيرية تلك». هل كان أوليفر ستون نائماً عندما اختاروا الكلمات التي سينهي فيها فيلمه عن هذا البطل - الأسطورة؟ لقد تمخض جبل (أوليفر ستون - سنودن) الضخم، فولد دراما عابرة.
سعيد محمد
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد