نظيرة زين الدين رائدة الحركة «النسوية» العربية
شغلت المسألة النسوية حيّزاً في اهتمامات أهل الثقافة والرأي، في الربع الأخير من القرن التاسع عشر والثلث الأول من القرن العشرين، ولا تزال هذه المسألة تطل برأسها بين فترة وأخرى، في هذه المنطقة من العالم، منذ ذلك التاريخ حتى اليوم، فتريق كثيراً من الحبر، وتهرق كثيراً من الكلام، والحبل على الجرّار.
مناسبة هذا الكلام صدور كتاب «نظيرة زين الدين رائدة النسوية الإسلامية» باللغة الإنكليزية، للكاتبة الأميركية ميريام كوك، أستاذة الثقافات العربية في جامعة دوك. والكتاب هو الثلاثون في سلسلة «بناة العالم المسلم» التي تصدرها منشورات «عالم واحد» في أوكسفورد.
يقع الكتاب في مقدمة، وتسعة فصول موزعة على قسمين اثنين، وخلاصة. وتتناول فيه الكاتبة سيرة حياة نظيرة زين الدين الشخصية والثقافية، وانخراطها في مرحلة مبكرة، عمرية وتاريخية، في معركة تحرير المرأة والمطالبة بحقها في الحرية والمساواة، من خلال قضية السفور والحجاب التي كانت ولا تزال تثير قدراً كبيراً من الحساسيات. ولكي تنهض كوك بهذه المهمة، كان عليها أن تخبر قصة عقود مفقودة تمتد بين أواخر العشرينات من القرن العشرين تاريخ صدور كتابي نظيرة «السفور والحجاب» 1928 و «الفتاة والشيوخ» 1929، وبين أواخر السبعينات من القرن نفسه تاريخ وفاتها في عام 1976. وإخبار هذه القصة دونه عقبات وصعوبات ذكرت المؤلفة بعضها في مقدمة الكتاب.
في المقدمة، تتناول ميريام كوك الصعوبات التي واجهتها، ومنهجية البحث، والمصادر التي استندت إليها، والتحذيرات التي تلقّت. على أن ما يلفت النظر أن كوك حملت مهمتها على محمل الجد؛ فهي لم تؤلف كتابها من وراء مكتب، ولم تكتفِ بقراءة المصادر على قلّتها، بل إنّها تجشّمت مشاقّ السفر الى غير دولة ومدينة، فزارت تركيا ولبنان والكويت وسردينيا لتقابل هذه الشخصية أو تلك، ولتعاين مكاناً محدداً وتتنسّم روحه ما يمنح عملها قدراً كبيراً من الجدية والمصداقية.
وهي في كتابتها سيرة نظيرة زين الدين حرصت على وضعها في السياق الطبيعي، التاريخي والجغرافي، وانطلقت من العام الى الخاص. لذلك، قامت في الفصل الأول بعرض تاريخي متسلسل لحركة النسوية العربية المبكرة كما تمظهرت في: كتابة الرواية (عائشة التيمورية 1888)، تأليف الكتب (قاسم أمين 1899)، تأسيس الصحف والمجلات (الجنان لبطرس البستاني 1870)، المحاولات المبكرة لنزع الحجاب (خالدة أديب اديفار 1915 ونازك العابد بيهم 1920 وهدى شعراوي)، التظاهرة النسائية في مصر ضد إقصاء سعد زغلول عن مؤتمر فرساي 1919، وصولاً الى تأليف نظيرة زين الدين كتابيها آنفي الذكر.
ولعل أفضل تعبير عن هذه النهضة النسوية المبكرة هو إشارة الكاتبة الى أنه «مع نشوب الحرب العالمية الأولى كان هناك غالباً ثلاثون صحيفة مملوكة، محررة ومنشورة على أيدي نساء في القاهرة، بيروت، دمشق، وبغداد.» (ص6)
من الخلفية التاريخية تنتقل كوك الى الخلفية الأسرية لنظيرة، فترصد في الفصل الثاني نشأتها في ظل أب حضاري، مثقف، منفتح، هو سعيد بك زين الدين، وتأخذنا في رحلة تاريخية تتقاطع فيها السيرة الخاصة مع العامة، وتتناول: ولادته، دراسته، المناصب التي تقلّد، ثقافته، زواجه وأولاده، فتح بيته لتعليم الأولاد ومساعدة الناس، علاقاته النخبوية برجال الدين والدولة. ومن العلامات الفارقة في هذه الرحلة: تعيينه أول رئيس لمحكمة الاستئناف في بيروت، وقيامه في عام 1918 بفتح محاكمة جمال باشا ومساعديه، ونيله ميدالية الشرف لجهوده في هذا المجال. على أن مأثرته الكبرى تبقى احتضانه نظيرة، ودعمه لها، وتعليقه الآمال الكبيرة عليها.
هذه النشأة الأسرية الليبرالية تعززها خلفية تربوية مماثلة تتناولها كوك في الفصل الثالث من كتابها، فنتعرف الى المدارس والمعاهد التي أمّتها نظيرة، وهي مدارس راهبات وإرساليات بنت شخصيتها، وأكملت ما بدأه الأب، فعزّزت فيها مهارات التفكير الحر، والعقل النقدي، والجهر بما تعتقده الصواب. غير أن هذا الجو الليبرالي في البيت والمدرسة كان يقابله جو محافظ في الشارع ما جعلها تعيش بين عالمين مختلفين.
وإذ تورد كوك مقتطفات من الحوار الثقافي بين نظيرة وأبيها تحاول أن تردم فجوات هذا الحوار الموثّق بوصف متخيّل لوضعية المتحاورين يتناول الحركات والملامح والمقاعد والمكاتب. ونستنتج معها أن نظيرة مدينة للأب، والأسرة، ولجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وقاسم أمين، ولمعتقدها الدرزي الذي يُعلي سلطة العقل ويحترم المرأة.
لعل الحوارات التي انخرطت فيها زين الدين مع عدد من رجال الدين لا سيما القاضي الشيخ مصطفى الغلاييني شكّلت حافزاً مباشراً لها على وضع كتابها الأول «السفور والحجاب» بين 1927 و1928، وهو ما تتناوله كوك في الفصل الرابع، حيث تبدي نظيرة كفاءة عالية في الحوار تعكس قوة شخصيتها وفرادة تفسيرها للنص الديني، وتقوم بدحض أطروحة الشيخ وتحرّجه وضيق أفقه في معادلته بين السفور والشر، بواسطة الوقائع التاريخية والنص الديني ومقتبسات من كتابه نفسه، لتخلص الى أن بعض الشيوخ هم من يتحمّل مسؤولية حرمان المرأة من حقوقها لا الإسلام ولا الرجال. على أن اللافت للانتباه أن هذا الشيخ وسواه كانوا أبدوا تفهّماً لأطروحة نظيرة حتى إذا ما نشرتها على الملأ في كتاب قلبوا لها ظهر المجن، وجرّدوا عليها الحملات الشعواء.
سجالات نظيرة مع الشيوخ شكّلت المادة الأساسية لكتابها الذي أفردت له كوك الفصل الخامس، وأوردت مقاطع من تلك السجالات، وشذرات من ردود الفعل عليه، وأجزاء من مقابلات صحافية حوله. ويتبيّن من الفصل أن الحرية والمساواة هما الفكرتان المحوريّتان في «السفور والحجاب» تتفرّع عنهما أفكار ومقولات فرعية ناقشتها نظيرة وفنّدتها، لا سيما مقولة أن المرأة ناقصة عقلاً وديناً.
ولعل جرأتها في دفاعها عن المرأة، ونبرتها العالية الساخرة أحياناً، بالإضافة الى رواسب معينة، حدت بالشيخ الغلاييني الى الرد عليها في كتاب يشكّك فيه بأن تكون هي الكاتبة الحقيقية لكتابها، ويعكس حقداً دفيناً وفوقية وتناقضاً وارتباكاً وازدواجية وانتزاعاً للقول من سياقه... ممّا ستقوم نظيرة بتفنيده، بعد أقل من عام على كتاب الغلاييني، في كتاب آخر بعنوان «الفتاة والشيوخ»، وهو ما تتناوله كوك في الفصل السادس من كتابها؛ فتورد مقاطع من ردود نظيرة على عدد من الشيوخ لا سيما الغلاييني الذي ترد على نقده كتابها السابق بمئتي صفحة من كتابها الجديد. ونظيرة تستند في ردودها الى آراء سبق أن أدلى بها أصحابها، ونصوص دينية، وصفحات من كتابها الأول.
في مواجهة عدم نجاح الاستراتيجية التي اعتمدتها نظيرة في كتابيها، تروح كوك تتلمّس في الفصل السابع أسباب عدم النجاح، واستطراداً إخلاد نظيرة الى الصمت، فترجّح أن تكون السخرية، وتسمية الأشياء بأسمائها، ونقد عقم بعض المعاهد، والقدح، والعقلية الذكورية، والانتماء المذهبي لنظيرة هي من بين الأسباب التي أفشلت هذه الاستراتيجية، ناهيك بالمجتمع المحافظ الذي تخاطبه.
وبعد تناول كوك زواج نظيرة وشيخوختها، في الفصلين الثامن والتاسع ممّا يدخل في الحياة الشخصية، تصل الى نتائج تبرز أهمية تلك الرائدة، أبرزها أنها جسرت بين مرحلتين في تطور الفكر النسوي الإسلامي؛ مرحلة الكتابات ما قبل النسائية للمصلحين المصريين والسوريين في نهاية القرن التاسع عشر، ومرحلة الكتابات النسوية الإسلامية في نهاية القرن العشرين، وشكّلت الحلقة المفقودة بين نهايتي قرنين في تاريخ النسوية الإسلامية.
وعليه، تكون ميريام كوك رفعت غبناً تاريخيّاً عن رائدة شجاعة في الدفاع عن قضية المرأة، وقدّمت ما يستحق القراءة والتوقف طويلاً عنده.
سلمان زين الدين
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد