نوبل الآداب لهيرتا مولر الروائية/ الشاعرة الرومانية/ الألمانية

09-10-2009

نوبل الآداب لهيرتا مولر الروائية/ الشاعرة الرومانية/ الألمانية

الحياة اليومية للمقتلعين والمنشقين في أزمنة التحجر الاستبدادي

خلافا لجميع التوقعات ـ (وحده الكاتب والناقد الفرنسي في صحيفة «لوموند»، بيير أسولين، طرح اسمها، قبل يومين كمرشحة حقيقية، في مدونته الإلكترونية) ـ التي احتدّت قبل أيام من إعلانها، (من قبل اللجنة الملكية السويالحياة اليومية للمقتلعين والمنشقين في أزمنة التحجر الاستبداديدية)، والتي تناولت العديد من الأسماء، ذهبت جائزة نوبل للآداب لهذا العام (2009) إلى الكاتبة «الرومانية»، التي تكتب بالألمانية، هيرتا مولر لأنها ـ وفق بيان الجائزة - «عكست حياة المحرومين، من خلال تركيز الشعر وموضوعية النثر، لترسم بهما المناظر المهملة».
جملة غامضة بعض الشيء، لكنها تخبرنا عن نشاطيّ الكاتبة كما عن الخلفية الآتية منها: هي إذا شاعرة وروائية، مثلما هي واحدة من تلك الرومانيين الذين يكتبون بالألمانية (لنتذكر الشاعر الكبير باول تسيلان). في الواقع، تنحدر هيرتا مولر من الأقلية التي تنتمي إلى «الجالية» الجرمانية في رومانيا حيث ولدت في العام 1953، وقد عاشت هناك لغاية عامها الرابع والثلاثين، من دون أن ننسى بالتأكيد «تعرضها إلى الرقابة الشيوعية» زمن تشاوسيسكو، إذ كانت مقربة من مجموعة كُتّاب «جرمافونيين» (يكتبون بالألمانية) اعتبرهم النظام يومها أنهم يشكلون «خميرة المعارضة».
II
تشكلت مجموعة «l’Aktionsgruppe Banat» (مجموعة العمل في بانات) في النصف الثاني من ستينيات القرن المنصرم، بعد أن شهد نظام تشاوسيسكو انفتاحا صغيرا على السياسة الخارجية كما على العمل الثقافي. في هذا الجوّ الذي بدا «ليبيراليا» بعض الشيء، استطاعت مجموعة من الكُتّاب الشبان الذين يكتبون باللغة الألمانية، أن تؤسس «مجموعة العمل في بانات»، لكن سرعان ما أدرك أعضاؤها، أن النظام لا يرغب في مسامحة أيّ تعبير أو تفكير حرّ. من هنا، أصبح هؤلاء الكُتّاب – النقاد، موضع شبهة، وتحت مراقبة البوليس السياسي، حيث تعرضوا للضغوطات والابتزاز والتهديد، كما مُنعوا من النشر، لتحلّ المجموعة نفسها في نهاية الأمر. ضمّت المجموعة يومها كتابا مثل «ورنر سولنر» (Werner Söllner) و«ريتشارد فاغنر» (Richard Wagner) و«إرنست فيشنر» (Ernst Wichner) بالإضافة إلى بعض كتاب ترانسلفانيا (الذين يكتبون بالألمانية أيضا) كان أبرزهم فرنتز هودجاك (Franz Hodjak). صحيح أن مولر لم تكن قد نشرت أيّ كتاب، في تلك الفترة، لكنها اقتربت منهم كثيرا وهي تتذكر تلك المرحلة بالقول: «كانت تلك المجموعة ناشطة جدا، لكنها لم تعمّر طويلا. لم أكن قد كتبت بعد في تلك الفترة، إلا أنني كنت قريبة من بعض أعضائها وأقاسمهم مفاهيمهم الأدبية، ومواقفهم السياسية. استطاع البوليس السياسي أن يتسّرب إلى داخلها، ليحلها، وليبعد أفرادها الذين تأثروا بهذا الأمر، إلى مراكز متفرقة، حيث عاش كل واحد منا في مكان يبعد كثيرا عن الآخر. بعد افتراقنا عاش كل واحد منا، بطريقة مختلفة، حتى أن البعض استنكروا التزاماتهم السابقة، ربما بسبب الانتهازية. منذ بداية وجودها، اعتبر النظام هذه المجموعة بمثابة «خميرة المعارضة» في حين أنها لم تتبنَّ يوما هذا الموقف. ببساطة كانوا يطالبون بأن يكون الأدب لنقد الحياة اليومية بشكل واضح كما أن يكون عامل تغيير في المجتمع. أضف إلى ذلك كله، لا بدّ أن نضيف بالطبع تلك المواجهة الدائمة مع الجيل الأسبق، الذين كان كتاب جيلي يأخذون عليه مأخذ عدم تحليه بالروح النقدية كما خضوعه السهل للإيديولوجيات المهيمنة».
أمام ذلك، اختارت المنفى في العام 1987، لتذهب إلى «ألمانيا الغربية»، وهي تعيش اليوم في برلين. لكن هذا المنفى، لم يدم طويلا، إذ بعد سنتين انهار الجدار، و«انتهى تاريخ» ومعه انتهت العديد من الأقاصيص على أرض الواقع، لكنها لم تنته في الكتب، إذ كثيرون اليوم ممن يكتبون عن تلك الفترة وعن زمن «الرعب» الاشتراكي وما رافقه، ومولر واحدة منهم، إذ غالبية رواياتها، تدور عن ذلك المكان الذي جاءت منه. وبخاصة كتابها النقدي «استيتيقا المقاومة» الذي تتحدث فيه عن أدب آخر الأجيال الرومانية التي كتبت بالألمانية. أدب ولد في العزلة التامة، عن محيطه القريب، وذلك عائد، في الوقت عينه، للسياق اللغوي التاريخي الذي تميز به كما للفراغ السياسي والتاريخي. من هنا حين غادر بعض هؤلاء الكتاب موطنهم الأصلي ليعيشوا في ألمانيا الاتحادية (أو الغربية، وفق تعبير تلك المرحلة) وجدوا أنفسهم داخل تجربة جديدة: تجربة واقع ثقافي مختلف، كما ضمن واقع اجتماعي وسياسي، وحتى ضمن سياق لغوي آخر، على الرغم من أن «لغتهم الأم» هي الألمانية. «إنها ألمانية أقلويتي»، هكذا وصفتها هيرتا مولر في نص لها عائد إلى العام 1988 قبل وقت قليل من إقامتها في برلين الغربية. وتضيف: «لكن ألمانية أقلويتي أصبحت موصولة الآن. هذه الوصلة أصبحت حبلا اليوم. لقد تخلصت منك، أنت حاميتي الآن. فجأة صار وعيي في مكان آخر».
III
ربما من هذه الزاوية نستطيع أن نقول إن اختيار اللجنة لمولر في هذه السنة بالذات، ليس سوى تذكير آخر: تذكيرنا «بوحدة ألمانيا وبوحدة لغتها»، أقصد أنه لا بدّ لنا من أن نلتفت إلى أنه اليوم تصادف الذكرى العشرين لانهيار الجدار، بعد أن كانت اللجنة عينها، قد احتفلت بالذكرى العاشرة، العام 1999، حين منحت نوبل للكاتب الألماني غونتر غراس، وبينهما لا بدّ أن نتذكر إلفريدي يلينيك في العام 2004 (نمساوية، تكتب بالألمانية بطبيعة الحال). وفي الاختيار أيضا، وبعيدا عن مناسبة انهيار المعسكر الاشتراكي، تختار اللجنة شاعرة، إذ كانت الأصوات قد ارتفعت بأنه منذ العام 1996، يوم حصول البولندية فيتسوافا شيمبورسكا على الجائزة، لم يتم تكليل أي شاعر.
لا أعرف إن كان اختيار هيرتا موللر مفاجأة (على الرغم من أن اسمها طرح لمرتين قبلا). قد يقول ذلك كثيرون، وبخاصة إنها لم تكن معروفة من قِبل الجمهور العريض، قبل العام 2000، على الرغم من أن النقد حياها وتحدث عنها في العام 1984، حين أصدرت مجموعة أقاصيص بعنوان «أحياء البؤس»، وهو كتاب نجحت في إخراجه بالسرّ من رومانيا.(صدر كتابها الأول العام 1982).
بعد ذلك توالت كتبها، فأصدرت «الإنسان ذاك المشبوه الكبير على الأرض»، و«الثعلب كان هو نفسه الصياد» – الذي يروي عن الحياة اليومية في بلد توتاليتاري ـ و«حيوان القلب» - الذي يروي عن مجموعة من المنشقين الرومانيين. أما في كتابها «الاستدعاء» فتتحدث عن كرب امرأة وقلقها بعد أن يتم استدعاؤها من قبل «السيكوريتات» (البوليس السياسي في عهد تشاوسيسكو)، روايات «تعطينا عبر تفاصيلها المرصعة والمحفورة، صورة عن الحياة اليومية، في ظل دكتاتورية متحجرة»، مثلما تضيف الأكاديمية السويدية في بيان حيثيات الجائزة. قد تكون إحدى الأفكار الكبيرة التي لا تنفك هيرتا مولر في العودة إليها عبر رواياتها، فكرة الاقتلاع من الأرض، كما مسألة اللغة. توصف رواياتها عادة، بأنها تستوحي الكثير من سيرتها الذاتية، لكنها تعرف من خلال ذلك، كيف تعبر إلى توصيف الحياة اليومية في رومانيا زمن الحقبة الدكتاتورية، كما مواقف المنشقين وحيواتهم، بالإضافة إلى المواقف الميكافيالية التي انتهجتها أجهزة الأمن الدافعة إلى الذل في سياق سياسات تلك الفترة.
صحيح أن نوبل هي أهم الجوائز الأدبية التي يمكن للكاتب أن يحصل عليها إلا أنها لم تكن الأولى، إذ حازت العديد من الجوائز الأدبية المهمة من بينها «ريكاردا هاتش» و«كلايست» و«جوزف بريتباخ» و«الإيمباك دبلن» و«ليتيريري أوارد».
IV
ولدت هيرتا مولر في 17 آب من العام 1953 في نيتشيدورف (Nitchidorf)، بالقرب من «تيميزوارا (Timisoara) في مقاطعة «بانات» (Banat) «الأسطورية» وهي المنطقة الجرمانية التي تمتدّ بين غرب وجنوب غرب رومانيا. هيرتا مولر حفيدة مزارع كبير وابنه تاجر ميسور الحال قبل أن تصادر أملاكه من قبل الشيوعيين، أما والدتها فقد رحلت إلى أحد مخيمات العمل الإجباري في الاتحاد السوفياتي (السابق). درست الألمانية والأدب الروماني في تيميزوارا، قبل أن تعمل كمترجمة في أحد مصانع المدينة (معمل تصنيع سيارات) لتعفى من مهامها العام 1979 لرفضها التعاون مع «السيكوريتات»، لتكسب عيشها بإعطاء دروس خصوصية في اللغة الألمانية.
مضت أكثر من عشرين سنة منذ أن غادرت مولر مسقط رأسها، إلا أنها تستمر لغاية اليوم بالكتابة عن تجربتها في رومانيا، والسبب في ذلك كما تقول: «في ما يخصني، فإن التجربة الأساسية التي عرفتها في حياتي، كانت في رومانيا تحت الدكتاتورية. من هنا لا يمكن لواقع أنني أعيش على بعد مئات الكيلومترات من رومانيا أن يجعلني أنسى ما عشته هناك. حين رحلت، حملت ماضيّ معي وعلي أن أضيف، برغم أنني في ألمانيا إلا أن الخوف من الدكتاتورية لا يزال موجودا». وتضيف الكاتبة التي تعتبر واحدة من كبار كاتبات ألمانيا المعاصرات، في أحد حواراتها الصحافية، أن الحاجة إلى الكتابة تولدت عندها في ظل الدكتاتورية، تقول: «توجب عليّ تعلم العيش وأنا أكتب، لا على العكس من ذلك. رغبت في العيش على مستوى ارتفاع أحلامي، هذا كل ما في الأمر. من هنا شكلت الكتابة بالنسبة إليّ طريقة للتعبير عمّا لم أستطع عيشه في الواقع». كذلك كانت اللغة الرومانية، بالنسبة إليها، «لغة غريبة»، إذ تصف هذا الأمر بالقول: «في القرية التي نشأت فيها، لم يكن هناك من رومانيين، باستثناء بعض الموظفين الحكوميين، أما باقي السكان فكانوا من الألمان. لم أتعلم اللغة الرومانية إلى حين دخلت إلى المدرسة، تعلمتها مثلما نتعلّم لغة أجنبية عنا».
V
من كتب هيرتا مولر الأخيرة، مجموعة شعرية بعنوان «في جديلة الشعر تسكن امرأة».. وتصفه بأنه «شعر – كولاج»، وتقصد بذلك أنها قطعت من الصحف العديد من الكلمات وأعادت تجميعها على هواها. بدأت مولر بالاهتمام بالشعر - الكولاج منذ عشر سنوات. جاءتها الفكرة ذات يوم وهي في عطلتها السنوية، إذ رأت أنه بدلا من أن ترسل إلى أصدقائها «البطاقات البريدية التافهة» لِمَ لا ترسل إليهم أشياء أخرى مميزة؟ استلت مقصها وبدأت بتقطيع الجمل، لتعيد تركيبها. بهذه الطريقة ولد أول كتاب «شعر – كولاج» عندها، العام 2005، ليحمل عنوان «أين هو، إنه ليس إيون». الغريب في الأمر أن هذا «الكتاب» جاء باللغة الرومانية، وهي تتحدث عن ذلك بالقول: «أنا سعيدة جدا بأن كولاجاتي نجحت باللغة الرومانية. لقد كان الأمر رائعاً.. قطعت الكلمات بالمقص وشعرت بأن اللغة تساعدني. كان هذا حسابي الأول الذي توجب عليّ تصفيته مع اللغة الرومانية. ومع ذلك لا استطيع أبدا أن أكتب باللغة الرومانية. الأمر مختلف حين تكون الكلمات في متناول يدي. أستطيع أن أدرك كل هذا المحتوى غير المحسوس، المعاني الخبيئة في داخله. لا أتحدث سوى رومانية الناس العاديين. إن أجمل جزء من اللغة الرومانية هي اللغة اليومية التي تعلمتها في المصنع حيث عملت. يسألونني اليوم ما الذي تعلمته من الطليعة، وأجيب بأنني لم أتعلم سوى الأغاني التراثية. حين استمعت للمرة الأولى إلى ماريا تاناس، بدت لي أمرا خرافيا، وللمرة الأولى فهمت أن ذلك يدعى الفولكــلور. إن الفولكلور الروماني مرتبط بالوجود، بينما الفولكلور الألماني لا يعني لي أي شيء».
VI
آخر روايات هيرتا مولر، « Atemschauke» الصادرة منذ فترة قصيرة، تروي لنا فيها عن تلك الحقبة المجهولة جدا عند «الغربيين»، وهي فترة المخيمات السوفياتية التي كانت موجودة في أوكرانيا، والتي رُحّل إليها عشرات الآلاف من المدنيين الرومانيين ذوي الأصل الألماني، في العام 1945. مدنيون تم اعتقالهم، ما إن دخل الجيش الأحمر إلى تلك البلاد في شهر كانون الثاني من العام 1945، ليقضوا ما يقارب الخمس سنوات في السجون السوفياتية. مواطنون منحدرون من الطائفتين الألمانيتين الرئيسيتين في رومانيا وهم «السكسون» (من الطائفة البروتستانتية، وقد استقروا هناك مع بداية القرن الخامس عشر) و«السواب» (من الكاثوليك الذين استقروا هناك في القرن الثالث عشر).
بدون شك، تستوحي هيرتا الرواية هذه من سيرة والدتها، التي كانت من «السواب» وقد تم ترحيلها إلى المخيمات السوفياتية. في اصل هذه الرواية، كانت رغبة من الكاتبة في أن تكتب الرواية، بالاشتراك مع أوسكار باستور، وهو شاعر روماني من أصول ساكسونية، وقد عرف فيما مضى المصير عينه، أي رحل إلى مخيمات التعذيب والعمل الإجباري. لكن غياب باستور منذ سنوات قليلة، دفع مولر إلى كتابة الرواية بمفردها، على شكل تحية إلى هذا الشاعر الروماني. إننا أمام سيرة شاب في السابعة عشرة من عمره، تعرض لتجربة الجوع في المعتقل، لكنه ينجح في تخطي الذل والرعب عبر الشعر. فحين كانت «تتكلم الطبيعة، كانت تساعد السجين».

اسكندر حبش

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...