« أشلاء» أفنان محفوض.. لا مسافة بين الدم وأحمر الشفاه

11-06-2015

« أشلاء» أفنان محفوض.. لا مسافة بين الدم وأحمر الشفاه

لم نكن على موعد مع نساء هنري ماتيس المتكئات على الأرائك والوسائد والموشحات بالأقمشة الحريرية، ولا حتى مع نساء نذير نبعة المعشّقات بفساتينهن المعرّقة والمطوقات بالخرز والقلائد والحلي الفلكلورية؛ فنساء النحاتة السورية «أفنان محفوض» ـ (مواليد العام 1984) في معرضها الفردي الأول «أشلاء» (من 1 إلى 15 حزيران، في المركز الثقافي بأبي رمانة) - يمكن من النظرة الأولى إليهن التعرف على ما تتركه الحرب اليوم على المحترف السوري، وما أودعته سكاكين وسواطير القتلة على جسد المرأة السورية.
الأعمال الخمسة عشر التي عملت فيها النحاتة الشابة على مادة الطين وبأطوال مختلفة تراوحت بين «15×35 سم» تنزع بمجملها نحو أسلوبية تعبيرية استقت مشهديتها الصادمة من إعادة تمثيل الجريمة الجماعية؛ إذ ليس غريباً أن نعثر في المعرض على فردة حذاء لامرأة تعرضت قبل قليل للنشر بواسطة مثقبٍ كهربائي؛ ليبقى حذاؤها هنا كدليل وحيد على همجية المجرم وساديته.
أجسام مبقورة وأثداء منهوشة لنساء مبنّجات فوق طاولة تعذيب جماعي؛ طالتها آلة العنف اليومية التي تتعرض لها النساء السوريات على امتداد خارطة الحرب؛ خارطة موازية يوثقها النحت هنا؛ لتطالعنا «محفوض» بأجساد نسائها المهشمة؛ ومن قدرة الحرب على إباحة حرمة كل شيء لدى قاتل تفجرت فيه كل غرائز الوحش ومواهبه الفظيعة في ضعضعة الجسد الإنساني واغتصابه وسحق وتهشيم معالمه؛ بل وإحالته إلى ما يشبه الكابوس.
لا مسافة بين الدم المسفوح وأحمر الشفاه في منحوتات «محفوض»، بين العطر ورائحة شواء الأجسام الأنثوية المقطّعة الأوصال؛ حيث تقصدت «أفنان» طلي معظم أعمالها باللون الأحمر؛ فيما أصرت على وضع ابتسامات غامضة بقلم الحمرة على وجوه الضحايا. اللون هنا ليس من قبيل الحذلقة التشكيلية على جسم المنحوتة؛ بل هو رغبة الفنانة الشابة بمشاكسة مصائر عبثية تعرضت لها بطلات معرضها؛ تقريباً هي امارات الضحية التي تعكسها الحركة في منحوتات تمد يدها أو قدمها المبتورة؛ في محاولة يائسة لاستجداء رأفة أو رحمة إنسانية في قلب قاتل قادم من زمن الحداثة والعدم العقائدي.
يغيب مع هذه الدهشة من حجم العنف المبذول على مجسمات النحاتة الشابة؛ التفكير بتوحيد حجم الكتلة؛ أو التخلص من ضربات الإزميل على جسد المنحوتة؛ فالإزميل هنا هو قدرة أصابع «محفوض» على توظيف الطين كمادة مطواعة لأهوال تتجاوز قدرة النحات على تجاهل أشلاء النساء المعضوضة والمرفوعة بكلابات حديدية؛ الخصور التي تركت جنازير التعذيب انتفاخات بنيّة على أعضائها المقصوصة.
مراجعة خاطفة على المشهد الكلي لـ «أشلاء» تخبرنا ببساطة عن حجم المباشرة الفنية التي تبررها أفنان باشتغالها المضني على عروق ومسامات منحوتاتها؛ فقدم المرأة المقطوعة من الركبة؛ ويدها المحفوفة بالمنشار الكهربائي؛ مثلها مثل الرأس المقطوع لامرأة كانت في جوارها تعرض خصرها الهين وقدها الممشوق ورقبتها البيضاء المصقولة لتنكيلات فاشية على آلة تعذيب من القرون الوسطى؛ حيث تروي النساء المخدّرات تفاصيل الجريمة كاملة في هذا المعرض؛ فالجزء المبتور من المذبحة تكمله «محفوض» واضعةً الطين وجهاً لوجه مع فتاوى المشرحة.


سامر محمد إسماعيل

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...