هل يمكن تجديد الخطاب الديني ؟
إن سؤال تجديد الخطاب الإسلامي المعاصر أصبح اليوم، و بلا شك، مسألةً وجودية، إنها مسألة حياةٍ أو موت، فإذا لم يتمكن من جلو الصدأ على مفاصله التي تكلّست واهترأت فإنه لن يستطيع أن يُسهم في صنع العالم فكرياً وثقافياً، وإذا لم يخرج من عزلته إلى رحاب المعرفة الإنسانية فإنه سيبقى يجترُّ مقولاته التي ما فتئ يكررها ويُعيدها منذ عقود، وهذا السؤال عليه أن ينبع من حاجتنا الى تجديد ذاتنا، وليس من حاجة الآخرين الى تغيير ذاتنا، قناعة من أننا نحتاج حقيقة إلى «ثورة» مفاهيمية جديدة، فالتجديد عملية جوانيّة وليست تجميلية برانيّة، إنها تتعلق بإعادة صوغ الأسس والبناء المعرفي الذي انبنى عليه خطابنا وأصبح يشكّل وعينا وشكّل تاريخياً لا وعينا الذاتي، إنه ما نقدّم به ذاتنا إلى العالم والصورة التي نعكس بها تصوّرنا ورؤيتنا للعالم، ومن هنا يصبح سؤال التجديد سؤال اللحظة التاريخية المصيرية الذي لا فرار منه أو تهرب، ولا تجدي معه المراوغة أو التحايل بالقول إن «الإسلام يقدّم أفضل نموذج إنساني للعالم»، أو القول بأن «الإسلام هو الحل لمشكلاتنا السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية»، ذلك أن العالم اليوم لم يعد يتوقف كثيراً عند ما نقوله نحن لأنفسنا ثم نقف عند حدود القول، فحالنا السياسية وتخلفنا الاقتصادي وإرثنا الاجتماعي تكشف عن حال خطابنا وتعبّر عنه بامتياز، وهو ما يعني أن التجديد في أحد جوانبه هو عملية تنموية شاملة تستهدف الإصلاح السياسي الذي لا مفرَّ منه كخطوةٍ مركزية، وتأخذ بعينها أيضاً إعادة بناء النظام الاجتماعي وما يرافق ذلك من إصلاحات اقتصادية وثقافية وإعلامية. عندها يتضح ويتسع بالوقت نفسه سؤال التجديد ليصبح معنى الوجود الإسلامي في المستقبل، وليكثّف حقيقة أن الواقع الإسلامي لا إصلاح له من دون صلاح خطابه وتجديده، فالتحديات التي تنتظره هي في حجم العوائق والموانع التي تعترضه خلال مسيرته، لكنه ما دام قد أصبح سؤال الوجود فعندها تبقى عمليات الممانعة جميعها جزءاً من صيرورته ومساعدةً له في بلورة خطابه وصقله.
لقد بقيت الدعوات إلى التجديد من دون الطموح ولا تتعدى مجرد أفكارٍ متناثرة لا يربطها ناظم، ذلك أنها لم تترافق مع نتائج عملية تعتبر بمثابة مختبرٍ فعلي للأفكار النظرية، وهو ما حال دون إمكان التأسيس عليها. والأمر ذاته في ما يتعلق بالإصلاح، إذ بقي مجرد استثمار سياسي في الإعلام سواءً بالنسبة الى الولايات المتحدة أو الأنظمة السياسية العربية، لذلك أرى أن التجديد سيظل يُراوح مكانه إذا لم ننتقل إلى الحديث عن التجديد كقضايا أو كنظرية ذات متطلبات عملية وعلمية، وذلك ينقلنا وفي شكل مباشر إلى الطرح الذي يربط التجديد بالحراك الاجتماعي والسياسي للمجتمع، إذ يمكن تركيب علاقة جدلية قائمة بين هذين الطرفين، فلن نستطيع الوصول إلى التجديد إلا مع دخول العالم العربي والإسلامي في دورةٍ حضارية جديدة ينتقل فيها من حال الشلل والعطالة واللافاعلية إلى حال الفعل والإشعاع الحضاري، ومن دون ذلك لن يتحقق التجديد الفكري وسيبقى رهين مشكلاته الاجتماعية والسياسية، وبذلك يكون التجديد رهين الإصلاح بمعناه الشامل السياسي والاقتصادي والتشريعي.
من غير شك أصبح الحديث عن الإصلاح الإسلامي جزءاً من استراتيجية السياسات الدولية لمنطقة الشرق الأوسط، فعولمة تحديث الإسلام إذا صحَّ التعبير ارتبطت في شكلٍ كبير بحدث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001، ذلك أن الأصولية أصبحت ذات تأثيرات دولية بالغة الأثر على الاقتصاد وحركة المال والسياحة الدوليتين.
وفورة الاهتمام بالإسلام تنبع أيضاً من حجم تأثيره الطاغي في ثقافة شعوب المنطقة، التي تبدو للكثير من المراجعين والمتابعين عصية على التغيير، وكل محاولات التحديث والدمقرطة ليست جزئية ومحدودة فحسب، وإنما تجميلية أيضاً، ولم تدخل إلى عمق ثقافة سكانها. الأمر الذي دفع الكثير من السياسيين إلى ربط عملية الإصلاح السياسي المطلوب إجراؤها بالإصلاح الديني المتعثر حصوله.
وإذا كانت عملية الإصلاح الديني بما تعنيه من إعادة بناء المؤسسات الدينية والتعليمية، وتجديد الخطاب الديني باتجاه خطاب أكثر إنسانية وعقلنة، لا يمكن أن تتم من دون مرور مفصلي وحاسم بإعادة بناء هيكلية الدولة العربية على أسس مدنية حديثة، وبناء خطاب سياسي يقطع جذرياً مع الخطاب الأيديولوجي الرعائي باتجاه الخطاب السياسي المؤسس على احترام الإنسان وحقوقه واحترام خياراته، ولذلك يبدو واضحاً أن تبدأ عملية الإصلاح الديني من قلب وجوهر العملية السياسية، فلا إمكان للإصلاح الديني من دون عملية إصلاح سياسي شامل، وعلى حد تعبير فيليب بورينغ فإن المحافظة السياسية هي السبب الأبرز في تعويق التطوير أكثر من الدين، «فالإسلام في حاجة اليوم إلى ثورة فكرية عمادها السياسة» على حد تعبير عبدالوهاب المؤدب في كتابه «في مواجهة الإسلام»، إذ يعتبر المؤدب أن الإسلام يحتاج اليوم إلى مفكر مثل سينوزا.
لكن، الإصلاح السياسي وكما هو معروف أسهل من الإصلاح الديني، إذ هو يتناول ضرورات راهنة ويمتلك قنوات معروفة، أما الإصلاح الديني فإنه يعني رؤية مختلفة للعالم ويتطلب إعادة قراءة النص الديني، والتجربة التاريخية للمسلمين، ولذلك فقد يسبق الإصلاح السياسي ويساعد على ولادة الإصلاح الديني وقد تكون العملية العكسية صحيحة أيضاً، بمعنى أن إصلاح دور الدين في المجتمعات العربية ربما يساعد على تنظيم العملية السياسية وفق أسس سلمية وقانونية أفضل، لكن لن يحسم الإصلاح الديني والسياسي في شكل أكيد الإصلاح الديني، ذلك أن مساره صعب ومعقد ويحتاج إلى أجيال متتابعة، وإذا استخدمنا مصطلحات المؤرخ الفرنسي الشهير فرنارند بروديل لقلنا إن الإصلاح السياسي يدخل ضمن زمن التاريخ القصير، أما الإصلاح الديني فهو أقرب إلى تاريخ الحقبات أو التاريخ الطويل، فهو عملية تربوية وثقافية متكاملة تنشأ الأجيال خلالها على مفاهيم جديدة وتبنى العلاقات بين الأفراد أيضاً وفقاً لأسس جديدة. فالدين لا يتدخل فقط في علاقة الفرد بربه وإنما ينسج المنظور الذي يرى الفرد من خلاله ذاته وغيره وعالمه.
ومن هنا يأتي الرهان على أن إنجاز الإصلاح الديني من شأنه أن يعيد تنضيد العلاقات الاقتصادية والاجتماعية وفق علاقة تبادلية تسهم بلا شك في إعلاء قيمة الإنسان وشأنه، وهو الأمل الذي تطمح الى تحقيقه الحضارات والثقافات كافة وعلى رأسها الحضارة الإسلامية.
لكن، العالم الإسلامي اليوم ينتمي إلى خبرات تاريخية متفاوتة ومختلفة، وفي الوقت نفسه دخل في مسارات تنموية متعددة، فكيف السبيل إلى تعزيز الخبرات التبادلية التاريخية لبناء تراكم حضاري يلعب دوراً على صعيد إسهام الحضارة العربية والإسلامية في الحضارة الإنسانية.
لا بد في البدء من خروج الخطاب العربي حول الإسلام من إسار مركزيته التاريخية، فالعرب يتحدثون في الإسلام بصفته حكراً أو إرثاً تاريخياً هم الأقدر على التعبير عنه أو التحدث باسمه. لقد مارسوا مركزية تاريخية شبيهة بالمركزية الأوروبية بحق الشعوب الأخرى، وإذا كنا اليوم ننتقد المركزية الغربية في إطار تعاملها مع الحضارات الأخرى وتجاهلها ووضعها في دائرة اللامفكر فيه، فإن العرب أنفسهم مارسوا بحق الشعوب الإسلامية خارج مجالهم التداولي مركزيةً من نوعٍ آخر حكمتها العصبية ونوعٌ من الترفع القيمي وأحياناً العرقي مع صعود الفكرة القومية عالياً، وهو ما وجدناه في مداولات الحوار القومي – الإسلامي، عبر إضفاء فرادة خاصة على العرب في تأثيرهم الإسلامي، وعلى ذلك لم يستطع العرب الانفتاح على العالم الإسلامي بخبراته الفكرية والعلمية المتزايدة، وخير دليل على ذلك حجم الترجمات العربية عن اللغات الإسلامية الأخرى الذي يبدو هزيلاً جداً ومجحفاً بحق هذه الشعوب وتاريخها العريق.
ولم تنحصر هذه المركزية في الإطار الفكري فحسب وإنما تعدت إلى المجال السياسي والاقتصادي، ولم تتعدل إلا في حدودها الدنيا مع النجاحات الاقتصادية الباهرة التي حققتها بعض الدول الإسلامية في جنوب شرقي آسيا كماليزيا مثلاً.
التحدي الآخر المتعلق بالعالم العربي في علاقته بالعالم الإسلامي يتعلق بضرورة استفادة العرب من الإرث العاطفي والإنساني المكنون في دول العالم الإسلامي في ما يتعلق بقضايا العالم العربي، فالسوري يحضر في الوعي الإسلامي على سبيل المثال بصفته قادماً من «الشام الشريف»، والسعودي يصوّر كقادم من «أرض الحرمين»، والمصري يصور كجزء من «أرض الكنانة»، لكن على رغم ذلك لم يكن لسورية على سبيل المثال أي سياسة خارجية استراتيجة في ما يتعلق بالعالم الإسلامي، بل إنها لا تحضر أبداً في استراتيجيتها، لأنها تؤسس في الوعي السياسي السوري كبديل عن المنظومة العربية، والفتور السياسي هذا انعكس سلباً في كل مجالات الحياة والتبادل الحضاري والإبداع البشري، وينسحب الأمر ذاته على مصر أو دول المغرب العربي، وبحدٍ أدنى السعودية التي أرادت توظيف منظمة المؤتمر الإسلامي كجزء من دورها الإقليمي والدولي وليس كجزءٍ من استراتيجية أوسع تتعلق بالانفتاح على العالم الإسلامي.
لا بد إذاً من كسر إطار المركزية العربية التي مورست تجاه العالم الإسلامي بما يؤسس لعلاقة انفتاح حقيقي وتبادل وإثراء حقيقي بين المكونات العرقية والإثنية والحضارية المختلفة.
فتجربة العالم الإسلامي في إيران وتركيا ودول جنوب شرقي آسيا ودول آسيا الوسطى تختلف باختلاف البيئة الحضارية والتاريخية التي أثّرت فيها وشكّلت قوامها الثقافي، لا سيما الاحتكاك المختلف في دول الجوار الجغرافي، القرب الأوروبي من تركيا، تأثير روسيا أو الاتحاد السوفياتي سابقاً على دول وسط آسيا، تأثير الصين لا سيما الانفتاح الاقتصادي على دول جنوب شرقي آسيا، وما يستتبع ذلك من تأثيرات مختلفة تتعلق بالأديان التي تفرض اختلاطاً معها، وهو ما انعكس لا شعورياً في عادات وتقاليد وثقافات الدول الإسلامية المجاورة، فالعادات الإسلامية في جنوب شرقي آسيا تقترب كثيراً من تأثيرات بوذية وكونفوشيوسية عليها.
كل ذلك يعزز نظرية وجود الإسلامات المختلفة، أو ما يسمى الإسلام المتعدد، وبقدر ما نفهم هذا التعدد والتنوع على أنه غنى بقدر ما نفيد منه كإثراء لمجرى الحضارة الإسلامية وأثرها في التاريخ الإنساني. ولكن الإسهام الأكبر الذي استطاع الخطاب الإسلامي غير العربي تقديمه تمثل في بلورة مفهوم أكثر انفتاحاً عن الغرب على رغم نمو الجماعات الأصولية في الوقت الحالي وانتشارها الواسع، والتي استعادت خطاباً لا تاريخياً عن الغرب يصفه بالماهوية والثبات كأقنوم واحد موحد، وهو الحضور ذاته الذي نجده في الخطابات الأيديولوجية العربية سواءً كانت إسلامية أم يسارية. بيد أن قدرة الخطاب الإسلامي غير العربي على القيام بنمط من التوأمة مع مفاهيم الحداثة لا سيما في شقها الاقتصادي والسياسي أتاح له تطوير خطابه، خصوصاً في ما يتعلق بتضمينها مفاهيم الديموقراطية وحقوق الإنسان والاختلاف والتعددية، وجدنا ذلك في ماليزيا وتركيا. وكان الأثر الأكبر واضحاً في الطفرة الاقتصادية والنمو الكبير الذي حققته ماليزيا على سبيل المثال.
قد يعود ذلك بنسبةٍ ما إلى عدم خضوع جميع دول العالم الإسلامي للاستعمار وبالتالي لم يتح لها مخالطة الجانب السيئ من الغرب، بيد أن الأمر ذاته يصح على عدد من الدول العربية التي لم تخضع للاستعمار، لكن نمط تطور دولتها لم يختلف كثيراً عن غيرها من الدول العربية التي خضعت لعقود مديدة من الاستعمار.
ولذلك أرى أن الأمر يعود إلى الاختلاف في طبيعة النخب العربية والإسلامية، فالنخب العربية غالباً ما طورت مفهوماً كلانياً عن الدولة ينيط بها دوراً تغييرياً للمجتمع. في حين أن النخب في الدول الإسلامية وفي ماليزيا خصوصاً، ارتبط تطور النخب لديها بدورها التنموي والتشاركي لا الاستعلائي، وهذا يمكن لمسه بدراسة الأصول البعيدة لمعظم النخب السياسية والثقافية والعسكرية الماليزية.
وإذا كانت النخب العربية قد انعطفت بقوة باتجاه اليسار والرؤية الشمولية لدور الدولة فإن هذا التأثير بدا محدوداً في النخب الماليزية، التي بقي تركيزها منحطاً على الدور الاقتصادي وعلى النمو الصناعي.
لكن، هناك نقطة في غاية الأهمية وتتعلق بالتفسير الأنثربولوجي للنجاح الاقتصادي الماليزي خصوصاً، ولدول جنوب شرقي آسيا عموماً، والذي غالباً ما يتم عزوه إلى الثقافة الانطوائية لهذه المجتمعات، وتمركزها على فكرة الطاعة، إذ أنه حتى في أجواء حرية حقيقية فإن هذه المجتمعات تتصف باللين ورفض الخروج أو الانشقاق، وهو ما كان محوراً لدراسة أكثر من باحث ومؤرخ غربي لتفسير ظاهرة النمور الآسيوية، حتى جرى وصف تلك المجتمعات بأنها تعيش نمطاً من «الاستبداد المستلذ» أي الذي لا تشعر شعوب تلك المنطقة بنمط السيطرة الشمولية الذي يُفرض عليها.
وهو ما يفسر النجاح الاقتصادي على رغم جود استعصاء سياسي حقيقي. وهذا يفرض علينا مرة أخرى قراءة التطور التاريخي لتلك المجتمعات وفقاً لسياقها التاريخي الخاص بها، ويحتم علينا الخروج من نسق المركزية العربية التي أسرتنا كثيراً لفكرة أن لا تطور للعالم الإسلامي إلا بتطور جذري للعالم العربي.
رضوان زيادة
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد