«الشريط الأخير» تطبيق ناجح لعبث بيكيت وأفكاره

15-12-2009

«الشريط الأخير» تطبيق ناجح لعبث بيكيت وأفكاره

يعرف عن صموئيل بيكيت أنه كان لا يشرح أعماله أو يفسرها أو حتى يتحدث عنها، لكنه قال في إحدى محاوراته الثلاث المنشورة في كتاب بيكيت –سلسلة آراء القرن العشرين: «التعبير إن ليس ثمة ما يعبر به، ولا ما يعبر منه، ولا قدرة على التعبير، ولا رغبة في التعبير إلى جانب الاضطرار إلى التعبير» فأي مغزى يمكن أن يكون للفن أو المسرح إذا لم نستطع إيجاد هيئة أو قالب فني قادر على التعبير عن لا شيء بشكل مقبول؟ لذلك بقيت مجمل أعمال بيكيت المسرحية عبارة عن ألغاز حقيقة تحتاج إلى جهد وتعمق في عوالم العبث واللا معقول التي تركها لنا صاحب «في انتظار غودو» عند محاولة تقديمها على خشبة المسرح، وضمن هذا الإطار قدم المخرج الدكتور أسامة غنم مسرحية «الشريط الأخير» على مسرح دار الأوبرا بدمشق مؤخراً، معيداً الاعتبار إلى مجمل أعمال بيكيت ومفهومه عن العبث والتي أسيئ فهمها في مجمل العروض المسرحية السورية التي حاولت تقديمه سابقاً.
كراب .. لغز الإنسانية
يقول آلان ساتجيه في كتابه «في انتظار غودو- دراسة عن أدب صموئيل بيكيت»: أن قمة المتعة واللحظات الجميلة عند بيكيت كانت عندما كان يختلي بنفسه في مزرعته البعيدة، يجلس منذ الصباح الباكر على كرسيه يتأمل الشمس منذ لحظة شروقها وهي تتحرك في السماء فوق رأسه، إلى أن تغرب وراء الأفق. لذلك نجد مجمل شخصياته التي كتبها تحاكي الزمن والعزلة الإنسانية بطريقة متفردة، بما فيها «كراب» الشخصية الوحيدة في العرض –لعب الدور محمد آل رشي- ، هذه الشخصية التي تشبه مهرجي السيرك إلى حد قريب جداً، أدخلتنا في عوالمها وعزلتها الإنسانية بشكل تدريجي، لنكتشف معها إن لم يكن هناك أي شيء يحدث في العالم ، فليس لهذه الشخصية ما تفعله. فكراب رجل عجوز يعيش وحيداً في مكان مجهول، لا زمان ولا مكان محددين،  لا شيء على الخشبة سوى طاولة فقيرة وكرسي وإضاءة خافتة حيادية ثابتة طيلة العرض مع بعض علب أشرطة التسجيل وآلة تسجيل قديمة، بعد مشهد طويل ورتيب ومقصود يدخلنا في الزمن العبثي للحياة، يبدأ كراب بسماع شريط صوتي سجله قبل 30 عاماً عندما كان شاباً. عادة ما يستحضر ممثلو المونودراما شخصيات أخرى على الخشبة، لكن في «الشريط الأخير» استطاع كراب في ازدواجية الماضي والحاضر التي يعيشها -والتي عشناها معه أيضاً- إدخالنا في لعبته ليتحول صوته المسجل إلى شخصية أخرى بعيدة عنه بعض الشيء وأصبح متفرجاً مثلنا يتابع أداءًٍ صوتياً كان كافياً لإحداث التأثير المطلوب على كراب أولاً ومن ثم علينا ثانياً، نعرف عبر التسجيل أنه كان وقتها يبحث عن السعادة ومتع الحياة، أما الآناختلف كل  شيء، أنها لعبة بيكيت مع الزمن والشخصية والتي يمكن تلخيصها بأن مجمل الشخصيات المسرحية لا تقوم إلا بتمثيل دور، بشكل يشبه إلى حد ما جميع البشر من حولنا الذين يحاولون الهروب من حياتهم الخاصة، لكن كراب كما في مجمل شخصيات بيكيت المسرحية، على العكس ذلك تماماً، يقدم نفسه على أنه متشرد على المسرح دون أن يكون له دوراً في كل ما يحدث من حوله،  ويترك لنا حرية الاختيار في قراءته بالطريقة التي تلامس حياتنا كل على هواه، يتوقف كراب عند تفصيل يذكره بفتاة كان يحبها، عاش معها لحظات جميلة لكنه تركها ومضى، لم يذكر أسباب الفراق، لكن المهم هو تلك اللحظة البعيدة التي تمنى فيها قول شيء، أو فعل شيء، لكنه لم يحدث، ألم يعش معظمنا مثل هذه اللحظة؟ ويذكر أن بيكيت كتب هذه المسرحية وفي ذهنه ممثل محدد، أما حكاية الفتاة ذات القميص الأزرق ما هي إلا حكاية فتاة حقيقة أحبها بيكيت نفسه وافترقا بعد أن أصيبت بمرض السرطان، يحاول كراب التحايل على واقعه بإعادة شريط ذكرياته عله يستطيع فعل شيء، لكنه يكتشف أن الماضي أصبح ماضياً وما عليه إلا مواجهة حاضره وحيداً منعزلاً لا شيء عنده سوى أشرطة تسجيلاته وذكرياته جميعها، ترى هل هناك أصعب على البشر من النظر إلى ماضيهم والتحسر على أمور كانوا يحلمون بتحقيقها؟ يجيب كراب على هذا السؤال بأنه لا يتمنى لسنوات عمره أن تعود أما السعادة المفترضة فهي لا تعينه بشيء الآن.
الحدث...الزمان ..والعبث
لا يبتعد بيكيت كثيراً  في مسرحيته هذه عن نظريته  الخاصة في اختصار الحبكة والحدث المسرحي، إن لم نقل تغييبهما بالكامل على حساب التلاعب بالألفاظ وخلق شخصيات من نوع خاص استطاع د.غنم مع الممثل محمد آل رشي إيجاد حلول إخراجية وطريقة في الأداء تترجم وتبلور ما كان يريده بيكيت، حيث نجحا في عرضهما في تجسيد الأعماق الإنسانية، وتحديا الصعوبة التي يفرضها مسرح بيكيت بالعموم في إيجاد معنى لعالم يتغير باستمرار، وقصر اللغة الإنسانية في بلوغ أو إيصال حقائق ثابتة، لذلك نجد في العرض لحظات صمت طويلة، كلمات مبعثرة لا معنى لها، حركات رتيبة، انفعالات متباينة، تفاصيل تتكرر باستمرار لكنها ذكرتنا برتابة حياتنا اليومية وتعبنا القاتل، كل هذا جاءنا بشكل مدروس ومنسق ومنسجم استطاع خلق حالة هارمونية بين عناصر العرض كافة، كما عالج مخرج العمل مفهومي الزمان والمكان بطريقة ملفتة، حيث لم نجد أشارة واضحة للزمن، هل العرض يجري في الصباح أو المساء؟ في الخريف أو الصيف أو الشتاء؟ لكم مع ذلك بقي كراب ينظر ويدقق في ساعته طيلة العرض وكأنه على موعد مع شيء هام، في كثير من لحظات العرض اعتقدنا أننا نتابع تفاصيل حياة كراب خلال شهر من الزمن وربما أكثر، أو أقل، لكن الزمن هنا لا قيمة له. مكان ثابت لا حراك فيه يتعامل معه كراب بحرص شديد مع أنه يعيش وحيداً، عندما يخرج مفاتيح كثيرة لأدراجه وأغراضه المرتبة، لكن يبقى أن نشير أنها من المرات القليلة التي يقدم بها نص لبيكيت في المسرح السوري دون أن يخضع إلى ما يسمى عملية الإعداد المسرحي، الذي يمكن ترجمته إلى القص والحذف والإيجاد البديل بشكل يتناسب مع إمكانات المخرجين الذي يحاولون التصدي لعبثية بيكيت، حيث أكد مخرج العمل د.غنم أن النص قدم كما هو دون أي تعديل يذكر سوى كلمتين اثنتين هما اسم الرواية التي كان يقرأها كراب واسم المنطقة التي قابل حبيبته السابقة فيها، وأنه عمل على ترجمة النص الأصلي الذي كتبه بيكيت بالفرنسية ليقدمه كما هو دون زيادة أو نقصان. هذا أن دل على شيء إنما يدل على صحة النظرية أو المدرسة الإخراجية الأمينة للنص المسرحي والتي  تحافظ على قدسيته، بعكس ممارسات مجمل مخرجينا المحليين مدعي الإبداع شحيحي الموهبة، الذين يعمدون إلى إعادة صياغة نصوص المسرح العالمي بما يتناسب مع رؤيتهم الشخصية التي غالباً ما تتعارض مع طبيعة وبينة وأفكار النص الأصلي، حتى بتنا نتابع عروضاً لكتاب عالميين على خشبات مسارحنا لا يربطهم بنصوصهم التي تعبث بها أيدي معظم مخرجينا سوى الاسم فقط. 

أنس زرزر

المصدر: مجلة النهضة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...