نيتشة يضع العلماء تحت مبضع النقد

23-03-2009

نيتشة يضع العلماء تحت مبضع النقد

من الأمور التي، نعدها بديهية في المنطق الفكري لأي فيلسوف أو لاهوتي أو متخصص في أي علم ما، هي ‏أن يكون لكل واحد من هذه الكيانات المذكورة صفات معينة، وخصائص عامة، يمكن أن ترسم لنا صورة ‏متكاملة عن ماهية كل منهم، وطبيعة سلوكياتهم، وما ترافقهم من مزايا إيجابية أو مثالب سلبية تشكل بالتالي ‏لدينا فضاء أو مجال تتحرك ضمن حدود عناصره كل الكيانات التي تنتمي إليه بحيث يصبح "لكل واحد ماله" ‏على حد تعبير نيتشه، مع الأخذ بنظر الاعتبار وجود حالات شاذة تخرج عن القاعدة ولا تدخل ضمن التصور ‏العام للفلاسفة أو للعلماء، مثلا، الذين وضعت خصائصهم تحت إطار ما.‏

ولا ريب بأن العصر الحديث قد شهد تطورا ملحوظا في العلم وخصوصا العلم الطبيعي، فنلاحظ أن العلم في ‏القرن التاسع عشر- الذي كان من "أكثر الأزمنة حماسة"، كما يصفه نيتشه- قد أصبح يكبر كل يوم أكثر ‏فأكثر، بحيث قد عرف تغيرا كبيرا في مجال العلوم عكس بصورة لا تدع مجالا للشك، التقدم المطرد لمسيرة ‏العلم والذي بدأ منذ قرون عديدة. ‏

وقد حدث هذا التطور والتقدم العلمي، الذي وسم القرن التاسع عشر بسمته، على يد طائفة من المفكرين الذين ‏يطلق عليهم اسم العلماء، الذين قاموا بتطوير العلم الطبيعي الذي يعدّ مظهرا مهما للتفكير العلمي الرفيع ‏والبحث المنظم، مما أدى إلى ميلاد التصور المادي للكون، متجسدا في التأويل الميكانيكي للعالم الذي عدّه ‏نيتشه حتى القرن التاسع عشر من "أهم التأويلات الموجودة في الطبيعة".‏

ونحن في حقيقة الأمر يمكن أن نجد عدة خصائص عامة مشتركة بين العلماء نستطيع أن نطلق عليها تعبير ‏شخصية العالم، حيث يبدو لنا أنه من خلال استقراء سلوكيات وحياة العلماء وملاحظة ما يقومون به خلال ‏قيامهم بالبحث العلمي، إن هنالك بالفعل مجموعة معينة من الصفات التي يشترك العلماء في الكثير منها، بل ‏حتى إن لكل عالم منهم طابع وميل عقلي معين يميزه عن غيره من العلماء بصورة جزئية لا كلية.‏

ومن هذه المزايا، الروح النقدية، والنزاهة، فضلا عن الموضوعية والحياد التي تعني أن يكون هدف العالم ‏بلوغ الحقيقة، مهما كانت طبيعتها ولو تعارض ذلك مع معتقداته ومصالحه ونوازعه الذاتية والشخصية، إلى ‏غير ذلك من الصفات.‏

وأما في تصور نيتشه، فيتميز العلماء بصفة مهمة سبق أن بينا إنها ملازمة للعلم، ألا وهي صفة الشك، حيث ‏كان نيتشه يؤكد على أهمية الشك، ويصف النفوس العظيمة به، ويرى ـ في صورة مبالغة نوعا ما ـ أن ‏الشكاكين هم النمط المحترم في تاريخ الفلسفة، وهو يرى أن هذه الصفة ملازمة للعلماء حيث يظهر رجل ‏العلم لديه بعض الارتياب، بل الأمر أكثر من ذلك، فهو يجد أن العلماء جميعهم ارتيابيون لدرجة عدم قبولهم ‏بأي حقيقة إلا بعد التجريب والفحص والمساءلة، بحيث تكون القاعدة، كما يوجهها زرادشت نيتشه للآخرين، ‏هي أن لا تقبلوا شيئا دون احتراس.‏

وطبقا لذلك يعد نيتشه الإنسان الذي يتقبل كل شيء ويقتنع به ليس إنسانا علميا، وقد عبر عن ذلك بقوله "إن ‏الإنسان ذو القناعات ليس إنسان الفكر العلمي" الذي لا يمكن أن يقبل أو يقتنع بسهولة بأي حقيقة، فالروح ‏العلمية التي يجب أن تتواجد في الإنسان العلمي تجعله مائلا نحو الشك شيئا ما.‏

ويعتقد نيتشه، في سياق الحديث عن سمة أخرى للعلماء، إن لهؤلاء العلماء مهارتهم ولأناملهم لباقتها، في ‏إشارة صريحة إلى حرفيتهم ودقة عملهم حيث يبدون كالساعات، إذا ما أحكم ربط رقاصها دلت على سير ‏الزمان وأسمعتك طقطقة خافتة، أو كأنهم "عدة ساعة صغيرة مستقلة تعمل دون كلل أو ملل ما إن تـُعبـّأ ‏جيدا" على حد تعبير نيتشه.‏

ويشير نيتشه إلى أن هولاء العلماء، تحت تأثير أجواء الديمقراطية التي تطالب بالتحرر من كل سيادة، قد ‏أعلنوا انفصالهم عن سلطة الكنيسة التي كانت تحاربهم، وبالتالي أصبحوا بعد ذلك رجال العلم أعداء الكهنة ‏والكنيسة، بينما هذا الامر لم يحصل في العالم العربي الاسلامي إبان نهضته وعصره الذهبي الذي لم يكن فيه ‏علماء الدين يحاربون أهل العلم ورجاله والباحثين في مختبراتهم.‏

ويجب علينا أن نوضح مسألة مهمة قبل الدخول في تفاصيل هجوم نيتشه على العلماء، وهي التي تتعلق في ‏صورة العالم في ذهن نيتشه وكيف كانت ترتسم لديه.

حيث كانت تلك الصورة تتشكل لديه،على هيئة صاحب ‏المهنة، التي آل إليها العلم والعالم في القرن التاسع عشر، والذي أصبح فيه العلم مهنة رسمية بعد أن كان ‏مجرد هواية شخصية.

فعلى الرغم من أنه كان مقتنعا بأن "المهنة هي العمود الفقري للحياة" على حد تعبيره، ‏وأنه كان يصرح بأنه لا يرغب البتة في تعكير صفوة اللذة التي يجدها هؤلاء العاملين في ممارستهم لمهنتهم، ‏إلا أنه كان يرى بأن هنالك جوانب سلبية فيها، فلكل مهنة كما يقول: "ولو كانت منجم ذهب، سماء من ‏الرصاص، تُثقل على الروح وتُثقل وتُثقل إلى أن تجعلها قشرة ملتوية وغريبة تعجز إزاء هذا الأمر"، ولهذا ‏كان نيتشه يصرخ قائلا: "بأنك لن تكون رجل مهنتك إلا بأن تكون ضحيتها... ذاك هو الثمن".‏

ونرى نيتشه يؤكد سمة أخرى للعلماء، فيقول:"إن مقدرة علمائنا الجهابذة ومثابرتهم الذاتية ودماغهم الذي ‏يفور ويغلي آناء الليل وأطراف النهار يفضي بهم إلى التغاضي المقصود عن بداهة عدد من الأمور"، بحيث ‏يكون علم العالم مقتصرا على مجال حقله الذي كرس لأجله وقته. ‏

إن نيتشه يوصم المتخصص بعلم ما بأنه حيوان فظيع في حقل المعرفة والذي يبحث لأنه "قد أمُر بذلك، أو ‏لأن آخرون قد فعلوا ذلك من قبله"، مما يعني أن رجل العلم أو المتخصص، هو مجرد أداة، وليس له بعد أي ‏حرية في اتخاذ المواقف.

فهو مرآة وليس غاية في ذاته، متعود على الرضوخ لكل شي يريد أن يعرف، ومن ‏دون أي لذة غير تلك التي يمنحها له فعل المعرفة، ولما كان رجل العلم كذلك فهذا يستتبع حتما أن يتسم ‏بالموضوعية، ويزعم البحث والتنقيب بمنأى عن منازعه الشخصية وذاتيتة الفردية.

ويرا نيتشه أن العلماء، ‏بسبب الموضوعية، يفتقرون إلى الشخصية والإرادة، حيث يصبح رجل العلم "إنسان بلا ذات ولا محتوى ولا ‏مغزى"، في صورة فاحشة الانتقاص من صورة العالم لدى نيتشه الذي لم يكتف بذلك، بل أضاف بأن هؤلاء ‏العلماء يهربون من ذاتهم، ولا يستطيعون مجابهة تناقضات ومآسي العالم بكل حزم، فهم من نوع الإنسان ‏الذي لا يستطيع أن يقف بوجه الوجود ويرفض أن يكون فردا واحدا يمتلك ذاتا مسؤولة قادرة على أن تضفي ‏معنى وتأويلا معينا على الواقع الذي تحيا فيه، بدلا من أن تبقى حائرة ضعيفة هزيلة بسبب العلم الذي تبنته ‏والذي أصبح بامتياز بسبب ذلك وسيلة لتدويخ الذات.‏

هؤلاء العلماء -في رأي نيتشه - لم يكفوا عن مغازلة ثقافة هرمة شائخة بحيث هم أنفسهم قد أصبحوا ‏شائخين، ضامرين محنطين بفعل استخدامهم طريقا بليدا عفى عليه الزمن، في إشارة إلى أنهم أسرى الماضي ‏وضحايا الطرق العقيمة الذي لايجدي الرجوع لها في رأي نيتشه.‏

ويستمر نيتشه في هجومه القاسي على العلماء فيشير إلى أن العلم يرجع إلى نوع ضعيف من الرجال، قد ‏فقدوا القدرة على التفكير "لأن رجل العلم الذي لا يقوم سوى بتقليب الكتب سوف يفقد ـ كما يقول نيتشه ـ ‏مع الوقت القدرة على التفكير بصورة مستقلة".

بل هو يعتبر أن القراءة والبقاء في البيت هي إحدى مشكلات ‏العالم، فالكتاب لا يمكن أن تكون له قيمة، في حد ذاته، من جهة، ولا للفعل الممارس عليه، أي القراءة، من ‏جهة ثانية، بل تكمن القيمة وتنبثق في الفضاء التأويلي، حيث يجعلنا الكتاب وفعل القراءة نتحرك فيه ونتجول ‏بين أركانه.

وقد صاغ نيتشه هذه الفكرة المبشرة في تساؤله المهم الذي قال فيه: "ما قيمة كتاب لا يعرف ‏حتى أن يحملنا إلى أبعد من كل الكتب" وقد أعلنها، على لسان زرادشت، في صورة أخرى حينما صرح ‏ببغضه وكراهيته "كل قارئ كسول لا يخدم القراءة بشيء، وإذا مر قرن آخر على طغمة القارئين فلا بد من ‏أن تتصاعد روائح النتن من التفكير".

بل إن المسألة أكبر في ذهن نيتشه، حيث يذهب إلى أن "قراءة المرء ‏كتابا في الصباح الباكر، عند طلوع النهار في لحظة الطراوة والتوهج؛ فسادا ورذيلة".‏

وما دمنا وصلنا إلى نقطة الرذيلة والفساد فإن نيتشه يعتقد، لذلك، أن رجل العلم كائن متدهور، من ضرب ‏بشري عامي يتمتع بفضائل الضرب العامي الذي ليس سيدا ولا متسلطا ولا مكتفيا بذاته أيضا، مما جعله ـ ‏في ذهن نيتشه ـ مؤهلا لأن يكون عبدا، من جهتين، الأولى تكمن في خضوعه للموضوع الذي يتناوله ‏واستجابته للشروط التي يمليها عليه ذلك الموضوع.

ومن جهة ثانية فهو عبد انطلاقا من مفاهيم التدهور ‏والانحطاط الخاصة بنيتشه والتي عكست نفسها على رجل العلم، حيث إن الأخير أصبح مرآة للقرن الذي ‏عاش فيه نيتشه والذي وصفه بأنه "عصر الجماهير"، "العامي جدا"، مع العلم أن نيتشه يستدرك على ‏وصمه رجل العلم بكونه عبدا بقوله: "إنه بلا شك أسمى أنواع العبيد".‏

وبالرغم من أن نيتشه يرى أن الرجل العلمي هو المرحلة المتطورة من الرجل الفنان، إلا أنه يحاول من ناحية ‏أخرى أن يضع الفنان قبالة العالم الذي لم يعد يكتشف كذب المفاهيم.

في حين أن الفنان يعرف خداع ‏التحديدات جميعها وحتى خداع المجازات، بحيث أنه أصبح يمثل نمط إنسان يفوق رجل المنطق ورجل العلم، ‏وعندما نقارن رجل العلم بالفنان فإن مظهر الرجل العلمي يكون علامة من علامات كبح وانخفاض في ‏مستوى الحياة ومستوى القدرة والقسوة والشدة. ‏

ويختم نيتشه نقده وتهكمه على رجل العلم في التعرض إلى غريزة المعرفة التي يزعم رجل العلم امتلاكها، ‏حيث يبين نيتشه:‏
‏* إن الرغبة في المعرفة بذاتها هي وهم، بل هي "آخر شرك تنصبه الأخلاق، به يقع المرء مرة أخرى ‏فريستها" على حد تعبيره.‏

‏* إن رجل العلم لا يرتبط بالمعرفة بصورة كلية، بل إنه يُكرس نفسه لجزء منها في زاويته التي يتدرب فيها، ‏حيث العلماء هنالك وحيدين "بعيدين عن العالم، متواضعين قانعين بزاويتهم الصغيرة المنعزلة" كما يقول ‏نيتشه.‏

‏* ثم يؤكد نيتشه أخيرا أن ما يسمى الرغبة في المعرفة ترجع في الحقيقة إلى الرغبة في الاستحواذ ‏والاستيلاء، وذلك يعني إن العلماء بادعائهم الرغبة بالمعرفة لذاتها، إن لم يكونوا يكذبون، فإنهم يبحثون عن ‏القوة والسيطرة على العالم والناس عبر هذا الحافز الطبيعي للتحكم والاستحواذ الذي هو مظهر من مظاهر ‏إرادة القوة.‏

ولهذا لاعجب أن نرى نيتشه يذم العلماء، ويقلل من قيمتهم، وينتقص من سلوكياتهم بصورة مهينة، فلايعتبرهم ‏عباقرة بل "مطلوسو عقل"، و"لا نفع فيهم للنسوة"!، ويستطيع فضلا عن ذلك - الواحد منا- كما يقول ‏فريدريك نيتشه: "أن يجرحهم في الصميم".‏

وهكذا يعد نقد نيتشه اللاذع للعالم، وتهكمه بشخصيته، وسخريته بذاته الذي وصل إلى حد يبدو - من وجهة ‏نظري- مثيرا للاستغراب، جزءا من موقف نيتشه النقدي من العلم في عصره، وذلك من خلال نقده لصانعي ‏العلم أو رجال العلم الذين كان العلم نتيجة منطقية وطبيعية لأبحاثهم المختبرية ونشاطاتهم الفكرية وأعمالهم ‏الذهنية التي استفادت البشرية منها بشكل كبير.‏

ويبدو أن نيتشه كان أحادي الجانب وضيق الأفق ومحدود التحليل إلى حد كبير بحيث نراه ينظر إلى جوانب ‏العلم السلبية فقط دون الجوانب الايجابية الأخرى التي أفادت البشرية أيما فائدة، مع العلم أنه يعترف -في ‏بعض النصوص- بفوائد العلم البرغماتية بالنسبة للإنسان، مما يؤكد ما بيناه في رسالة الماجستير من حقيقة ‏ان لنيتشه موقفا متناقضا ومزدوجا بشأن جميع القضايا التي طرحها خلال مسيرته الفكرية.‏

مهند حبيب السماوي

المصدر: العرب أون لاين

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...