«الحركات الإسلامية» جديد تركي علي الربيعو
يحتل صعود الاسلام السياسي منذ اربعة عقود "ساحة" النضال والسجال السياسي والفكري والايديولوجي عربياً وعالمياً، وترافق هذا الصعود مع فشل البرنامج القومي اليساري في التحرر القومي والوحدة والتقدم في اعقاب هزيمة حزيران 1967 وما تلاها من هزائم امام المشروع الصهيوني والاستعماري الزاحف على المنطقة. ولّد الفشل فراغاً عبّر عنه انهيار قوى التقدم والديموقراطية وغياب البرامج البديلة. قدم البرنامج الاسلامي نفسه بديلاً وخلاصاً، فطرح شعار "الاسلام هو الحل"، وترتّب على هذا الشعار نشوء حركات سياسية متعددة المشرب والهدف. يمثل كتاب تركي علي الربيعو "الحركات الاسلامية في منظار الخطاب العربي المعاصر" الصادر عن المركز الثقافي العربي مساهمة في قراءة التيارات السياسية العربية ونخبها لدلالة صعود الحركات الاسلامية.
في محور اول، يركز الكاتب على قراءة الخطاب اليساري لهذه الحركات، والذي شكلت هزيمة حزيران بالنسبة اليه القاعدة الاساسية في ظهورها. عبّر عن ذلك انحطاط البورجوازية العربية وتراجع المشروع الوطني وما رافقه من غياب البديل الثوري لقيادة البورجوازية الصغيرة ودخول حركة التحرر الوطني ازمة مستعصية لا افق مرئياً للخروج منها. أتى ذلك كله على قاعدة من التقهقر الاجتماعي وانتشار الأمية في العالم العربي مما زاد من ازمة الانسان النفسية والعصبية. وهي عوامل تشكل اساساً موضوعياً للتزمت والتمسك بالتقاليد والاندفاع الأكبر الى احضان الدين. كما يرى هذا الخطاب ان السلطة الرسمية استخدمت الحركات الاسلامية في صراعها مع القوى التقدمية والمعارضة مما اعطاها دفعاً وقوة. يمثل استخدام النظام المصري ايام انور السادات ابرز الامثلة الدالة على ذلك. ويطلق الخطاب التقدمي اوصافاً متعددة على الخطاب الاسلامي، متهماً اياه بالانحطاط والشكلية والجمود والرجعية والوعي الزائف.
في محور ثان، يلقي الكاتب الضوء على قراءات لعدد من النخبة المفكرة تناولت ظاهرة الاسلام السياسي، فيختار عدداً منهم، اجتهدوا في قراءة ما يتصل منها بخطاب اليسار، وما حاول التميز عنه. بالنسبة الى محمد عابد الجابري، الاسلام السياسي هو إنتاج هزيمة الراديكاليين العرب بخطابهم وممثليهم، فهو يحمّل دول النفط مسؤولية في صعودها وتقويتها. يراها في المقابل ظاهرة ظرفية لا افق مستقبلياً لبرنامجها وموقعها. اما فؤاد زكريا فيقيم تضاداً مطلقاً بين الصحوة الاسلامية والعقل، وبين الحركات الاسلامية والعلمانية والتعددية السياسية، إذ يرى ان بعض سماتها تقوم على ممارسة العنف وتمجيده وسيطرة العاطفة وعدم الاستماع الى الرأي الآخر، والتشديد على الطاعة المطلقة للقادة، واستخدام القوة ضد معارضيها.
يناقش رضوان السيد لا معقولية برنامج الاسلام السياسي وممارسته، فيعيدها الى لا معقولية الاستبداد السائد في البلدان العربية. فيأس الناس من الحالة القائمة هو الذي يفسر اقبالهم على شعارات الاسلاميين وليس تخلفهم. والازمات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تمر بها الأمة اعطت هذه الحركات شعبية واسعة. يضاف الى ذلك كله الطريقة التي جرى فيها توظيف النصوص الدينية والفقهية بما يخدم نضالية هذه الحركات. يرى محمد جابر الانصاري ان صعود الحركات الاسلامية هو نتيجة الاحتجاجات الريفية على عالم المدن وعدم اختراق خطط التنمية المدينية للريف، وهو بذلك يربط بين انتشار الخطر الاصولي وفشل خطط التنمية، ويضيف الى هذا الفشل عجز المشروع الوطني والقومي عن تقديم الحل التاريخي لهذه المجتمعات.
يعتبر نبيل عبد الفتاح ان العنف مكوّن اساسي من مكوّنات بنية الخطاب الاسلامي في شتى فروعه. فمن موقعه المصري – القبطي، يرى ان "الاخوان المسلمين" يختزلون الاسلام السياسي ويقدمون رؤية تقليدية لنموذج اهل الذمة بالنسبة الى الاقباط. لذلك يعزو كل مشكلات الاقباط الى تنامي ظاهرة الاسلام السياسي. في المقابل، يقوم خطاب نصر حامد أبو زيد حول هذه الحركات، على خلفية ايديولوجية اساسها التضاد بين المتنور والمتخلف والعقلاني والخرافي. فالانتكاسة التي شهدتها حركة النهضة والتنوير العربي ارتدّت صعوداً لقوى الخرافة والاسطورة التي وقفت حاجزاً امام قراءة عقلانية للنص الديني. ويعيد أبو زيد في هذا المجال تأكيد مقولاته حول كون القرآن نصاً لغوياً، وحول العلاقة الجدلية بين النص والواقع بوصفها تمثل مفتاحاً لفهم النص القرآني.
تشكل العلاقة بين الدين والسياسة، ومن ضمنها خضوع السياسة للدين، نقطة مركزية في خطاب الاسلام السياسي. يستعرض الكاتب في محور ثالث آراء عدد من المفكرين في هذا المجال. يرى علي عبد الرازق في كتابه "الاسلام واصول الحكم" ان السياسة شأن تدبيري وليس شأنا عقيدياً، ويذهب بعيداً في تفنيد الرأي الذي يقول ان الاسلام دين ودولة فيرفض هذه المقولة، ويعتبر الخلافة مقاماً دينياً، وان الاسلام لم يعرف يوماً دمجاً بين الدين والسياسة بقدر ما عرف استخداماً للدين في تبرير قرارات السلطان السياسي. اما هشام جعيط، فيبدو قلقاً على مستقبل الدين في الدولة العلمانية الاصولية العربية، إذ يعتبر الاسلام دين الأمة مما يوجب بقاءه ديناً للدولة، بمعنى ان تعترف الدولة به تاريخياً وتهبه حمايتها وضمانها. في المقابل يشدد جعيط على رفضه استخدام الدين اداة في يد الدولة تتلاعب به لغايات سياسية.
يرى عبدالله العروي ان مقولة "الاسلام دين ودولة" تنتمي الى الطوباوية، ولا اساس تاريخياً لها. انها حصيلة المؤلفات الشرعية والايديولوجية للحركات الاسلامية. تتحدث هذه الحركات عن الدولة كما يجب أن تكون من وجهة نظرها وليس عن الدولة كما هي على ارض الواقع. اما برهان غليون، فيعتبر ان ازدياد الطلب على الفكرة الاسلامية في الشارع مع بداية السبعينات يعود الى تراجع الفكرة القومية والعلمانية التي ارتبطت بالدولة، وهو تراجع طاول مستويات نفسية وعقيدية وسياسية. ويرى ان الاسلام لم يفكر في الدولة، ولا كانت قضية اقامتها من مشاغله، لكن الدولة كانت من دون شك احد منتجاته الجانبية والحتمية.
يرفض راشد الغنوجي الدولة العلمانية وينعت نخبتها السياسية بالكهنوت الجديد الذي يسعى الى فرض دينه الجديد على المجتمع العربي والاسلامي عنوة، مشدداً على ضرورة السلطة في الاسلام التي هي في الآن نفسه قيامة الدين. اما محمد اركون، فيربط تنامي ايديولوجيا الكفاح ضد الامبريالية بتراجع الدولة العلمانية، وهو ما ادى الى صعود الحركات الاسلامية الراديكالية التي ذهبت بعيداً في رفع شعار "لا حاكمية الا لله". يعيد اركون الخلط بين الدنيوي والمقدس، وبين الدين والدولة، الى خضوع علماء الدين والفقهاء للسلطة السياسية، ليخلص من ذلك الى دعوة ملحاح لفصل الدين عن الدولة.
ان الصخب الذي تثيره الحركات الاسلامية اليوم يجعل مناقشة ممارستها وبرامجها مهمة ملحة وضرورية. ابرز ما يواجه هذه الحركات اندفاعها في نظرية تكفيرية للمجتمع والحكم ورجال السلطة. كما تطرح هذه الحركات تحدياً على القوى العقلانية والقوى الدينية المتنورة في مواجهة استغلال هذه الحركات في الصراع السياسي، وتوظيف النص الديني في تبرير اعمال العنف والارهاب.
خالد غزال
المصدر: النهار
إضافة تعليق جديد