'الخبزالحرام'يستلهم الحضيض وفنانون فاشيون يطالبون بمحاسبةالرأي الآخر
تعيد قناة (الدنيا) السورية حالياً، عرض حلقات المسلسل الرمضاني (الخبز الحرام) الذي كتبه مروان قاووق... وأخرجه وساهم في كتابة السيناريو له تامر إسحاق.
ومن يرى حلقات هذا المسلسل الذي يفترض أنه يتناول شريحة من شرائح قاع المجتمع السوري، سيظن أن ما يطلق عليه باللغة العربية الفصحى (الحضيض) هو تسمية ملطفة جداً لما يرى... فالعمل الذي يستلهم مادته من هنا، تجاوز الحضيض بأشواط، وعبارة يوسف وهبي الشهيرة (ما الدنيا إلا مسرح كبير) يجب أن تستبدل بـ (وما الدنيا إلا ماخور كبير) حتى تلامس شيئاً من هذا الواقع المزري... ذلك أن صورة المجتمع السوري كما تتبدى في هذا العمل، صورة محزنة جداً... فهي لا تدعو إلى التعاطف بمقدار ما تثير الاشمئزاز.... وهي لا تقدم لنا تشريحاً للواقع، بل تركيباً انتقائياً لصورة غارقة في الانحلال الأخلاقي، الذي يشعر المشاهد إزاءه بانسداد الأفق وانهيار الأمل وموت الإيمان بالشرف... إذ لا شيء يمكن أن يُنقذ هذا البناء المتداعي الغارق في العار، سوى طوفان أو زلازل، أو غضب إلهي يمكن أن يطهر هذه البؤرة من نماذجها وانحلالها وفسادها، حتى لو ذهب الصالح بجريرة الطالح!
بطل (الخبز الحرام) رجل خمسيني مدمن كحولياً، وغارق في تعاطي الحشيش وصحبة بنات الهوى، يتعرض للاستغلال من قبل أولاد الحرام الذين يسعون من خلاله للإيقاع بابنتيه الجميلتين... وفي لحظة سهو وسكر وتحشيش يتحول هذا الأب من دون أن يدري إلى قوّاد على أهل بيته... ونماذج العمل تتوالى على النحو التالي: تاجر بناء يدير جلسات قمار ودعارة وصفقات مشبوهة... سائق ميكرو باص متورط في جرائم قتل وسرقة والإيقاع بالنساء وتدبير أحط أنواع المكائد... شاب يمثل دور العاشق الوسيم، لكنه يدير بيت دعارة، يشّغل فيه الفتيات اللواتي وثقن به، أو تقطعت بهن السبل... وصاحبة 'بوتيك' يبدو عملها مجرد ستار من أجل استدراج الفتيات الصغيرات وتقديمهن لأثرياء كبار خارج الحدود، ووسيطها رجل أعمال سوري يقدم الضحية باعتبارها سكرتيرته التي ستوقع العقد مع البيك الكبير الشره لافتراس العذراوات... ناهيك عن فتيات مراهقات يدمن على مشاهدة أفلام البورنو... ومقاطع دعارة تنتشر عبر الموبايلات في المدارس!
طبعاً نحن ذكرنا النماذج ولم نأت على ذكر الوقائع... إذ أخشى لو أسهبت في ذكرها، أن ترمي إدارة تحرير 'القدس العربي' بزاويتي هذه بين أخبار الجرائم والإثارة وأخبار الجنس، التي لم أجرب أن أكتب بها من قبل!
وقد نقل لي أكثر من صديق أن كثيراً من الأسر السورية، باتت تخجل من مشاهدة هذا النوع من المسلسلات مع أبنائها وبناتها من المراهقين والمراهقات، الذين لا يسمح لهم وضعهم الفيزيولوجي ـ على الأقل- بأن يميزوا بين الموضوعات المثيرة المطروحة من أجل التوعية، وبين الموضوعات المثيرة التي تثيرهم بالفعل، وتفتح في خيالاتهم وأحلام يقظتهم نوافذ واسعة على عالم، سواء أكانوا يعرفونه أم لا يعرفونه فهو سيشغلهم ويأخذ بهم إلى مناطق ليس من المفيد في هذه السن أن يتخيلوها!
والمشكلة بالنسبة لنا ليس في إظهار صورة إيجابية مشرقة عن المجتمع السوري بطريقة كاذبة وسطحية ومزورة... فالدراما لا شك معنية بتشريح الواقع، وإظهار مشكلاته وتسليط الضوء عليها... وهذا أمر لا نختلف عليه مع أحد... لكن المشكلة هي في تنميط هذا الواقع... فكما باتت لدينا مسلسلات تصور الواقع الإيجابي بشكل منّمط، نجد أن هناك مسلسلات تستعير أنماطا جاهزة للحديث عن الجوانب السلبية في المجتمع. فالشر هنا مصنوع على طريقة أفلام الميلودراما المصرية القديمة، التي كانت تصور سقوط الفتيات في الرذيلة باعتباره قدر الفقراء، وخلاصة قسوة المجتمع، وشهوانية الرجال الشبقين لافتراس الجمال بلا رحمة!
والحق أن من يعرف كاتب مسلسل (الخبز الحرام) وهو رجل بسيط بدأ حياته الفنية المتأخرة بكتابة قصص بيئة شامية من حكايات جده، سوف يدرك أنه مع احترامنا لجهده في الكتابة- أبعد ما يكون عن أن يمتلك رؤية فكرية معمقة تجاه واقع اجتماعي مزرٍ يسعى لتناوله... أما مخرج العمل السيد تامر إسحاق، فقد بدأ حياته الفنية قبل سنوات كمصور فوتوغراف، ونحن لسنا ضد أن يجتهد ويرتقي فلكل مجتهد نصيب... لكنه في هذا الموسم اخرج مسلسلين: الأول هو (الخبز الحرام) والثاني هو (الدبور) وقد ورد اسمه في شارة (الخبز الحرام) باعتباره كاتباً للسيناريو. وأنا أتساءل: كيف استطاع السيد إسحاق أن يكتب أو يصلّح سيناريو مسلسل في ثلاثين حلقة، ثم يقوم بإخراجه، ثم يخرج مسلسلاً آخر معه في أقل من عام؟! هل أصبحت الكتابة في عمل يتناول المحرمات ويدخل إلى مناطق شديدة الوعورة تمس صورة المجتمع السوري سهلة إلى هذا الحد؟! وهل أصبحت عملية الإخراج أيضاً سهلة إلى هذا الحد؟!
إنني أسأل ألم يشعر الممثلون بالاشمئزاز وهم يصورون كل هذا (الانحطاط الأخلاقي والاجتماعي) الذي تنطوي عليه دراما لا تشرح ولا تغوص في العمق، بل تذهب إلى الإثارة بسطحية فجة، وتقدم صورة عن المجتمع الذي ينتمون إليه، لا يسرنا بالتأكيد أن يأخذها أحد على محمل الجد!
لقد قدمت الدراما السورية الكثير من الأعمال الجريئة التي تغوص في مشكلات الواقع على مر تاريخها القديم والحديث... ولعل آخرها كان مسلسل (العار) الذي عرض العام الماضي، وتناول مفهوم العار الأخلاقي بكثير من العمق والجرأة ولقي الكثير من الاحترام والتقدير... ولهذا فليست مشكلتنا مع (الخبز الحرام) وأقرانه، هي الصورة السلبية أو الإيجابية التي يقدمها عن المجتمع، بل أنه يعيدنا إلى أجواء أفلام السينما السورية الخاصة في سبعينيات القرن العشرين، حين كانت قصص الدعارة والسقوط والاتجار بالرقيق الأبيض مجرد إثارة همها اجتذاب الجمهور، لا تصوير مشكلات الواقع الاجتماعي أو نقدها... مع فارق بسيط أن تلك الأفلام كانت تقدم لجمهور في صالات يدخلها الجميع باختيارهم، ولا تقتحم عليهم بيوتهم!
هل تصبح الدراما السورية خطاً أحمر؟
-والآن... هل هذه هي الدراما السورية التي يجب أن ندافع عنها باعتبارها (منجزا وطنيا) يقوم بمهمة وطنية؟!
إذا كانت هذه هي مهمة وطنية فلنقل لصناع هذه الدراما الفاضحة: شكراً من الأعماق. ولنقل لبعض الفنانين الذين يطالبون الجهات الوصائية على الإعلام في سورية بإصدار توجيه يعتبر: نقد الدراما السورية خطاً أحمر... شكراً أيضاً. ولنقل لبعض المخرجين الصغار الذين قالوا بأنه (يجب محاسبة كل من انتقد الدراما السورية في الصحف والمواقع الإلكترونية) كم أنتم كبار... ولنقل لمخرج رائعة (أبو جانتي) الذي قال في ندوة تلفزيونية: (يجب أن تكون هناك رقابة على ما يكتب عن الدراما في الصحف) كم أنت ديمقراطي وواثق من فنك وإبداعك؟!
فما هؤلاء الفنانون الذين لا يحتملون رأياً في مسلسل صنعوه؟! ترى لو حكموا أو تسلموا سلطة كيف سيتصرفون؟! أي جرائم ومجازر سيرتكبون، أي كوارث سيصنعون وهم الذين يتحدثون عن الفن والإبداع والمزاج والأحاسيس المرهفة؟!
من المعيب أن يتورط أي فنان بالتحريض على قمع رأي آخر مهما كان مغالياً... ومن العار على صحافي مستفيد في صحيفة حكومية أن يخوّن زملاءه الذين يكتبون نقداً، لأنه اعتاد في كل المواقع التي شغلها في حياته أن يكون بلا رأي... أما نحن الذين اعتدنا أن نقول رأينا في فن لا معنى له إن لم يثر جدلاً أو يحرك رأياً أو يخلّف سجالاً... فنفهم جيداً أن شرف المهنة في صفنا، وأن القارئ الحقيقي في صفنا، سواء اختلف أو اتفق معنا، لأننا في كل الأحوال نحترم عقله، ونحترم حقه في أن يقرأ رأياً مختلفاً في دراما ستموت وتنزل إلى الدرك الأسفل إن سعينا لحمايتها من الرأي الآخر بحجة أنها (منجز وطني يستحق التشجيع)... وجعلنا منها خطاباً مقدساً لا يأتيه الباطل من أمامه أو خلفه!
حوار الأقوياء والأسوياء!
- على مدى حلقتين متتاليتين استضاف الزميل عمرو الليثي في برنامج (واحد من الناس) على قناة (دريم) كاتب مسلسل الجماعة، السيناريست وحيد حامد لمناقشته فيما أثاره ويثيره هذا المسلسل الخلافي، الذي أشعل معارك الفن والسياسة في الدراما المصرية هذا الموسم.
للوهلة الأولى يظن من يشاهد عمرو الليثي وهو يحاور ضيفه، بأن الرجل قد انتسب إلى جماعة الإخوان المسلمين فجأة، وان ثمة من عينه ـ في الخفاء على الأقل- ناطقاً إعلامياً باسمهم، كي يدفع بكل اعتراضاتهم ومآخذهم الكبيرة والصغيرة على مسلسل (الجماعة) في وجه وحيد حامد، ويصر على طرحها ومناقشتها بكل إلحاح وإصرار... وحتى عندما يحاول وحيد حامد أن يستميله الى صفه عبر طرح أسئلة استنكارية عليه، يفترض أن يكون جوابها: لا، من قبيل: (انت تصدق يا عمرو إن مسلسلا تلفزيونيا يمكن أن يؤثر في انتخابات) يرد عليه عمرو الليثي بعناد: (آه... أصدق... أصل إحنا شعب عاطفي)!
لقد كان عمرو الليثي في حواره مع وحيد حامد، نموذجاً للمذيع التلفزيوني الذي يتمتع بحرفية عالية، يذهب في حواره إلى أقصى درجات الاختلاف مع ضيفه، كي يدفعه لقول كل ما لديه... ينطق باسم الطرف الغائب، كي يقوي حجة الطرف الحاضر.
إنه الإعلام الحقيقي... فن السجال الحي، والحوار الحي، لا فن المجاملات والأسئلة الخجولة، وطلاب الاستماع السياسي!
محمد منصور
المصدر: القدس العربي
التعليقات
شكرا لكاتب المقال
تعقيب على ماذكر
إضافة تعليق جديد