نيتشة يضع العلماء تحت مبضع النقد
من الأمور التي، نعدها بديهية في المنطق الفكري لأي فيلسوف أو لاهوتي أو متخصص في أي علم ما، هي أن يكون لكل واحد من هذه الكيانات المذكورة صفات معينة، وخصائص عامة، يمكن أن ترسم لنا صورة متكاملة عن ماهية كل منهم، وطبيعة سلوكياتهم، وما ترافقهم من مزايا إيجابية أو مثالب سلبية تشكل بالتالي لدينا فضاء أو مجال تتحرك ضمن حدود عناصره كل الكيانات التي تنتمي إليه بحيث يصبح "لكل واحد ماله" على حد تعبير نيتشه، مع الأخذ بنظر الاعتبار وجود حالات شاذة تخرج عن القاعدة ولا تدخل ضمن التصور العام للفلاسفة أو للعلماء، مثلا، الذين وضعت خصائصهم تحت إطار ما.
ولا ريب بأن العصر الحديث قد شهد تطورا ملحوظا في العلم وخصوصا العلم الطبيعي، فنلاحظ أن العلم في القرن التاسع عشر- الذي كان من "أكثر الأزمنة حماسة"، كما يصفه نيتشه- قد أصبح يكبر كل يوم أكثر فأكثر، بحيث قد عرف تغيرا كبيرا في مجال العلوم عكس بصورة لا تدع مجالا للشك، التقدم المطرد لمسيرة العلم والذي بدأ منذ قرون عديدة.
وقد حدث هذا التطور والتقدم العلمي، الذي وسم القرن التاسع عشر بسمته، على يد طائفة من المفكرين الذين يطلق عليهم اسم العلماء، الذين قاموا بتطوير العلم الطبيعي الذي يعدّ مظهرا مهما للتفكير العلمي الرفيع والبحث المنظم، مما أدى إلى ميلاد التصور المادي للكون، متجسدا في التأويل الميكانيكي للعالم الذي عدّه نيتشه حتى القرن التاسع عشر من "أهم التأويلات الموجودة في الطبيعة".
ونحن في حقيقة الأمر يمكن أن نجد عدة خصائص عامة مشتركة بين العلماء نستطيع أن نطلق عليها تعبير شخصية العالم، حيث يبدو لنا أنه من خلال استقراء سلوكيات وحياة العلماء وملاحظة ما يقومون به خلال قيامهم بالبحث العلمي، إن هنالك بالفعل مجموعة معينة من الصفات التي يشترك العلماء في الكثير منها، بل حتى إن لكل عالم منهم طابع وميل عقلي معين يميزه عن غيره من العلماء بصورة جزئية لا كلية.
ومن هذه المزايا، الروح النقدية، والنزاهة، فضلا عن الموضوعية والحياد التي تعني أن يكون هدف العالم بلوغ الحقيقة، مهما كانت طبيعتها ولو تعارض ذلك مع معتقداته ومصالحه ونوازعه الذاتية والشخصية، إلى غير ذلك من الصفات.
وأما في تصور نيتشه، فيتميز العلماء بصفة مهمة سبق أن بينا إنها ملازمة للعلم، ألا وهي صفة الشك، حيث كان نيتشه يؤكد على أهمية الشك، ويصف النفوس العظيمة به، ويرى ـ في صورة مبالغة نوعا ما ـ أن الشكاكين هم النمط المحترم في تاريخ الفلسفة، وهو يرى أن هذه الصفة ملازمة للعلماء حيث يظهر رجل العلم لديه بعض الارتياب، بل الأمر أكثر من ذلك، فهو يجد أن العلماء جميعهم ارتيابيون لدرجة عدم قبولهم بأي حقيقة إلا بعد التجريب والفحص والمساءلة، بحيث تكون القاعدة، كما يوجهها زرادشت نيتشه للآخرين، هي أن لا تقبلوا شيئا دون احتراس.
وطبقا لذلك يعد نيتشه الإنسان الذي يتقبل كل شيء ويقتنع به ليس إنسانا علميا، وقد عبر عن ذلك بقوله "إن الإنسان ذو القناعات ليس إنسان الفكر العلمي" الذي لا يمكن أن يقبل أو يقتنع بسهولة بأي حقيقة، فالروح العلمية التي يجب أن تتواجد في الإنسان العلمي تجعله مائلا نحو الشك شيئا ما.
ويعتقد نيتشه، في سياق الحديث عن سمة أخرى للعلماء، إن لهؤلاء العلماء مهارتهم ولأناملهم لباقتها، في إشارة صريحة إلى حرفيتهم ودقة عملهم حيث يبدون كالساعات، إذا ما أحكم ربط رقاصها دلت على سير الزمان وأسمعتك طقطقة خافتة، أو كأنهم "عدة ساعة صغيرة مستقلة تعمل دون كلل أو ملل ما إن تـُعبـّأ جيدا" على حد تعبير نيتشه.
ويشير نيتشه إلى أن هولاء العلماء، تحت تأثير أجواء الديمقراطية التي تطالب بالتحرر من كل سيادة، قد أعلنوا انفصالهم عن سلطة الكنيسة التي كانت تحاربهم، وبالتالي أصبحوا بعد ذلك رجال العلم أعداء الكهنة والكنيسة، بينما هذا الامر لم يحصل في العالم العربي الاسلامي إبان نهضته وعصره الذهبي الذي لم يكن فيه علماء الدين يحاربون أهل العلم ورجاله والباحثين في مختبراتهم.
ويجب علينا أن نوضح مسألة مهمة قبل الدخول في تفاصيل هجوم نيتشه على العلماء، وهي التي تتعلق في صورة العالم في ذهن نيتشه وكيف كانت ترتسم لديه.
حيث كانت تلك الصورة تتشكل لديه،على هيئة صاحب المهنة، التي آل إليها العلم والعالم في القرن التاسع عشر، والذي أصبح فيه العلم مهنة رسمية بعد أن كان مجرد هواية شخصية.
فعلى الرغم من أنه كان مقتنعا بأن "المهنة هي العمود الفقري للحياة" على حد تعبيره، وأنه كان يصرح بأنه لا يرغب البتة في تعكير صفوة اللذة التي يجدها هؤلاء العاملين في ممارستهم لمهنتهم، إلا أنه كان يرى بأن هنالك جوانب سلبية فيها، فلكل مهنة كما يقول: "ولو كانت منجم ذهب، سماء من الرصاص، تُثقل على الروح وتُثقل وتُثقل إلى أن تجعلها قشرة ملتوية وغريبة تعجز إزاء هذا الأمر"، ولهذا كان نيتشه يصرخ قائلا: "بأنك لن تكون رجل مهنتك إلا بأن تكون ضحيتها... ذاك هو الثمن".
ونرى نيتشه يؤكد سمة أخرى للعلماء، فيقول:"إن مقدرة علمائنا الجهابذة ومثابرتهم الذاتية ودماغهم الذي يفور ويغلي آناء الليل وأطراف النهار يفضي بهم إلى التغاضي المقصود عن بداهة عدد من الأمور"، بحيث يكون علم العالم مقتصرا على مجال حقله الذي كرس لأجله وقته.
إن نيتشه يوصم المتخصص بعلم ما بأنه حيوان فظيع في حقل المعرفة والذي يبحث لأنه "قد أمُر بذلك، أو لأن آخرون قد فعلوا ذلك من قبله"، مما يعني أن رجل العلم أو المتخصص، هو مجرد أداة، وليس له بعد أي حرية في اتخاذ المواقف.
فهو مرآة وليس غاية في ذاته، متعود على الرضوخ لكل شي يريد أن يعرف، ومن دون أي لذة غير تلك التي يمنحها له فعل المعرفة، ولما كان رجل العلم كذلك فهذا يستتبع حتما أن يتسم بالموضوعية، ويزعم البحث والتنقيب بمنأى عن منازعه الشخصية وذاتيتة الفردية.
ويرا نيتشه أن العلماء، بسبب الموضوعية، يفتقرون إلى الشخصية والإرادة، حيث يصبح رجل العلم "إنسان بلا ذات ولا محتوى ولا مغزى"، في صورة فاحشة الانتقاص من صورة العالم لدى نيتشه الذي لم يكتف بذلك، بل أضاف بأن هؤلاء العلماء يهربون من ذاتهم، ولا يستطيعون مجابهة تناقضات ومآسي العالم بكل حزم، فهم من نوع الإنسان الذي لا يستطيع أن يقف بوجه الوجود ويرفض أن يكون فردا واحدا يمتلك ذاتا مسؤولة قادرة على أن تضفي معنى وتأويلا معينا على الواقع الذي تحيا فيه، بدلا من أن تبقى حائرة ضعيفة هزيلة بسبب العلم الذي تبنته والذي أصبح بامتياز بسبب ذلك وسيلة لتدويخ الذات.
هؤلاء العلماء -في رأي نيتشه - لم يكفوا عن مغازلة ثقافة هرمة شائخة بحيث هم أنفسهم قد أصبحوا شائخين، ضامرين محنطين بفعل استخدامهم طريقا بليدا عفى عليه الزمن، في إشارة إلى أنهم أسرى الماضي وضحايا الطرق العقيمة الذي لايجدي الرجوع لها في رأي نيتشه.
ويستمر نيتشه في هجومه القاسي على العلماء فيشير إلى أن العلم يرجع إلى نوع ضعيف من الرجال، قد فقدوا القدرة على التفكير "لأن رجل العلم الذي لا يقوم سوى بتقليب الكتب سوف يفقد ـ كما يقول نيتشه ـ مع الوقت القدرة على التفكير بصورة مستقلة".
بل هو يعتبر أن القراءة والبقاء في البيت هي إحدى مشكلات العالم، فالكتاب لا يمكن أن تكون له قيمة، في حد ذاته، من جهة، ولا للفعل الممارس عليه، أي القراءة، من جهة ثانية، بل تكمن القيمة وتنبثق في الفضاء التأويلي، حيث يجعلنا الكتاب وفعل القراءة نتحرك فيه ونتجول بين أركانه.
وقد صاغ نيتشه هذه الفكرة المبشرة في تساؤله المهم الذي قال فيه: "ما قيمة كتاب لا يعرف حتى أن يحملنا إلى أبعد من كل الكتب" وقد أعلنها، على لسان زرادشت، في صورة أخرى حينما صرح ببغضه وكراهيته "كل قارئ كسول لا يخدم القراءة بشيء، وإذا مر قرن آخر على طغمة القارئين فلا بد من أن تتصاعد روائح النتن من التفكير".
بل إن المسألة أكبر في ذهن نيتشه، حيث يذهب إلى أن "قراءة المرء كتابا في الصباح الباكر، عند طلوع النهار في لحظة الطراوة والتوهج؛ فسادا ورذيلة".
وما دمنا وصلنا إلى نقطة الرذيلة والفساد فإن نيتشه يعتقد، لذلك، أن رجل العلم كائن متدهور، من ضرب بشري عامي يتمتع بفضائل الضرب العامي الذي ليس سيدا ولا متسلطا ولا مكتفيا بذاته أيضا، مما جعله ـ في ذهن نيتشه ـ مؤهلا لأن يكون عبدا، من جهتين، الأولى تكمن في خضوعه للموضوع الذي يتناوله واستجابته للشروط التي يمليها عليه ذلك الموضوع.
ومن جهة ثانية فهو عبد انطلاقا من مفاهيم التدهور والانحطاط الخاصة بنيتشه والتي عكست نفسها على رجل العلم، حيث إن الأخير أصبح مرآة للقرن الذي عاش فيه نيتشه والذي وصفه بأنه "عصر الجماهير"، "العامي جدا"، مع العلم أن نيتشه يستدرك على وصمه رجل العلم بكونه عبدا بقوله: "إنه بلا شك أسمى أنواع العبيد".
وبالرغم من أن نيتشه يرى أن الرجل العلمي هو المرحلة المتطورة من الرجل الفنان، إلا أنه يحاول من ناحية أخرى أن يضع الفنان قبالة العالم الذي لم يعد يكتشف كذب المفاهيم.
في حين أن الفنان يعرف خداع التحديدات جميعها وحتى خداع المجازات، بحيث أنه أصبح يمثل نمط إنسان يفوق رجل المنطق ورجل العلم، وعندما نقارن رجل العلم بالفنان فإن مظهر الرجل العلمي يكون علامة من علامات كبح وانخفاض في مستوى الحياة ومستوى القدرة والقسوة والشدة.
ويختم نيتشه نقده وتهكمه على رجل العلم في التعرض إلى غريزة المعرفة التي يزعم رجل العلم امتلاكها، حيث يبين نيتشه:
* إن الرغبة في المعرفة بذاتها هي وهم، بل هي "آخر شرك تنصبه الأخلاق، به يقع المرء مرة أخرى فريستها" على حد تعبيره.
* إن رجل العلم لا يرتبط بالمعرفة بصورة كلية، بل إنه يُكرس نفسه لجزء منها في زاويته التي يتدرب فيها، حيث العلماء هنالك وحيدين "بعيدين عن العالم، متواضعين قانعين بزاويتهم الصغيرة المنعزلة" كما يقول نيتشه.
* ثم يؤكد نيتشه أخيرا أن ما يسمى الرغبة في المعرفة ترجع في الحقيقة إلى الرغبة في الاستحواذ والاستيلاء، وذلك يعني إن العلماء بادعائهم الرغبة بالمعرفة لذاتها، إن لم يكونوا يكذبون، فإنهم يبحثون عن القوة والسيطرة على العالم والناس عبر هذا الحافز الطبيعي للتحكم والاستحواذ الذي هو مظهر من مظاهر إرادة القوة.
ولهذا لاعجب أن نرى نيتشه يذم العلماء، ويقلل من قيمتهم، وينتقص من سلوكياتهم بصورة مهينة، فلايعتبرهم عباقرة بل "مطلوسو عقل"، و"لا نفع فيهم للنسوة"!، ويستطيع فضلا عن ذلك - الواحد منا- كما يقول فريدريك نيتشه: "أن يجرحهم في الصميم".
وهكذا يعد نقد نيتشه اللاذع للعالم، وتهكمه بشخصيته، وسخريته بذاته الذي وصل إلى حد يبدو - من وجهة نظري- مثيرا للاستغراب، جزءا من موقف نيتشه النقدي من العلم في عصره، وذلك من خلال نقده لصانعي العلم أو رجال العلم الذين كان العلم نتيجة منطقية وطبيعية لأبحاثهم المختبرية ونشاطاتهم الفكرية وأعمالهم الذهنية التي استفادت البشرية منها بشكل كبير.
ويبدو أن نيتشه كان أحادي الجانب وضيق الأفق ومحدود التحليل إلى حد كبير بحيث نراه ينظر إلى جوانب العلم السلبية فقط دون الجوانب الايجابية الأخرى التي أفادت البشرية أيما فائدة، مع العلم أنه يعترف -في بعض النصوص- بفوائد العلم البرغماتية بالنسبة للإنسان، مما يؤكد ما بيناه في رسالة الماجستير من حقيقة ان لنيتشه موقفا متناقضا ومزدوجا بشأن جميع القضايا التي طرحها خلال مسيرته الفكرية.
مهند حبيب السماوي
المصدر: العرب أون لاين
إضافة تعليق جديد