يوميات - القطة الشقراء وفكرة كافافي غير المدهشة
كتب ميلان كونديرا في «فن الرواية» لمناسبة نيله جائزة أدبية اسرائيلية: «إذا كانت أهم جائزة تمنحها إسرائيل مخصصة للأدب العالمي فليس ذلك في ما يبدو لي وليد الصدفة، بل نتيجة سُنّّة راسخة، فالواقع ان الشخصيات اليهودية الكبرى التي نشأت بعيدة عن موطنها الأصلي في بيئة تتعالى على الأهواء القومية، عبرت دوماً عن حساسية استثنائية من أجل أوروبا تتعالى على القوميات. أوروبا لا يتم تصورها كأرض بل كثقافة، وإذا كان اليهود ظلوا حتى بعد خيبتهم المأسوية مخلصين لهذه الكوسموبوليتية الأوروبية، فإن إسرائيل، وطنهم الصغير الذي عثروا عليه أخيراً، تنبثق في نظري بوصفها قلب أوروبا الحقيقي، قلب غريب وُضع في ما وراء الجسد».
يعنينا كعرب من كلام كونديرا أمران:
- الإخلاص للكوسموبوليتية الأوروبية التي أغنت العالم بنهضتها العلمية والأدبية لا يكون بالإنكفاء ورفض الآخر الفلسطيني، صاحب الأرض الأصلي والشريك الضروري في أي حال، إنما بقبول السلام والاعتراف بالجوار العربي الإسلامي المسيحي. ولن تستطيع الذاكرة المحمولة من أوروبا أن تمنع تراكم العيش في شرق المتوسط وانبثاق ذاكرة جديدة قريبة من أوروبا لكنها ليست نسخة من القارة في زمانها ومكانها المحددين اللذين يحلو للذاكرة اليهودية الرجوع إليهما.
- ثمة تناقض بين احترام الكوسموبوليتية الأوروبية التي انتمى اليها أعلام يهود فاستفادوا منها وأفادوها وبين إعلان رسمي مجمع عليه بأن اسرائيل «دولة يهودية» أي أنها دولة ما قبل قومية تقتصر على اتباع ديانة محددة. ويزيد الأمر عزلة وانعزالاً أن هذه الديانة لا تميل إلى التبشير إن لم تمنعه، فهي توائم بين العرق (الملتبس) والدين (الملتبس من حيث علاقته بالعيش المدني).
وليس لمواطني دولة دينية - عرقية أن يفخروا بانتمائهم الثقافي إلى كوسموبوليتية أوروبية، بل إنهم يوجهون رسالة إلى ذكرى الأعلام الأوروبييين اليهود بأن دعم الكوسموبوليتية كان ذريعة ولم يكن قناعة أو انتماء إلى فضاءات مفتوحة للإبداع والتقدم.
وبالتالي، ليس لإسرائيل أن تفخر بأعلام أوروبا اليهود، فهي تنفصل عنهم حين تعلن نفسها دولة دينية. أما عن ميلان كونديرا فقد اخطأ مكان الخطاب والناس الذين يخاطبهم، وكان الأجدى أن يسافر إلى بريطانيا ويلقي كلمته أمام اريك هابزباوم المفكر البريطاني العجوز الذي تجسد سيرته صورة المثقف اليهودي الأوروبي. وللمناسبة فإن هابزباوم مولود في الاسكندرية وغادرها مع أهله طفلاً عائداً إلى النمسا ليعيش نجاحات المثقفين اليهود الأوروبيين ومصاعبهم.
كلام كونديرا ورد في كتاب «ثلاثية حول الرواية» الذي صدرت ترجمته عن «المشروع القومي للترجمة» في القاهرة، وأنجز الترجمة بدر الدين عرودكي.
* الاثنين 19/1/2009: مواطن وأمة
حال الأمة من حال مواطنيها.
كيف لمواطن أن يعنى بالأحداث الكبرى ويحكم عقله فيها ويعلن موقف وعي واتزان؟ كيف له ذلك وهو لا يكاد يتدبر عيشه اليومي؟ مسألة الخبز تتقدم على القضايا الوطنية. هذا ليس تكراراً لكلام الاشتراكيين الذي تحول إلى أنظمة مستبدة، أنه المشهد الواقعي في بلاد النيل اليوم.
وجوه كثيرة في شوارع القاهرة ولا تستطيع تأمل وجه واحد، تراها متشابهة، لكن ما تلحظه للوهلة الأولى ويبقى هو عيون الناس، متفتحة يقظة كمن يترقب خطراً من مكان ما، عيون محاطة بهالات داكنة، كأن أصحابها لم يناموا أو لا يستطيعون النوم.
السعي إلى الخبز، ثم السعي إلى المعنى، فلا مجال للاستغراق في الأحداث الكبرى. كيف لإنسان يفيض بالقلق أن يستعير قلق الآخرين؟
ولكن، ثمة وطنية مصرية حاضرة في الطبقات كلها، وطنية تطفو مخترقة هموم العيش لتقول: قف عند حدودك، أنت في مصر، ونحن المصريين ننتمي مثل أشجار مهما تنوع الورق والثمر. ولن تستطيع اقتلاع الشجرة. وطنية كامنة تبرز دفاعاتها في الوقت المناسب ثم تنطوي لتعاود مكابدة الهموم اليومية المقبضة.
أهل وادي النيل المستقرون، لا نتفهمهم جيدا ًنحن أهل المشرق أبناء القبائل والعشائر والملل والنحل. يفاجئوننا بخصوصيتهم التي يغطيها بحث يومي عن خبز ومعنى.
حال المواطنين من حال أمتهم.
* الثلثاء 20/1/2009: قطة شقراء
أقف في فناء مكتبة الاسكندرية المفتوح على طريق داخلي وعلى الكورنيش بأفقه البحري السماوي. ليس للمكتبة سور، فيسهل عبور الناس أو دخولهم إلى أروقتها إذا رغبوا.
في الفناء بين محاضرة ومحاضرة. ذريعتي التدخين والحقيقة هي الابتعاد عن المناقشات التجريدية.
تقترب قطة شقراء. أحاول الابتعاد، فليس المكان مناسباً لمداعبة حيوان أليف، لكنها تقترب وتمرر وجهها على أسفل سروالي ثم جسدها كله، في تأنّ وتملّ وألفة أدهشتني، وفي حنان كتوم لم أدرك سرّه. كيف تعرف القطة الاسكندرانية الشقراء أن هذا الرجل الآتي من بيروت يفتقد حناناً، هو وأبناء جيله ممن حطمت الحروب أعمارهم؟
نظرت إلى ساعتي. أنها الثالثة والدقيقة الخمسون بعد الظهر. كان ضرورياً تحديد الوقت لأنني تذكرت قراءات غائمة من التراث الفرعوني عن علاقة القطط بالأرواح، وتوهمت لفترة أن عزيزاً غائباً يعود في صورة قطة شقراء، لكنني حسمت الأمر فجأة وتركت الفناء باتجاه المبنى.
التفتّ قليلاً إلى الوراء فرأيت القطة من خلال الزجاج تنظر إليّ مليّا. لم أفهم معنى نظراتها ولن أفهم.
* الأربعاء 21/1/2009: أرزاق
في منتصف الطريق الصحراوي بين الاسكندرية والقاهرة، تقف السيارات في استراحة تسمّى «واحة عمر».
عند المدخل يستقبلك شاب يصطحب أسداً، يلاعبه حيناً ويحمله حيناً آخر.
المشهد يجذب المسافرين، يستخدمون الكاميرات أو أجهزة الخليوي لالتقاط صور مع الأسد. يتركهم الشاب لشأنهم ثم يطلب بدل الصورة الواحدة عشرة جنيهات، وعندما يساومونه يرضى بالقليل: عشر صور بثمن صورة واحدة.
الأسد متوسط الحجم، قد يكون أنثى لأنه يفتقد لبدة الرقبة، وقد يكون ذكراً صغير السن، وهذا ما أكده الشاب: أنه شبل يبلغ من العمر ثمانية أشهر وقد نزعت أنيابه لدفع خطره.
شبل وديع لكنه بائس. ظننته وسخاً. تقدمت، فإذا لونه الأصلي باهت، ما بين البنيّ والرمادي.
مهما اعتنى الشاب بأسده، يبقى مجرد حيوان يجذب الرزق خارج الغابة التي انتزع منها. لكن الشبل ترك في ظلال الغابة هناك أسوداً ذات أنياب لا يصل اليها مسافرون ولا يتصورون معها.
* الخميس 22/1/2009: بن اوكري
يحضر الكاتب البريطاني - النيجيري بن اوكري معرض القاهرة الدولي للكتاب ليوقع روايته «طريق الجوع» The Famished Road التي حازت جائزة بوكر عام 1991، في نسختها الانكليزية وفي ترجمتها العربية التي أنجزها سمير عبد ربه وأصدرها «المركز القومي للترجمة».
ولد بن اوكري في نيجيريا عام 1959، وغادرها مع عائلته إلى لندن لسنوات ثم عاد مع العائلة إلى وطنه عام 1986 ليغادر مجدداً إلى لندن بعدما حصل على منحة نيجيرية لدراسة الأدب المقارن. أثناء الدراسة وبعد التخرج عمل في الحقل الأكاديمي وفي الإعلام وكتب نصوصاً وروايات من بينها «طريق الجوع» التي صنفت على أنها من أدب ما بعد الحداثة، ووصفت بأنها «ثرية ومثيرة وذات رؤية تحمل الأمل للعالم. رواية متخمة بالدراما والمفاجآت وتنتمي إلى شكل أدبي غير مصطنع، فتذكرنا بالأدب اليوناني القديم ورومانسيات القرون الوسطى».
بن اوكري ممثلاً الثقافة البريطانية، تتغذى من أبناء البلد الأصليين بقدر ما تنهل من ابناء المستعمرات السابقة، بحيث صارت نادياً أو مختبراً عالمياً. هكذا كان وضع الثقافة العربية في القرون الوسطى، ويمكن أن تجد في السير القديمة واحداً من أجداد بن اوكري الأفريقيين يساهم في كتابة وقائع أو تحليلات فقهية في القاهرة، ولا يوقع ما كتب لجمهور في معرض بل يقدم مخطوطته هدية لحاكم أو لشخصية نافذة.
من أجواء الرواية:
«لم نتوقـــف عن التـــحديق في الرجل الأبيض، وكنا نتوقع في كل لحـــظة أن يطـــير أو يـــقفز أو يتشــقلب في الهواء، لكنه لم يفعل أياً من ذلك، وبدا أنه في مزاج سيئ. أصدر أوامره بلغة غير مألوفة لنا فقفز العمال بسرعة ونفذوا أوامره في الحال. جلس فوق المقعد فسارع أحد العمال بإحضار مظلة وظل ممسكاً بها فوق رأسه.
توقفت سحلية أمامه ثم مالت برأسها وظلت تنظر إليه مدة طويلة، لكنه سحق رأسها بقدمه في حركة سريعة وأصدر أمره لأحد العمال أن يلقي بجثتها بعيداً. كنا لا نزال نراقبه، وساورنا اعتقاد بأن لون بشرته سيتغير في أي لحظة بتأثير الهواء الساخن. جاءت سحلية أخرى ووقفت في مواجهته وهي تهز رأسها ثم تحركت من مكانها ودارت حوله مرتين متتاليتين.
تبادل معنا النظر. وعندما أمر العمال بإبعادنا ومطاردتنا بالعصيّ، انتابتني كراهية شديدة تجاه ذلك الرجل الأبيض. أصبحنا نراقبه من بعد. كان الظل الصادر من المظلة باهتاً، وكانت الشمس حارقة غير رحيمة. لقد كرهته إلى درجة أنني تحدثت الى الرياح طالباً منها أن تثور، وما هو إلاّ وقت قصير حتى اشتدّ الهواء وهبت الرياح قوية فانحنت الأشجار وامتلأ الهواء بالتراب، وأطاح المظلة بعيداً من يد العامل».
* الجمعة 23/1/2009: خلاسية
إذا فقدت الاستقرار في بيتك، في مدينتك، في وطنك، لن تجده في مكان آخر.
وثمار السياحة الثقافية يجنيها أولئك الذين يسافرون بقلب مطمئن وعقل يقظ وعاطفة غير متكسرة. تكون ملاحظاتهم دقيقة حول الأمكنة والبشر وفي إطار مقارن: المشترك الانساني والخصوصيات التي تميز.
ترافقك مدينتك أينما حللت ومهما ابتعدت.
هذه الفكرة من قصيدة للشاعر اليوناني الاسكندراني قسطنطين كافافي، كانت مدهشة ومعبرة عن اندماج المدينة بالفرد، لكنها في مرحلة الهجرات اليوم والمصحوبة بتطور الاتصال، فقدت عنصر الادهاش، إذ تتنوع عناصر الانتماء وتختزن ذاكرة الفرد أمكنة وأنفاساً ولغات شتى، بحيث يصير مشروع كائن عالمي.
هذا الكائن لا يعرف انتماء جرّبناه فأورثنا حنيناً بلا حدود. أنه ينتمي إلى نفسه وإلى المرأة التي يحب وإلى العمل الذي يجني منه مالاً وإلى نظام المصالح الذي يعطيه أماناً.
نعيش مرحلة انتقال صعبة في مجال القيم الوطنية، ذلك أن عقولنا وأرواحنا خليط خلاسي متعدد الأصول.
هذه الخلاسية قد تبعث الخبل أو تؤسس لمواطن عالمي لم تكتمل ملامحه.
إذا فقدت الاستقرار في بيتك، في مدينتك، في وطنك، فقد تجده في مكان آخر.
محمد علي فرحات
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد