«المثقف النقدي» وحق الاعتراض
جاء اعتقال ميشيل كيلو وآخرين معه، بعد توقيع مثقفين سوريين ولبنانيين على إعلان مشترك حول العلاقات بين البلدين، ليثير من جديد السؤال حول حرية المثقف ودوره وعلاقته بمجتمعه.
لقد سادت خلال السنوات الماضية تقليعة الثقافة «العدمية» التي لا تقول شيئاً، وهي موضة لا ينتمي اليها كيلو الذي ترعرع على أفكار سارتر وغرامشي.
المثقف النقدي، صفة من الصفات التي يمكن أن تطلق على ميشيل كيلو. مثقف ينتمي إلى جيل الستينات الذي تأثر بأفكار سارتر حول الالتزام، وبأفكار غرامشي حول المثقف العضوي ودوره في المجتمع. هذا النوع من المثقفين الشاملين الذين يجدون أنفسهم معنيين بكل القضايا الفكرية والاجتماعية والسياسية، يتضاءل منذ سنوات عديدة، ويكاد ينحسر عن الخارطة الثقافية العربية التي ينداح، اليوم، فوقها مثقفون من نوع «تقني» ينحو إلى التخصص في مجال معرفي واحد قلما يتجاوزوه. هؤلاء يمكن أن يكونوا دعاة أو عدميين أو ظاهراتيين، إلا أن صفة «النقدي» أو «التنويري» لم تعد صالحة تماماً لوصف حالتهم مثلما هو الحال مع ميشيل كيلو وطيب تيزيني وصادق العظم وآخرين من هذا النمط. فميشيل كيلو الذي يوصف بالمعارض، ليس رجل سياسة بمقدار ما هو رجل فكر وثقافة يجد نفسه معنياً مثل غيره، في تطوير مفهوم الدولة، ونقد المجتمع والسلطة والأفكار السائدة أو الأوهام والتصورات التي ينتجها المثقفون والإعلاميون، وفي أن يكون المثقفون شركاء في صياغة حاضر البلاد، ويهدف بذلك وفق تصوره إلى إصلاح الراهن أو تغييره من أجل العبور إلى أفق أرحب. وهو يمارس الكتابة السياسية والأدبية والترجمة وكل النشاطات التي يمارسها رجل فكر منغمس في الواقع ومستجداته وملتزم بقضايا الناس بما في ذلك الفاعلية الاجتماعية التي تجعله يتواجد بحيوية عالية وفي كل المناسبات، في المقهى الشعبي والشارع، والأمسيات الأدبية والمنتديات وواجبات العزاء، وله حضوره المميز أينما حل، ولا توجد حواجز بينه وبين أحد. وهو يصادق حتى خصومه الذين يختلف معهم في التوجه، كما انه جدلي ومحاور من الطراز النادر، يذكر بأستاذه الراحل الياس مرقص.
وجاء اعتقال ميشيل كيلو على خلفية توقيع مثقفين سوريين ولبنانيين على إعلان مشترك حول العلاقات بين البلدين، ليثير من جديد الحديث عن حرية المثقف وعلاقته بالمجتمع والسلطة، ودوره في القضايا السياسية التي تثار وإلى أي حد هو معني بها سلباً أو إيجابا؟!
تدهور العلاقات بين البلدين، أمر يقلق المثقفين مثلما يقلق غيرهم، وإلى حد كبير. ومن الطبيعي أن تكون للمثقفين آراء في كيفية معالجة هذا الموضوع، وأن يقدموا وجهات نظرهم، ولو على شكل بيانات أو مقالات أو تصريحات! ولا داعي لأن نتطرق لما جاء في الإعلان، وبعضه محق لا يختلف عليه والبعض منه يحتاج إلى نقاش. ومما لا يختلف عليه أن العلاقات بين البلدين بلغت أوج تأزمها، ولم يعد الأمر يعني الرسميين فقط، بل يعني أيضا التجار والمثقفين والشعبيين بشكل عام، لما يوجد من تداخل بين لبنان وسورية بحكم التاريخ والجغرافيا. ويُفترض أن يحظى المثقف كما المبدع بالحرية التي تضمن له ممارسة فاعليته في مجتمعه. والمثقف إذ يمارس هذا الحق في أن يكون فاعلاً وله رأي في القضايا العامة والوطنية ليس من الضرورة أن يتوافق مع السياسة الحكومية، وهذا ضمن هوامش الحرية التي لا تكون ثمة ثقافة من دونها.
المثقف كالفنان، لا يمكنه أن ينتج ثقافة فاعلة إذا لم يكن حراً في أن يعارض ويتمرد، وفي أن يقول: لا، أو نعم، ساعة يشاء. لكن مقولته ليست مقدسة، وهي قابلة للرد عبر مقولات أخرى. وفقدان هذا النوع من الحراك والتجاذب بين الـ«لا» والـ«نعم»، يجعلنا نفقد حيوية الفكر، ونتلقى لوناً واحداً من الثقافة، تحمل في طياتها الكثير من الكذب والتبجح، والتبرير بصلافة وبلا عقد ذنب. وقد اعتدنا في العقدين الأخيرين أن نألف صيغاً وأنماطاً للمثقفين المتهالكين أو المتصعلكين (لا الصعاليك) الذين لا يعنيهم شيئا سوى خدمة ذاتهم وممارسة كل أشكال الكذب من أجل خدمة هذه الأنانية، ومع هذا النمط المتزايد تتجه حياتنا الثقافية إلى ما يشبه نقيق الضفادع في المستنقعات. إن الحاجة إلى سماع الصوت المعارض أو غير المألوف حاجة ماسة لثقافتنا الوطنية سواء كنا نوافق هذا الصوت أم نرفضه، لأنه هو أيضاً يحتاج إلى النقد والتصويب، مثلما تحتاج ثقافة السلطة للنقد والتصويب أو الرفض.
تؤكد جميع الآراء أننا في عصر لا يمكن فيه حظر الآراء. ومن غير اللائق فيه تخوين المثقفين لمجرد كونهم معارضين! وإن الطريقة التي تنظر فيها السلطات إلى المثقف المعارض بصفته هداماً هي نظرة استبدادية قديمة، رغم أن هذه السلطات تعرف أن تأثير المثقف على الشارع لا يزال محدوداً، وأن الأنظمة الأكثر حنكة أدركت أن إطلاق صوت المثقفين والمعارضين يمكن تجييره لتجميل صورتها في الداخل والخارج! ومع ذلك يكون المثقف ضحية أي عرض قوة تريد أن تقوم بها أجهزة الحكم! والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: ما هو نوع الثقافة التي تريدها السلطات؟! والثقافة التي تعبر عالمنا بلا حواجز ولا جمارك هي ثقافة الاستهلاك والترويج والميوعة والتدجيل بما في ذلك السحر والشعوذة والانحطاط، والتي تمارس التعمية والتضليل واللاعقلانية أو تعمل على تحطيم العقل على حد قول جورج لوكاتش، أو بأحسن الأحوال الثقافة التي لا تقول شيئاً. هذا النمط من الثقافة هو الذي يعبر اليوم ويعمم، رغم أن العديد من بلداننا لا تزال تتمسك بالرقابة قبل الطباعة وبعدها.
قال مكسيم غوركي يوماً: «أتيت إلى هذه الدنيا لكي أعترض» وقد عارض السلطة التي كانت تبجله، عارض لينين وستالين وعاش خارج بلاده ليكون أكثر حرية. وقد قال عنه الطاغية ستالين الذي هدده يوماً: «مكسيم غوركي مهندس الأرواح البشرية في القرن العشرين». هوية المثقف النقدي، تكمن في الاعتراض، في اليقظة الدائمة وفي أن يكون بالمرصاد لكي يقول كلمة لا أو نعم في اللحظة المناسبة، وجوهره ومعناه يكمنان في ممارسة هذه الهوية بعيداً عن الخوف والقهر. والمثقف التنويري كان دائماً مستعداً لدفع الثمن من أجل أن يمارس هذا الدور، فكيف إذا كان مثقفاً ملتزماً ومتمرداً؟!
قد يقول قائل إن المثقف عليه أن ينتج فكراً محضاً وأن ينأى بنفسه عن السياسة. هذا القول يتجاهل التداخل الحاصل اليوم بين السياسة والثقافة وعلم الاجتماع والتاريخ، وكلها مواضيع ميدانية للمثقف النقدي الذي يمثل كيلو أحد نماذجه، حيث ينظر إلى السياسة على أنها جزء من المشروع الثقافي، والإصرار على عزل السياسة عن الثقافة هو دفع للسياسة نحو التوحش والاستبداد! ويُخشى أن تكون هذه الاعتقالات مؤشراً على طغيان السياسة على الثقافة، على عكس ما كنا نتوقع منذ إطلاق الجدل حول الإصلاح في بلادنا، إذ دخل المثقفون بحيوية هذا الجدل، وعلى رأسهم ميشيل كيلو. ولكي لا يبدو أن جماعة من المثقفين وقعوا في كمين استدرجتهم إليه الدولة، نأمل أن تنتهي حالة الاعتقال، وأن يستمر الجدل الثقافي متنوعاً وفعالاً، فكما أن للسلطة مثقفيها وصوتها الطاغي ولها جمهورها أيضاً، وهي التي تهيمن على معظم المنابر، فإن توفير أجواء لحرية الفكر النقدي، سيجعل الإصغاء للدولة أكثر رصانة، والثقة بما تدعيه أمراً محتملاً.
ناظم مهنا
المصدر: الشرق الأوسط
إضافة تعليق جديد